مستقبل إخوان مصر بين رهانات الخارج وثقة الشارع المفقودة!

1452002

لا يمكن بحال، القول إن جماعة بحجم الإخوان المسلمين، وتاريخها، ورصيدها السياسي والاجتماعي، وامتداداتها الإقليمية والدولية، لا تملك خيارات؛ إلا أنه في هذه المرحلة، وعلى مستوى التنظيم في مصر، أو التنظيم الدولي الأم الجامع؛ فإنه، ومن خلال تجارب الحاضر؛ فإن الإخوان المسلمين، كجماعة أو كيان سياسي؛ قد فقدت رهاناتها السياسية والاجتماعية، كلها – تقريبًا – داخليًّا ودوليًّا في الوقت الراهن، بسبب سوء الاختيارات، وليس بسبب قلة عددها.

وهو ليس تجنيًا على الجماعة، ولا طعنًا فيها، فهي في النهاية تُعتبر أملاً كبيرًا للكثيرين، متى تحركت بشكل سليم، في ظل ما تملكه من تنظيم جيد ودقيق، وقدرة على الحشد والربط العام والخاص مع الأتباع والجمهور العام، وغير ذلك من عناصر القوة الذاتية، وإنما هو مجرد توصيف لسلسلة القرارات والرهانات التي وضعت الجماعة ثقلها فيها، خلال السنوات الأخيرة، وبالتحديد منذ اندلاع ثورات الربيع العربي.

مراجعة لما سبق!

بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، وضع الإخوان رهاناتهم على المجلس العسكري، واتضح بعد ذلك أنه كان يقتاد الجماعة إلى “منطقة قتل” بالمعنى السياسي والاستراتيجي لهذا المصطلح العسكري.

وعندما قررت الجماعة خوض غمار المرحلة الانتقالية، وضعت رهاناتها على العملية السياسية وليس على الجمهور، بعد خيار آخر خاسر، في الانتخابات التشريعية التي جرت في مصر، في العام 2011م، والعام 2012م؛ عندما تبنت الجماعة مبدأ “المغالبة لا المشاركة”، بالمخالفة لثوابت تاريخية للجماعة في العقود التي سبقت ذلك.

ثم أخذت خطوة أخرى خاطئة – باعتراف الجماعة ذاتها – عندما قررت الدخول في معترك انتخابات الرئاسة، وهو ما اتضح بعد ذلك أنه فخ، سيمنع الإخوان بعدها من أي أحقية في العمل السياسي الرسمي، والسعي إلى الوصول إلى السلطة.

كان إصرار الجماعة على الحفاظ على الوجوه والسياسات القديمة، سببًا مهمًّا لن نقول في تباعُد الجمهور العام عن الجماعة، ولكن في نفور الناس من الإخوان؛ حيث الأمر أكبر من مجرد التباعد

ولنقِس على ذلك أيضًا الرهان على الصوت الإسلامي السلفي، بينما دعم السلفيون الانقلاب، وكانوا منذ البداية رأس حربة المملكة العربية السعودية لإقناع الإخوان بدخول الانتخابات الرئاسية، على علم الرياض أن ذلك من شأنه دخول الجيش والإخوان في صراع ينهِك كلَيْهما، بحيث لا يكون هناك سوى السلفيين، للدخول على خط السيطرة والحكم في مصر.

هذا عن الخيارات التي جاءت في صورة قرارات أخذتها ومسارات مشتها الجماعة، إلا أن الأسوأ هو أنها لم تتبنى بعض القرارات والخيارات؛ حيث كانت – للمفارقة – هي البدائل السليمة، وعلى رأسها خيار الشارع والميدان.

ويحتج البعض على أن هذا الخيار، لم يعُد متماشيًا مع المرحلة بعد انتخاب الدكتور محمد مرسي، في منصب رئيس الجمهورية؛ حيث أنه كان ينبغي التعامل مع الموقف في أطره الرسمية، باعتبار أن مرسي صار في موضع مسؤولية رسمية، وأن مقتضيات المرحلة كانت تفرض الإطار الرسمي.

ولكن هذا الرأي غير وجيه في نقطة أن الدولة العميقة نفسها في مصر، بمختلف مؤسساتها التي تكرس فيها الفساد عبر عقود طويلة من الزمن؛ لم تعترف بمرسي رئيسًا لها إطلاقًا، كما أن كل المؤسسات المنتخبة، تعرضت إلى أحكام بالبطلان، بدءًا بمجلس الشعب، في يونيو 2012م، ووصولاً إلى مجلس الشورى في يونيو 2013م، بالإضافة إلى اللجنة التأسيسية التي كتبت دستور الثورة.

