ترجمة وتحرير نون بوست
هذا المقال هو عمل مشترك بين صحيفة “الإنترسبت” و”فيلد أوف فيجن”
أطلقوا على هذا البرنامج مشروع “أكس”، كانت مهمة جريئة وحساسة جدًا تتمثل في بناء ناطحة سحاب ضخمة، قادرة على تحمل انفجار ذري في وسط مدينة نيويورك، كان بناءً ليس له نوافذ، يتكون من 29 طابقًا مع ثلاثة طوابق أرضية، ويحتوي على مؤونة تكفي 1500 شخص لأسبوعين، في حال وقعت أية كارثة.
ولكن لم يصمم هذا المبنى من أجل حماية البشر من الأشعة السامة وسط الحروب النووية، بل تعمل ناطحة السحاب المحصنة على حماية أجهزة الكمبيوتر القوية والكابلات ومراكز الاتصالات الهاتفية، ويعتبر هذا المبنى من أهم مراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية في الولايات المتحدة وأكبر مركز في العالم لتحويل المكالمات الهاتفية للمسافات الطويلة، والذي تديره شركة تابعة لشركة الاتصالات الأمريكية “إيه تي أند تي”، تدعى شركة اتصالات نيويورك.
وقد صُمم هذا المبنى من قبل شركة الهندسة المعمارية التابعة لجون كارل وورناك وشركائه، وكانت تهدف بالأساس لإحداث مركز يكون الأساس لقطاع الاتصالات بأكمله في البلاد، ويمكن أن يكون حصن القرن العشرين، الذي يتم فيه استبدال “السهام والرماح” بالإشعاعات النيوترونية والبروتونية التي تقوم بحماية الآلات.
بدأت أشغال بناء هذه الناطحة في سنة 1969، وبحلول سنة 1974 تم الانتهاء منها، ويقع هذا البرج الرمادي المشيد من الجرانيت والأسمنت في قلب مدينة مانهاتن، في شارع توماس عدد 33 ويبلغ ارتفاعه 550 قدمًا في سماء نيويورك، ولا تزال حتى الآن شركة الاتصالات الأمريكية “إيه تي أند تي” تستخدم هذا النمط من العمارة “الوحشية”، هذا المبنى المملوك لهذه الشركة بحسب وزارة المالية في نيويورك، يتميز بنمط من الهندسة المعمارية لا مثيل له في المنطقة المجاورة.
وعلى عكس العديد من المباني السكنية والمكاتب المجاورة، فإنه من المستحيل معرفة ماذا يحصل داخل مبنى عدد 33، الموجود في شارع توماس، وعمومًا كانت الخطط الأولية لمصممي هذا المبنى تهدف إلى أن يكون مبنى دون نوافذ ودون إضاءة، ولكن في الليل تصبح له ظلال عملاقة وتخرج من فتحاته الكبيرة المربعة بعض الانبعاثات المتميزة ويصدر منه صوت خافت بالكاد يكون مسموعًا، بسبب صوت حركة المرور ودوي صفارات سيارات الشرطة.
وبالنسبة لكثير من سكان نيويورك، مثّل المبنى عدد 33 في شارع توماس، الذي يطلق عليه “ببناء الخطوط الطويلة”، مصدرًا من الغموض لسنوات، وقد تم اعتباره أغرب وأشهر ناطحة سحاب في المدينة، الذي لم تُنشر عنه إلا معلومات قليلة في وسائل الإعلام.
ومن المألوف أن يتم إخفاء معلومات عن مثل هذه المباني التي تحتوي على معدات اتصالات حيوية، ولكن المبنى 33 يختلف عن بقية المواقع المشابهة، فوفقًا لتحقيق أجراه موقع الإنترسبت الأمريكي، فإن ناطحة السحاب هذه تمثل أكثر من مجرد مركز لتحويل المكالمات الهاتفية، بل يُعدّ أحد أهم مواقع مراقبة وكالة الأمن القومي على التراب الأمريكي، ويُعتبر مركز مراقبة سرية يتنصت على المكالمات الهاتفية والبيانات الإلكترونية.
لا تكشف الوثائق التي حصل عليها موقع الإنترسبت من إدوارد سنودن الذي كان يعمل مع وكالة الأمن القومي الأمريكي سوى عن أن مبنى 33 الموجود في شارع توماس ستريت يمثل مركزًا للمراقبة والتجسس، ولكن كل المخططات المعمارية والسجلات العامة والمقابلات التي أجراها الموقع مع الموظفين السابقين لشركة الاتصالات الأمريكية “إيه تي أند تي” توفر أدلة دامغة على أن هذا البناء يُستغل كموقع للمراقبة لوكالة الأمن القومي، ويطلق عليه اسم “تيتان بوينت”.
ووفقًا لمهندس سابق في شركة “إيه تي أند تي”، يوجد داخل هذا المبنى محطة تحويل مكالمات دولية تقوم بتوجيه المكالمات الهاتفية من الولايات المتحدة إلى بقية الدول في جميع أنحاء العالم، وتشير سلسلة من المذكرات السرية لوكالة الأمن القومي إلى أن الوكالة تقوم بالتنصت على هذه المكالمات داخل منشأة صغيرة موجودة داخل هذا المبنى.
كما يبدو أن ناطحة سحاب مدينة مانهاتن تمثل موقعًا أساسيًا يخدم برنامج مراقبة وكالة الأمن القومي المثير للجدل، الذي يستهدف الاتصالات التابعة للأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وما لا يقل عن 38 بلدًا آخر، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة المقربين، مثل ألمانيا واليابان وفرنسا.
وكان معروفًا منذ فترة طويلة أن شركة “إيه تي أند تي” تتعاون مع وكالة الأمن القومي، لكن اليوم ظهرت بعض التفاصيل الجديدة المتعلقة بالدور الذي كانت تلعبه بعض الوحدات في تنفيذ برامج سرية، كما تقدم وثائق سنودن معلومات جديدة عن كيفية دمج وكالة الأمن القومي بعض المعدات كجزء من شبكة شركة “إيه تي أند تي” في مدينة نيويورك، كما كشفت تفاصيل لم يسبق ذكرها، عن الأساليب والتقنيات التي تستخدمها الوكالة للتنصت على الاتصالات عن طريق أنظمة الشركة.
وفي هذا السياق، قالت المديرة المشاركة لبرنامج الحرية والأمن القومي في مركز برينان للعدالة، إليزابيث غوتين: “هذا دليل آخر عن مقدمي خدمات الاتصالات في بلادنا الذين أصبحوا ذراع الدولة لأنشطة المراقبة والتجسس، ومن المفترض أن وكالة الأمن القومي تعمل تحت مظلة السلطات للتنصّت على الأجانب، ولكن في الواقع أصبحت هذه الوكالة اليوم جزءًا لا يتجزأ من بنيتنا التحتية للاتصالات المحلية”.
ويُذكر أن وكالة الأمن القومي رفضت التعليق على هذه التصريحات.
ورد الرمز “تيتان بوينت” عشرات المرات في وثائق وكالة الأمن القومي، وفي كثير من الأحيان في العديد من التقارير السرية المتعلقة بعمليات المراقبة، كما تستخدم أيضًا الوكالة أسماء رمزية أخرى لإخفاء المعلومات الحساسة والمهمة، على غرار أسماء الشركات التي تتعاون معها أو المواقع التي من خلالها تقوم بعمليات تجسس إلكتروني.
ومن ضمن الوثائق التي كشف عنها سنودن، هي دليل السفر السري لوكالة الأمن القومي بتاريخ أبريل/ نيسان سنة 2011، وفبراير/ شباط 2013، والذي يكشف عن بعض المعلومات بخصوص هوية موقع “تيتان بوينت” الذي ساعد على ربط الاتصالات في شارع توماس ستريت، فدليل سنة 2011 الذي وُضع خصيصًا لمساعدة موظفي وكالة الأمن القومي على زيارة مختلف المرافق التابعة للوكالة، يكشف أن مركز تيتان بوينت موجود في مدينة نيويورك، أما دليل سنة 2013، فيكشف أن “شريكًا” يدعى ليثيوم، ويعتبر هذا الاسم الرمزي التي تستعمله وكالة الأمن القومي لشركة “إيه تي أند تي”، يشرف على زيارات هذا الموقع.