يرتبط بذلك خيارات أخرى لم تراهن عليها الجماعة، تتعلق – كذلك – بتغييب الخيار الثوري عن المشهد، مثل عدم طلب مرسي دعم الجماهير التي انتخبته؛ حيث كان عامل حسم الأزمة لصالح مفارز الدولة العميقة في المؤسسات المختلفة، والتي أدارت الأمور من خلال قوانين هي واضعتها، ومن خلال مؤسسات هي مسيطرة عليها، ومن خلال إعلام هي الذي تتكلم فيه!

كما كان خطأ عدم الدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة بعد شهرين من إقرار دستور 2012م، في ديسمبر من ذلك العام؛ حيث كان من شأن ذلك، أن يقود إلى انتصار جديد للإخوان والإسلاميين، ولكنه كان سوف يكون نهائيًّا هذه المرة؛ لأنه لم يكن يمكن لأحد في حينه أن يطعن في دستورية البرلمان الجديد، أو يحاول تعويقه بالوسائل السياسية؛ حيث كان وقتها سوف يكون الأمر أشبه باستفتاء شعبي على مَن يحكم مصر.

ونفس المنطق ينطبق على دعوات إجراء انتخابات رئاسية مبكرة؛ فلو حصل، واستجابت الجماعة لها، وفاز بها مرسي مجددًا؛ لكان ذلك يعني أنه الآن قد بدأ فترته الرئاسية الثانية.

ولكن الجماعة رفضت ذلك بناءً على أن الدولة قد استكملت أركانها بإقرار الدستور، وأن مصر خرجت من المرحلة الثورية والمرحلة الانتقالية التي تلتها، وهو أمر خاطئ كما تقدم.

وحتى عندما حاول الإخوان المسلمون في مرحلة ما بعد الانقلاب الاعتماد على الخيار الثوري، وبدأ اعتصاما رابعة والنهضة؛ فإن وقت ذلك كان قد فات، بعد انفضاض الكثير من التحالفات التي كانت تعطي الإخوان الزخم المطلوب في الشارع.

ثم كان خيار الاستمرار في الاعتصام خطأ بدوره؛ حيث كان يمكن للإخوان الخروج بأقل الخسائر، بل وببعض المكاسب السياسية أيضًا، لو كان الاعتصام قد تم فضه سلميًّا، ووفق الشروط التي كانت قد عرضها الانقلاب في ذلك الحين.

وبعد الفض؛ عجزت الجماعة من الأصل عن تحديد بدائل أو خيارات واضحة، فكان الانقسام المؤسف الحالي، الذي أثر حتى على التنظيم نفسه خارج مصر، بل وعلى الأحزاب والجماعات الإخوانية في الكثير من الأقطار العربية.

ولكن لأمانة التقييم؛ حاولت الجماعة طيلة الفترة الماضية بناء تحالفات جديدة في مصر وخارجها، ومحاولة التأثير على القرار السياسي للنظام الحالي في مصر، من خلال أنشطة احتجاجية في الشارع، وأخرى قانونية وإعلامية، في خارج مصر، قادت إلى شكل من أشكال الحصار الاقتصادي عليه، مما أثر كثيرًا – مع أحداث العنف والاحتجاجات المستمرة في الشارع، والحرب الدائرة في شمال سيناء – على قدرة النظام على تحقيق استقرار نسبي له في الحكم.

إلا أن أهم ما سعت له الجماعة في الفترة الماضية، وهو الاصطفاف الوطني؛ لم يتحقق، كما لم تقدم الجماعة رؤى واضحة للناس حول أمور أساسية، مثل تصور المرحلة الانتقالية، وكيف سيتم التعامل مع المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى شكل الحكم في مصر، وكيف سيتم التعامل مع ملف الأمن في ظل فوضى متوقعة بطبيعة الحال.

خيار البرادعي!

كانت هذه المقدمة المطوَّلة لازمة لكي نفهم إلى أين تتجه الجماعة في الوقت الراهن، في ظل ما يتردد من معلومات وتقارير، خرجت إلى حيِّز العلن، قبيل يوم 11 نوفمبر، عندما أصدر الدكتور محمد البرادعي، الذي قاد الجبهة الوطنية التي دعمتها الإخوان للإطاحة بمبارك، وقاد بعد ذلك، جبهة الإنقاذ، التي أطاحت بالإخوان؛ عددًا من البيانات والإيضاحات حول موقفه ورؤيته من أحداث الانقلاب وفض رابعة.