يقع المبنى 33 الموجود في شارع توماس ستريت بجوار المكتب الميداني لمكتب التحقيقات الفيدرالي في نيويورك، ولذلك يعطي دليل سفر وكالة الأمن القومي الأمريكي تعليمات للموظفين المسافرين لمركز تيتان بوينت بالتوجه إلى هذا المكتب، ويضيف الدليل أن الرحلات إلى الموقع يجب أن تكون منسقة مع شركة “إيه تي أند تي” (المشار إليها باسم “ليثيوم”) ومع مكتب التحقيقات الفيدرالي، وتحديدًا مع ضابط المراقبة الميدانية.
ومن ضمن التعليمات التي كانت تفرضها وكالة الأمن القومي على موظفيها، أنه عندما يسافرالموظفون إلى مركز تيتان بوينت، يجب عليهم التمويه عبر استئجار سيارة عادية لا تلفت الأنظار بمساعدة مكتب التحقيقات الفيدرالي، لا سيما إذا كانوا سينقلون معدات إلى الموقع، وكذلك من أجل الحفاظ على سرية هوياتهم الحقيقية في أثناء زيارتهم للموقع، تحذر الوكالة موظفيها من ارتداء أية ملابس تُظهر انتماءهم لفريق وكالة الأمن القومي أو من وضع الشارات التابعة لها.
ويقول دليل سنة 2011 أيضًا، إنه ينبغي على الموظفين فور وصولهم إلى موقع تيتان بوينت، قرع الجرس وتسجيل الدخول، وانتظار قدوم شخص لرؤيتهم، وتجدر الإشارة إلى أنه عندما زار “موقع الإنترسبت” المبنى 33، وجد فعلاً جرسًا أمام مدخله وورقة لتسجيل الدخول على مكتب موجود في ردهة المبنى، وحارسًا موجودًا هناك على مدار كامل ساعات اليوم، كما يوجد أمام هذا المبنى موقف للسيارات مخصص لموظفي الوكالات الفيدرالية.
وفي تقرير كتبته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في سنة 1994، ذكرت أن المبنى 33 كان جزءًا من الشبكة الذكية العملاقة، “إيه تي أند تي”، ومسؤولاً عن تحويل قرابة 175 مليون مكالمة هاتفية يوميًا، كما صرح مهندس سابق ترك منصبه منذ سنة 2004 في هذه الشركة يدعى توماس سوندرز، في لقاء مع موقع الإنترسبت، أن هناك قرابة أربعة أنظمة تحويل إلكتروني تُستخدم لتوجيه المكالمات عبر شبكات الهاتف، مشيرًا إلى أن هناك نظامان كانا يقومان بتحويل المكالمات المحلية وآخران لتحويل المكالمات الدولية.
تصف وكالة الأمن القومي في وثائقها مركز “تيتان بوينت” ببوابة تحويل المكالمات الخارجية وتؤكد أنه يملك الإذن بالدخول إلى “ريمروك”، الكلمة السرية التي تعتمدها وكالة الأمن القومي للحديث عن أنظمة التحويل الإلكترونية الأربع.
كما تكشف وثائق وكالة الأمن القومي أيضًا أن أحد وظائف مركز “تيتان بوينت” هو القيام بعمليات مراقبة ضمن برنامج يسمى سكيدرو، الذي يعمل على اعتراض الاتصالات من الأقمار الاصطناعية، وهذه المعلومة ملفتة للنظر لأنه يوجد بالفعل في أعلى سطح مبنى 33 العديد من “الصحون اللاقطة”.
كما تؤكد سجلات هيئة الاتصالات الفيدرالية أن هذا المبنى هو المكان الوحيد في مدينة نيويورك الذي يملك ترخيصًا من الهيئة يمنح له الحق في إنشاء محطات أرضية فضائية.
ويعتبر الرجل الذي كان يقف وراء تصميم مبنى 33، جون كارل وورناك، أحد أبرز المهندسين المعماريين في الولايات المتحدة في الستينيات والثمانينيات، وقد قام وورناك بتصميم العديد من المشاريع المهمة الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية مثل الأكاديمية البحرية الأمريكية في ولاية ماريلاند ومبنى مكتب مجلس الشيوخ في واشنطن العاصمة ومبنى الكابيتول الأمريكي الموجود في ولاية هواي.
كما كلفت إدارة الرئيس جون كينيدي في سنة 1962 وورناك بصيانة وإعادة هيكلة المباني الموجودة في ساحة لافاييت، على الجانب الآخر من البيت الأبيض.
وبعد اغتيال كينيدي، طُلب من وورناك تصميم الشعلة الخالدة للرئيس وضريحه في مقبرة أرلينغتون الوطنية، كما يُقال إنه ساعد في بناء مجمّع السفارة الجديد في واشنطن للاتحاد السوفيتي، والذي ادعى السوفييت أنهم قد وجدوا فيه معدات تنصت مخفية داخل الجدران.
لم تكن الحكومات هي الوحيدة التي تثق في وورناك، لكن كانت تربطه أيضًا علاقات وثيقة مع شركات الاتصالات، وربما يكون قد ساهم عن طريق روابطه الأسرية أيضًا في تطوير هذه الصناعة، حيث كان والد زوجته مدير شركة اتصالات باسيفيك بيل، المتمركزة في ولاية كاليفورنيا والتي تمثل فرعًا من فروع من شركة “إيه تي أند تي”، ففي الستينيات، طُلب منه تصميم مبنى لشركة باسيفيك بيل في مدينة أوكلاند، كما أنه من المشاع أنه صمم مركزًا للاتصالات الهاتفية في وليامز، بروكلين، وفي ولاية نيوجيرسي.
أطلقت على بعض الرسومات المعمارية الأصلية لوورناك المشابهة لمبنى 33 تسمية “مشروع أكس”، ويشار إليها أيضًا باسم مبنى برودواي، ويصف وورناك تصاميمه “بناطحات سحاب الأجهزة”، ويقول إنه صممها لاستيعاب أعداد هائلة من معدات الهاتف ولحماية موظفيها في حال وقع أي هجوم نووي، وعموما شُيّدت معظم هذه المباني في أثناء الحرب الباردة، عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تخشى من احتمال وقوع هجوم نووي سوفييتي.
لم يكن معلومًا عدد الأشخاص العاملين داخل مبنى 33، لكن وفقًا لتصماميم وورناك، فإن هذا المبنى مُعدّ لتوفير مؤونة قرابة 1500 شخص، كما من شأنه أيضا تخزين 250 ألف غالون من الوقود لمولدات الكهرباء، التي من شأنها أن تمكّن المبنى من الحصول على الاكتفاء الذاتي، لمدة أسبوعين، في صورة قطع التيار الكهربائي في حالات الطوارئ.
كما أن مخططات هذا المبنى تشير إلى أن هناك ثلاث طوابق أرضية، حيث أن أحد هذه الطوابق مخصص لكابلات الاتصالات، التي تمر على الأرجح من تحت كل شوارع مانهاتن المزدحمة.
وبعد أن تم بناء هذا المبنى، جذبت هندسته المعمارية المختلفة اهتمام العديدين، حيث إن مظهره البائس والمظلم يتناقض بشكل كبير مع بقية مباني مانهاتن، ومع ذلك جلبت هندسة هذا المبنى اهتمام هواة الهندسة المعمارية، ففي مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز، صرح الناقد المعماري الأمريكي الشهير بول غولدبرغر، أن المبنى 33 يعتبر أحد نماذج العمارة الحديثة الجيدة، كما أفاد في حوار أجراه مع موقع الإنترسبت، أن مباني شركات الهاتف التي بُنيت في تلك الحقبة، قد صُمّمت فقط لاستيعاب المعدات وكانت شبيهة بالصناديق الرهيبة، لكن هذا المبنى كانت له جاذبية خاصة، فهناك شيء غامض يدور حول شكله، حيث إنك تنظر إليه وفي نفس الوقت لا تراه.
في سنة 1975، وبعد انقضاء سنة واحدة فقط من انتهاء أشغال تشييد المبنى 33، وجدت وكالة الأمن القومي نفسها متورطة في إحدى أكبر الفضائح في تاريخ أجهزة الاستخبارات الأمريكية، ووفقًا لذلك بدأت لجنة مختارة من الكونغرس بالتحقيق في الانتهاكات المزعومة بعد الكشف عن عمليات المراقبة الداخلية التي تستهدف الناشطين المناهضين لحرب فيتنام.