كان  من خطأ عدم الدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة بعد شهرين من إقرار دستور 2012م، حيث كان من شأن ذلك، أن يقود إلى انتصار جديد للإخوان والإسلاميين، ولكنه كان سوف يكون نهائيًّا هذه المرة

رحبت الجماعة في قطاعها الذي يسيطر عليه ما يُعرف بالقيادة التاريخية بـ”المراجعات” و”الإيضاحات” التي قام بها البرادعي لمواقفه خلال تلك الفترة الفارقة من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي.

ولفهم الموقف؛ نعود بشريط الأحداث إلى الخلف بضعة أشهر.

في فترة من نهاية العام 2015م، ومطلع العام 2016م، تحدثت بعض الأوساط السياسية والإعلامية القريبة من رموز سياسيين معارضين وقيادات الجماعة المقيمين في الخارج عن مساعي لبناء تحالف جديد للمعارضة المصرية، ولم يتم في حينه الإعلان عن أية تفاصيل عن هذا التحالف أو شخوصه.

وفي تلك الفترة عاد البرادعي ببعض التغريدات والمقالات الجديدة التي تناول فيها الوضع في مصر ورؤيته له، وحاول من خلالها كذلك، التنصل من ثلاثة جرائم رئيسية جرت في 2013م، الأولى، الانقلاب، والثانية، احتجاز الدكتور مرسي، والثالثة، هي الفض الدموي لاعتصامَيْ رابعة والنهضة، وقيل وقتها إن ظهور البرادعي مجددًا تم بالاتفاق بين أطر سياسية من بينها الإخوان المسلمين، لإعادة رسم خريطة التحالفات السياسية، وإعداد منصة وطنية جامعة تُقدَّم للمواطن المصري، بحيث يكون على بيِّنةٍ من أمره.

إلا أن هذا الخيار، لا يبدو ناجحًا بدوره، لأكثر من سبب.

الأول أن البرادعي شخصية مكروهة في مصر، ولا تحظى بأي شعبية في الوقت الراهن، حتى في أوساط الشباب غير المنتمي سياسيًّا، والذي لا يزال محافظًا على وتيرة العمل الاجتجاجي في المناسبات والمواقف التي تستدعي ذلك، مثلما تم في قضية تيران وصنافير على سبيل المثال.

وبشكل عام، يمكن القول إن هذه الشريحة من النشطاء والشباب الذي لا يزال يتحرك في الشارع، حتى المؤطرين سياسيًّا، مثل الاشتراكيين الثوريين، لم يعودوا يثقوا بأي وجه من الوجوه السياسية القديمة التي ظهرت في عهد مبارك، أو ارتبطت بالعملية السياسية التي تمت بعد الثورة على الصيرورات التي جرت بها.

وهو كذلك، كان أحد أهم أسباب تباعُد حركات ثورية مثل شباب 6 أبريل، والاشتراكيين الثوريين، عن الحركة الطلابية الإخوانية، وشباب الجماعة الذي حاول الحفاظ على شكل من أشكال الاتصال مع هذه الأوساط، ولاسيما مع رجوع جزء كبير من الحركة الطلابية الإخوانية إلى قواعدها التنظيمية، واستجاب لتعليمات الكمون التنظيمي الذي بات من الواضح أنه خيار الجماعة على المستوى الداخلي في الوقت الراهن.

هناك تباعد بين الشباب الثوري غير المؤطَّر سياسيًّا في مصر وقواعد شباب الجماعة

السبب الثاني في جعل خيار البرادعي لا يبدو جذابًا أو فعالاً في هذه الفترة، هو أن البرادعي ليس رجل المرحلة لجهة المتطلبات، فهو في النهاية أكاديمي ودبلوماسي، وسياسي صالونات لو صحَّ التعبير، بينما المرحلة تتطلب شخصية سياسية من الشارع، تعرف كيف توجه حراك الجماهير، وتحشد وتعبِّئ، شخصية صدامية وقادرة على تحمل الخدوش والصدمات، والتدافع كتفًا بكتف، ضد الدولة العميقة.