مدخل المبنى الأمامي
إن التحقيق الذي ترأسه السيناتور الديمقراطي فرانك تشرش، والذي نشرت نتائجه في أبريل/ نيسان من سنة 1976، خلص إلى أن وكالات الاستخبارات الأمريكية قد “انتهكت الخصوصية الفردية واعتدت على الحقوق الشرعية وعلى حرية التعبير السياسي”، كما كشفت التحقيقات في وقت لاحق، عن برنامج المراقبة الذي تديره وكالة الأمن القومي خلال هذه الفترة الذي استهدف “الإرهابيين المحليين والأجانب المتشددين” المشتبه بهم، بما في ذلك مجموعة من الأمريكيين البارزين، كزعماء في حركة الحقوق المدنية من بينهم مارتن لوثر كينغ وويتني يونغ والملاكم محمد علي وكاتب عمود في صحيفة واشنطن بوست بوشفالد وصحفي في صحيفة نيويورك تايمز يدعى توم ويكر.
أوصت اللجنة التي ترأسها تشرش بوضع ضوابط جديدة على عملية جمع المعلومات الاستخباراتية، وفي سنة 1978، وافق الكونغرس على قانون مراقبة الاستخبارات الخارجية الذي يُلزم السلطة التنفيذية بأن تطلب الإذن من المحكمة التي تم تشكيلها مؤخرًا قبل تنفيذ عمليات التجسس.
ومؤخرًا خلال هذا الوقت العصيب الذي تعيشه وكالة الاستخبارات الأمريكية، أنشأت وكالة الأمن القومي برنامج مراقبة جديد، يطلق عليه اسم “بلارني”، والذي قام سنودن بالكشف عن حيثياته في سنة 2013، ووفقًا لوثيقة غير منشورة سابقًا عرضها سنودن على موقع الإنترسبت، فقد تأسس مشروع “بلارني” خلال السبعينيات، ومع حلول منتصف سنة 2013، أصبح هذا البرنامج من أكبر برامج وكالة الأمن القومي الأمريكي.
وتذكر الوثائق التي عرضها سنودن أن برنامج بلارني يستغل أيضًا العديد من الشراكات التجارية التي تسعى في المقابل إلى استغلال المعلومات التي تحصل عليها من الشبكات العالمية”، كما ينفذ هذا البرنامج عمليات مراقبة شاملة في العديد من المجالات مثل مكافحة عمليات التجسس الخارجية ومكافحة الإرهاب ومراقبة السلك الدبلوماسي والاقتصاد والمجال العسكري والسياسي.
ومنذ يوليو/ تموز 2010، تلقت وكالة الأمن القومي ما لا يقل عن 40 عريضة من المحكمة وجهت فيها اتهامات بالتجسس للوكالة في إطار برنامج بلارني، الذي يقوم بمراقبة اتصالات العديد من الدول والشركات والمنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك اليابان والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وما لا يقل عن 38 بلدًا آخر، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة مثل إيطاليا واليابان والبرازيل وفرنسا وألمانيا واليونان والمكسيك وقبرص، وكان هذا البرنامج المصدر الأساسي لوكالة الأمن القومي في مجال جمع البيانات بموجب قانون مراقبة الاستخبارات الخارجية.
والجدير بالذكر أن موقع تيتان بوينت لعب دورًا مركزيًا في عمليات بلارني، حيث اعتبرته وثائق وكالة الأمن القومي، المؤرخة ما بين سنتي 2012 و2013، موقعًا مرفقًا للمراقبة من بين ثلاثة من المواقع الأساسية في مدينة نيويورك التابعة لبرنامج بلارني، وقد تم استخدام معدات “تيتان بوينت” لمراقبة المكالمات الهاتفية والفاكسات والمكالمات الدولية ومكالمات الفيديو عبر الإنترنت المعتمدة على تقنية “إرسال الصوت عبر الإنترنت”.
خلال إحدى القضايا التي ربما تورط فيها المبنى رقم 33 في شارع توماس، عمل مهندسو وكالة الأمن القومي مع برنامج بلارني على جمع المعلومات من خلال اختراق معدات الاتصال التي تستعملها بعثة الأمم المتحدة في نيويورك، وقد أدّت عمليات التجسس إلى جمع معلومات من مراسلات بريد إلكتروني بقيادة الأمم المتحدة بشأن مهام المراقبة في سوريا، وهو ما أكدته مذكرة صادرة في نيسان/ أبريل سنة 2012.
وقد انتقد “موغنس ليكوتوفت” الرئيس السابق للدورة الـ70 للجمعية العامة للأمم المتحدة برنامج عمليات التجسس هذا، وقال للإنترسبت: “أنشطة التجسس هذه غير مقبولة بالمرة، وتُعدّ خرقًا للثقة المعمول بها في العلاقات الدولية”.
في موقع تيتان بوينت، يتم تخزين معدات وكالة الأمن القومي داخل غرفة آمنة تعرف بتسمية “منشأة المعلومات الحساسة”، وقد كشفت رسوم بيانية يعود تاريخها إلى نيسان/ أبريل سنة 2012، أن داخل هذه الفضاء الذي يخضع لإجراءات أمنية مشددة هناك معدات تتحكم فيها وكالة الأمن القومي مرتبطة بخوادم الإنترنت التابعة لشريكها، في إشارة لشركة “أيه تي أند تي”.
وخلال هذا البرنامج كان يتم اختراق شبكات الإنترنت وجمع المعلومات من الأجهزة المتصلة بها، ثم يتم تحليل هذه المعلومات في موقع تيتان بوينت، قبل تمريرها إلى وكالة الأمن القومي لتقوم بتخزينها، وفضلاً عن المكالمات الهاتفية التي تم اعتراضها، تم أيضًا جمع المعلومات المستقاة منها عبر أجهزة للتزويد بالإنترنت تابعة لموقع “تيتان بوينت” بعد أن يتم تمريرها عبر شريكتها “أيه تي أند تي”، ثم يتم إرسال هذه المعلومات إلى مركز عمليات وكالة الأمن القومي في ميريلاند عبر موقع إنترنت مشترك.
يبدو أن الكثير من عمليات التجسس والمراقبة التي قام بها موقع تيتان بوينت، تتضمن اختراق اتصالات هاتفية ووسائل أخرى للتواصل في أثناء مرورها عبر خطوط الهاتف الدولية، وخطوط كابل شركة “أيه تي أند تي”.
إلا أن هذا الموقع لديه أيضًا قدرات أخرى وصلاحيات أوسع، حيث إن وثائق وكالة الأمن القومي تشير إلى أنه مزود بجهاز الأقمار الصناعية الذي يتمتع بقدرة التقاط قوية، وعلى الأرجح، فإن هذا الجهاز يتمثل في تلك “اللاقطات” الموجودة في سطح المبنى 33 في شارع توماس، حيث تستعمل لاعتراض الإشارات التي يتم بثها في الهواء.
ويركز برنامج سكيدرو للتجسس على “شفط” المعلومات من الإنترنت، في عملية تعرف بتسمية “مخابرات الشبكة الرقمية”، حيث يتم اعتراض المعلومات في أثناء مرورها بين الأقمار الصناعية التابعة لدول أجنبية، وبعد جمع هذه المعلومات تُعرض عبر نظام “إكس كي سكور”، وهو نظام تجسس ضخم يشبه جوجل، يستعمله موظفو وكالة الأمن القومي للبحث عن معلومات شخصية وسط كمية مهولة من المعلومات المتنوعة لمعرفة عناوين البريد والمحادثات الشخصية ومحادثات سكايب وكلمات السر وسجل المواقع التي زارها المستخدم.
وقد قال فليتشر كوك المتحدث باسم شركة “أيه تي أند تي”، في حوار له مع موقع “الإنترسبت”، إن شركته لا تسمح لأية وكالة حكومية بالاتصال مباشرة بشبكات الشركة أو التحكم فيها من أجل الحصول على معلومات الحرفاء.
وأكد فليتشر كوك أيضًا أن شركة “أيه تي أند تي” تتفاعل فقط مع الطلبات الحكومية، فيما يتعلق بالمعلومات التي هي على علاقة بدعاوى قضائية، وفي حالات طارئة يتم أيضًا توفير هذه المعلومات بشكل تطوعي وقانوني عندما تكون حياة شخص ما في خطر ويكون الوقت عاملاً حاسمًا، مثلما يحدث في حالات الاختطاف.
وأضاف كوك أيضًا أن ممثلي وكالة الأمن القومي ليست لهم إمكانية الولوج لأي من الغرف الآمنة والفضاءات الخاصة التي تعتمد عليها شركة “أيه تي أند تي” في الجزء الذي تملكه في المبنى رقم 33 في شارع توماس.
وعند محاصرته بالأسئلة عما إذا كانت هناك غرفة في المبنى رقم 33 في شارع توماس تحتوي على معدات تستعمل من قبل وكالة الأمن القومي بهدف التجسس، أشار هذا المتحدث باسم شركة “أيه تي أند تي” إلى واقعة حصلت في سنة 1983، حينما أعلن في مدينة نيويورك عن أن شركة “فيريزون” التي كانت تملك هذا المبنى في الماضي، حافظت على ملكية 3 طوابق وطابق أرضي في هذا المبنى.