وهي مواصفات لابد منها في هذه المرحلة بالذات، لأنه لو حصلت حركة احتجاجية جديدة في مصر، وهو أمر غير متوقع على المستوى المنظور؛ فسوف تكون مختلفة في ظروفها وطبيعتها عن يناير وفبراير 2011م، وبالتالي، سوف تحتاج إلى وجوه جديدة، وقادرة في ذات الوقت على العمل في الشارع والتعامل مع تحديات لا قِبَل لشخصية بطبيعة البرادعي التعامل معها.

الصورة في الداخل

بعيدًا عن خيار البرادعي؛ فإن الجماعة بات من الواضح أنها لم تعد تملك بدائل حقيقية في الداخل المصري، أو في الإقليم في ظل عدد من المتغيرات، الداخلية، والإقليمية والدولية.

وأول هذه المتغيرات، وهو ما قد يكون مستغرَبًا – هو الحالة الاقتصادية والمعيشية المتردية، والتي لا تجعل المواطن في ظل عدم وجود مدخرات أو احتياطي لدى الدولة، قادرًا على تحمُّل أعباء وقفات طويلة كالتي جرت بعد ثورة يناير.

المتغير الثاني، هو حالة القبول العام للأمر الواقع لدى الشعب المصري، في مقابل أن النظام – وهو أمرٌ يجب الاعتراف به – قد أثبت نجاحًا في اتجاهات عدة، على الأقل صمد في مواجهة عواصف داخلية وخارجية، واستطاع تحقيق شكل من أشكال الأمن النسبي، وإيصال رسالة إلى المواطن، بأن الدولة تجتهد في مواجهة مشكلاته “التي يصنعها الأشرار والخونة وأعداء الوطن”.

وهو ما سبق التحذير منه، فكل الأنشطة العُنْفية التي تمت في مصر في السنوات الأخيرة، مع عدم فاعليتها؛ فإنها كذلك أعطت النظام “شمَّاعات” عدة، علَّق عليها أسباب وبواعث فشله في الكثير من الملفات، وبالتالي؛ قام النظام بتوظيف ذلك، من أجل التنصل من مسؤولياته، ودعوة المواطن للتحمل، وجعل ذلك واجبًا وطنيًّا.

مثَّل الإخوان نقطة ارتكاز مهمة للرياض في الأزمة اليمنية، وكانت الرياض ترغب في دور مُسيَطر عليه للإخوان في أزمات الإقليم بشكل عام

في المقابل، استطاع النظام توفير احتياجات المواطنين الأساسية، وحافظ على أهم عنصرَيْن من عناصر الاستقرار، وهما منظومتا الخبز والتموين، بجانب تأمين الاحتياجات اليومية من الوقود والطاقة، في مقابل تجفيف منابع تمويل خصومه، من خلال السيطرة على قطاعات مهمة للغاية من قطاعات الاقتصاد الرأسمالي، لصالح القوات المسلحة، مما عطل مجموعات رجال الأعمال من بقايا لجنة السياسات وخلافه، ورجال الأعمال الداعمين للإخوان، عن الاستمرار.

على جانب آخر، كان إصرار الجماعة على الحفاظ على الوجوه والسياسات القديمة، سببًا مهمًّا لن نقول في تباعُد الجمهور العام عن الجماعة، ولكن في نفور الناس من الإخوان؛ حيث الأمر أكبر من مجرد التباعد.

ولا أحد يفهم سبب إصرار الجماعة على سياسات ووجوه لم تعد صالحة لهذه المرحلة، بما حتى في ذلك وجوه كان لها قبولها لدى الناس فيما مضى، مثل الدكتور محمد محسوب والدكتور سيف عبد الفتاح، وأيمن نور، وغيرهم.

وهناك في هذا الصدد خطأ مفاهيمي قاتل وقعت فيه الجماعة في هذا الصدد، وهو المتعلق بعدم القدرة على التمييز بين موقف الناس من النظام وقضاياه ومشاكله، وبين مسألة الإضرار بمصالح الوطن.

استعادة وتيرة الحركة في الشارع لن تتم من دون معركة الوعي مع الناس وهي تستغرق سنوات

وفي هذا الإطار، كان لارتباط هذه الرموز والشخصيات بقنوات سياسية ودبلوماسية وإعلامية مشبوهة خارج مصر، حتى ولو كانت معارِضة للنظام؛ أثر غاية في الخطورة على مصداقية ونزاهة هذه الشخصيات، بينما هذه الشخصيات في الأصل، هي التي كان من المرشَّح أن تكون مكونات أساسية في المنصة الوطنية الجامعة التي سعت أطراف عدة إلى تكوينها لتوحيد الجهد السياسي والإعلامي للمعارضة المصرية.