وقد أعلنت وزارة المالية في نيويورك أن هذه الشركة المالكة سابقًا للمبنى لا يزال لديها الحق في استغلال هذا الفضاء وهي تدفع ضرائبها، إلا أنها أكدت أن شركة “أيه تي أند تي” تملك كامل المبنى، فيما رفض المتحدث باسم الشركة تقديم المزيد من المعلومات أو التعليق.
ولا توضح وثائق وكالة الأمن القومي ما إذا كانت قادرة على التواصل بشكل مباشر أو التحكم بأية طريقة في شبكات شركة أيه تي أند تي، إلا أنها توضح بشكل قطعي أن الوكالة قامت بتركيز معداتها الخاصة بها داخل موقع تيتان بوينت، من أجل اختراق مكالمات هاتفية ومعلومات عبر الإنترنت.
ومن المحتمل أن تكون الغرفة المؤمّنة والتي تم فيها تركيز المعدات، تخضع لإشراف مباشر من مهندسي وفنيي شركة “أيه تي أند تي”، الذين يملكون تصريحًا أمنيًا للولوج إلى هذا الموقع.
وقد كشفت وثيقة تابعة لوكالة الأمن القومي، يعود تاريخها إلى آذار/ مارس 2013، عن “إمكانية وجود علاقة من هذا النوع بين الوكالة والشركة، حين أشارت إلى وجود مواقع تعاون ثنائي تجمع منها الوكالة معلومات رغم أنها غالبًا ما تخضع لإشراف الشريك الذي يقوم بتصفية المعلومات الواردة في الاتصالات قبل إرسالها لوكالة الأمن القومي”.
وكما حصل في سنة 1983، فإن شركة “أيه تي أند تي”، ربما لا تكون بمفردها في المبنى رقم 33 في شارع توماس، ففي مطلع هذه السنة كشف موظف تقني يعمل في هذا المبنى (رفض أن يتم الكشف عن اسمه لأنه لا يسمح له بالتحدث للإعلام)، في لقاء مع “الإنترسبت”، أن هناك مجموعة من موظفي شركة فيريزون، لا يزالون موجودين في المبنى.
إلا أن وثائق وكالة الأمن القومي لا تشير إلى أن شركة فيريزون متورطة في عمليات التجسس هذه في موقع تيتان بوينت، وتشير فقط إلى مشاركة شركة “أيه تي أند تي” في هذه العمليات، ويذكر أن شركة فيريزون رفضت التعليق على هذه المعلومات.
ومن المؤكد أن شركة “أيه تي أند تي” ليست الوحيدة التي تربطها علاقة بوكالة الأمن القومي، حيث إن هذه الوكالة أقامت أيضًا ما تسميه “شراكة استراتيجية” مع أكثر من 80 شركة، إلا أن البعض من هذه الشركات أظهرت تعاونًا أكثر من الأخرى.
وتاريخيًا حرصت شركة “أيه تي أند تي” دائمًا على المحافظة على روابط متينة مع الحكومة، والدليل على ذلك هذه الحادثة التي وقعت في حزيران/ يونيو سنة 1976، عندما أصدرت لجنة فرعية تابعة للكونغرس أمرًا ملزمًا للشركة يطالبها بتسليم معلومات عن دورها في ممارسات غير قانونية، مثل تورط مكتب التحقيقات الفيدرالي في التجسس على مكالمات هاتفية على خطوط أرضية.
وقد تدخل الرئيس جيرارد فورد شخصيًا لتعطيل هذا القرار الملزم، معلنًا أن شركة “أيه تي أند تي” كانت ولا تزال تابعة لحكومة الولايات المتحدة، وهي تعمل بموجب عقد يربطها بالسلطة التنفيذية.
كما قال الرئيس فورد إن هذه الشركة تحظى بموقع خاص جدًا فيما يتعلق بأجهزة الهاتف وبقية خطوط الاتصال في الولايات المتحدة، ولذلك فإنه من الضروري للسلطة التنفيذية في الولايات المتحدة الاعتماد على خدماتها وطلب مساعدتها في الحصول في معلومات محددة تهمّ السياسة الخارجية والدفاع عن الأمن القومي الأمريكي.
وأكد فورد على أن التفاصيل التي تريد اللجنة التابعة للكونغرس الحصول عليها لا يمكن الكشف عنها، لأنها قد تشكل خطرًا يصل إلى حد “الكشف عن معلومات استخباراتية هامة وحساسة”.
وفي العقود التي تلت هذه الحادثة، أوردت صحيفتا نيويورك تايمز وبروبوبليكا في السنة الماضية، أن شركة “أيه تي أند تي” سمحت لوكالة الأمن القومي بالولوج لمليارات الرسائل الإلكترونية، وهو ما يكشف سياسة هذه الشركة التي تصفها وكالة الأمن القومي بأنها تظهر “رغبة كبيرة في مدّ يد المساعدة”، هذه الأسرار التي تم كشفها كانت قد سبقتها مؤشرات أخرى على وجودها في سنة 2006، حين أعلن موظف سابق في شركة “أيه تي أند تي” يدعى “مارك كلاين” أن الشركة كانت تحافظ على “غرفة آمنة” بأحد مكاتبها في سان فرانسيسكو، والتي كانت تستعمل لوضع معدات مراقبة الاتصالات، التي على ما يبدو تستعملها وكالة الأمن القومي لاختراق أجهزة الهاتف وشبكة الإنترنت.
مارك كلاين عام 1988 عمل موظفًا في المبني لتسعة سنوات
وقد شكلت هذه التسريبات التي قدمها كلاين منطلقًا لرفع دعوى قضائية قدمتها مؤسسة “إلكترونيك فرونتير” نيابة عن حرفاء شركة “أيه تي أند تي” للاتصالات، وإلى حد الآن لا تزال هذه القضية في أروقة المحاكم دون أن يصدر فيها حكم قضائي نهائي.
ويصادف أن هذا الشاهد مارك كلاين، كان قد عمل بين سنتي 1981 و1990 مع شركة “أيه تي أند تي” في المبنى رقم 33 في شارع توماس، وبخصوص هذه الفترة قال كلاين “لم أكن على علم بوجود عملاء وكالة الأمن القومي عندما كنت هناك، ولكن كان يساورني شعور غريب عن هذا المبنى، لأنني كنت على علم بالتعاون الوثيق بين شركة “أيه تي أند تي” والبنتاغون، والذي يعود إلى وقت بعيد”.
كما قال كلاين في حواره مع “الإنترسبت”، إنه لم يفاجأ بالمعلومات التي ظهرت بشأن ارتباط المبنى رقم 33 في شارع توماس بموقع تيتان بوينت التابع لوكالة الأمن القومي، وقال: “من الواضح أن هذا المكان يحتوي على معدات ضخمة، وإذا كنت تريد القيام بعمليات تجسس فإن هذا هو المكان المناسب لذلك”.
وبحسب وثائق كشف عنها إدوارد سنودن، فإن شركة “أيه تي أند تي” قامت بتركيز معدات تجسس فيما لا يقل عن 59 موقعًا في الولايات المتحدة، وفي أي يوم من الأيام قد يكون موظفو وكالة الأمن القومي بصدد العمل في مكاتب هذه الشركة.
وقد أشارت مذكرة سرية بتاريخ نيسان/ أبريل سنة 2013، إلى إرسال موظفين تقنيين تابعين لوكالة الأمن القومي للقيام بمهمات تمتد من يوم إلى 4 أيام في موقع تيتان بوينت ومبان أخرى، إلا أن أغلب موظفي شركة “أيه تي أند تي” في هذه المواقع لا يبدو أن لديهم علم بحضور عملاء وكالة الأمن القومي والنشاط الذي تقوم به، إذ إن عملاء الوكالة يقومون بارتداء ملابس والتصرف بطريقة تساعدهم على الاختلاط بين الناس وعدم كشف هويتهم.
وحتى شركة كراء السيارات التي تعتمد عليها الوكالة في رحلات موظفيها نحو مؤسسات تابعة لشركة “أيه تي أند تي” لم يُكشف عن اسمها، حيث قال موظف تابع لوكالة الأمن القومي: “بعض الموظفين في شركة “أيه تي أند تي” على علم بارتباط الشركة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي، إلا أنه ليست لديهم أدنى فكرة عن تورطها أيضًا في علاقة مع وكالة الأمن القومي”.
المصدر: صحيفة الإنترسبت