وحتى محاولات الإخوان للعب على وتر تحقيق انقسام في موقف قيادات المؤسسة العسكرية إزاء السياسي وسياساته، والتواصل مع قيادات وسيطة (رتب مقدم إلى عميد)، للتنبيه لخطورة سياسات السيسي والمجموعة الحالية للمجلس العسكري التي تدعمه؛ غير فعال؛ لأن النظام يتوقع لجوء الإخوان إلى هذا الأمر، وخطط الإخوان واتصالاتهم في هذا الصدد؛ كلها مكشوفة، ويتم أولاً بأول تصفية واستبعاد أي ضابط أو قيادة عسكرية يثبت أنها تفكر في الاستجابة إلى هذه المحاولات، من ضباط الجيش.

وهو في حقيقة الأمر؛ لا تهاون فيه داخل المؤسسة العسكرية؛ لأن البديل هو الانقسام، وانقسام الجيش في مصر، معناه خراب أكبر من الحاصل في سوريا، وليس من المتصوَّر أن يقوم أي طرف بدعم مثل هذا الخيار.

الصورة في الإقليم والعالم

على المستوى الإقليمي، نقف أمام متغير مهم للغاية، سوف يكون معضدًا لخيار وحيد أمام الجماعة في الوقت الراهن، وهو الكمون التنظيمي وإعادة البناء الداخلي، وهو التباعد الحاصل بين الرياض والقاهرة.

فالرياض كانت في عهد الملك سلمان، طرفًا أساسيًّا في ضغوط دبلوماسية مورست على النظام المصري، وقادها محور واشنطن/ لندن لأجل قبول الإخوان المعادلة السياسية في مصر من جديد، وإحداث مصالحة وطنية شاملة، لتحقيق الاستقرار في مصر، لمواجهة تحديات عظمى في الإقليم والعالم.

والتقت الرياض في ذلك، من خلال التحدي الإقليمي الإيراني، مع التحدي الروسي الذي يهم الأمريكيون والبريطانيون وحلف شمال الأطلنطي “الناتو”، وتقاطع كلا التحديَيْن في أزمات المنطقة، ولاسيما في سوريا والعراق، ومنطقة المشرق العربي بشكل عام.

بعد الفض؛ عجزت الجماعة من الأصل عن تحديد بدائل أو خيارات واضحة، فكان الانقسام المؤسف الحالي، الذي أثر حتى على التنظيم نفسه خارج مصر

كما مثَّل الإخوان نقطة ارتكاز مهمة للرياض في الأزمة اليمنية، وكانت الرياض ترغب في دور مُسيَطر عليه للإخوان في أزمات الإقليم بشكل عام، تحت إشرافها هي.

ولذلك؛ فإن أول المتضررين من أزمة العلاقات المصرية السعودية هم الإخوان، خلاف ظاهر الأمر.

وفي مقابل فشل الخيارات والرهانات الأمريكية في الشرق الأوسط في الفترة الماضية، والتي أثارت حتى ضيق حلفاء واشنطن في المنطقة؛ استطاع الروس تعضيد تحالفاتهم بشكل جيد، فرض كلمتهم حتى على حلفاء واشنطن في تركيا والخليج العربي، وهو ما أدركه النظام المصري، وسعى إلى أن يكون جزءًا منه، ونجح في ذلك.

ثم جاء تغير الظروف في واشنطن، والعداء الظاهر الذي تبديه الإدارة الأمريكية الجديدة للإخوان، مع رغبة الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، وفريقه، في تحسين العلاقات مع الروس لأجل التصدي للهم الأساسي الذي يخص مصالحهم وفق رؤية الجمهوريين، وهو محاربة الإرهاب، والقضاء على تنظيم الدولة “داعش”، أو على الأقل إعادته لأصله، كتنظيم سري يعمل تحت الأرض؛ يمكن مواجهته بالأدوات الاستخبارية، وليس وفق الوضع الراهن له، ككيان يسيطر على أراضٍ تابعة لكيانات جيوسياسية، ويعلن فوقها كيانًا جديدًا يتقاطع مع خطط إعادة رسم معالم وحدود المنطقة.

والآن، وفق ما تحدثت به مصادر إلى الكاتب؛ يحاول الإخوان من خلال دوائر في التنظيم الدولي، ومن خلال الحكومة التركية، تحسين العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة، التي تعهدت صراحة بطرد الإخوان المسلمين من الولايات المتحدة.

ويبقى أثر هذه المحاولات رهين الظروف وتبدلاتها، ولكن ثمَّة عامل مهم قد يقود إلى تخفيف حدة مواقف ترامب من الإخوان، وهو الموقف البريطاني؛ حيث الإخوان في بريطانيا والعلاقات مع الإخوان لدى بريطانيا، أمرٌ استراتيجي، وفي صلب مخطط الأمن القومي البريطاني، بالذات في الداخل، فيما يتعلق بتأمين المساجد وأوساط المسلمين وجمعياتهم، من الفكر المتطرف، والتصدي لأية محاولات للسلفية الجهادية للتمركز في أوساط المسلمين، وخصوصًا المهاجرين.

وزاد من أهمية ذلك الدور، ما جرى في فرنسا وبلجيكا وألمانيا من هجمات، بسبب نجاح الجهاديين في اختراق هذه الأوساط هناك، وتشكيل نقاط تمركز حقيقية لإيواء العناصر المنفذة للهجمات، وتأمين سبل الحياة لها، والتخفي، وكافة الظروف المثالية للعمل.

كذلك الإخوان جزء أصيل من أدوات سياسات لندن الخارجية، وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط الكبير، من المغرب وحتى باكستان، وهو أمر معروف وسبق التفصيل فيه.

ولكن قد لا تنجح بريطانيا، وقد لا يستمر النظام الحالي في تركيا، ولو اختفي الرئيس رجب طيب أردوغان لظروف مفاجئة – وهو أمر في الحسبان ويجب أن يكون في الحسبان وفق كل اعتبارات التقييم السياسي الرشيد – فإنه حتى لو بقي “العدالة والتنمية” حاكمًا؛ فإن خروج أردوغان من المشهد سيسمح لأطراف كثيرة للغاية ولها وزنها في الحزب والحكومة، تعارض سياساته في الإقليم، وإزاء الدعم الموجه للإخوان؛ بأن تظهر وتفرض واقعًا جديدًا.

إن الإخوان المسلمين، كجماعة أو كيان سياسي؛ قد فقدت رهاناتها السياسية والاجتماعية، كلها – تقريبًا – داخليًّا ودوليًّا في الوقت الراهن، بسبب سوء الاختيارات، وليس بسبب قلة عددها

بل إنه الآن؛ نرى أن الدعم التركي للإخوان في مواجهة النظام المصري؛ بات يقتصر على استضافة قيادات الجماعة وقنواتها، وبعض التصريحات التي تصدر عن أردوغان وحده، والذي لولاه لمضت الحكومة التركية في شوط تحسين العلاقات مع مصر السيسي، التي هي أصلاً الآن التي تُعرِض عن أنقرة في ظل نجاحات النظام الداخلية والإقليمية والتي ساعده عليها ظروف عدة تمر بها المنطقة عرض هذا الموضوع بعضًا منها.

كل هذه الظروف والأوضاع، تتطلب إعادة رسم استراتيجية الجماعة خلال المرحلة الراهنة، خاصة أن أهم الأمور المطلوبة؛ لا نجد فيها أي حِراك، بدءًا من الانفصال عن الشارع، وعدم قدرة الجماعة على تحقيق اختراق واضح في مسألة الوعي الثوري، وهي نقطة مهمة، ووصولاً إلى الإصرار الغريب على الوجوه القديمة التي بات الشارع يكرهها، وليس فقط يستريب فيها، ولاسيما بعد التقارير الإعلامية التي تُضح ليل نهار، عن علاقات الإخوان مع حكومات غربية، والدعم المتبادل الذي تشرف عليه أجهزة مخابرات – وهي نقطة نفسية مهمة جدًّا – بين الإخوان وبين هذه الحكومات.

وصفوة القول؛ إن الإخوان في مصر الآن، وخلال السنوات الخمس المقبلة، لا توجد أمامهم أية بدائل أو خيارات واضحة سوى الكمون التنظيمي النَّشِط، أي الذي يسمح للجماعة بالآتي:

– علاج أزماتها الداخلية.

– تجديد الوجوه.

– الوصول إلى سياسات وخطط جديدة مقنعة للمواطن.

ثم بعد ذلك البدء في استراتيجية طويلة المدى لتحسين مستوى وعي الناس، وهي معركة – في ظل ما جرى في السنوات الماضية – أصعب مهمة تنتظر الإخوان.

أما القفز على هذه المراحل؛ فسوف يكون مجرَّد حرث في البحر!