تستعد تونس، في الأيام القليلة القادمة، لاحتضان مؤتمرها الدولي للاستثمار، تونس 2020، في وقت تعرف فيه البلاد احتقانًا سياسيًا واجتماعيا لافتًا، الأمر الذي يمكن أن يؤثر على نجاح المؤتمر وقدرته على تحقيق أهدافه.
وتحتضن تونس يومي 29 و30 نوفمبر الحالي، مؤتمرًا دوليًا للاستثمار تحت إشراف فرنسا وقطر، لإنعاش اقتصادها المتعثر بعد حوالي ست سنوات على الثورة، ومن المنتظر أن يستقطب هذا المؤتمر بين 1000 و1500 مشارك، يمثلون المؤسسات المالية الإقليمية والعالمية والغرف التجارية والصناديق الاستثمارية، فضلاً عن عدد من رجال الأعمال وممثلي الحكومات الأجنبية.
احتقان اجتماعي متواصل
تعيش تونس على وقع احتقان اجتماعي وسياسي متواصل، لم تهدأ وتيرته منذ الثورة، وبدأ البرلمان التونسي أمس مداولات عامة لمناقشة الموازنة العامة للدولة ومشروع قانون المالية للعام 2017 المثير للجدل، تمهيدًا للمصادقة عليه، وعبرت غالبية الأحزاب السياسية في تونس عن رفضها لمشروع هذا القانون، بما فيها المشاركة في الحكومة ،كما رفضته منظمة أرباب العمل، وأيضًا الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، الذي هدد بمواجهته.
وشرع اتحاد الشغل في تنظيم تحركات احتجاجية في الجهات الداخلية، وذلك احتجاجًا على مشروع قانون الميزانية لسنة 2017، خاصة فيما يتعلق بإصرار الحكومة، على تجميد الزيادة في الأجور، بعنوان سنتي 2017 و2018، وقد شددت المنظمة على عدم تنازلها عن حقوق العمال والشغالين، معلنة استعدادها الدفاع عن حقوق عمالها بكل الأشكال، وأنه لا استقرار اجتماعي دون احترام تعهدات وضمان الحقوق.
أول تحرك احتجاجي، تمثل في تنظيم تجمع عمالي بمحافظة القصرين (الوسط الغربي لتونس)، الجمعة، أشرف عليه الأمين العام المساعد للمنظمة الشغيلة سامي الطاهري، في خطوة اعتبرت بمثابة إعلان المنظمة عن خيار التصعيد ضد مشروع قانون المالية، المقدم من قبل حكومة يوسف الشاهد.
وهدد الاتحاد العام التونسي للشغل بتنفيذ إضراب عام إذا تقرر تأجيل الزيادة في أجور الموظفين في قانون المالية، فيما أكّد نواب حركة النهضة ونداء تونس عزمهم التصويت لمشروعي ميزانية الدولة وقانون المالية لسنة 2017، رغم بعض الانتقادات التي تم تسجيلها، وما فتئت قيادات اتحاد الشغل تقول إنه لا استقرار اجتماعي دون احترام تعهدات وضمان الحقوق.
سجّلت تونس، ارتفاعًا في حالات الانتحار ومحاولات الانتحار لتصل إلى 219 خلال الشهرين الماضيين بسبب استمرار تردي الأوضاع الاجتماعية
إلى جانب رفض المركزية النقابية لمشروق قانون المالية، أثار المشروع قبل عرضه على البرلمان، تحركات احتجاجية أخرى رافضة له، كان من بينها إضراب عام عن العمل نفذه محامو تونس في أكتوبر الماضي في جميع أنحاء البلاد، ووصف المحامون المشاركون في الإضراب الإجراءات الجديدة بالمجحفة وغير العادلة، وقال عميد المحامين التونسيين عامر المحرزي إن الإضراب العام ليس إلا خطوة أولى في إطار مسار احتجاجي على هذا القانون، وينص مشروع القانون الجديد على فرض ضريبة على كل المحامين قيمتها بين 8 و25 دولارًا عن كل قضية يكلف بها المحامي.
فضلاً عن هذه الاحتجاجات ضد المشروع، سجّلت تونس ارتفاعًا في حالات الانتحار ومحاولات الانتحار لتصل إلى 219 حالة خلال الشهرين الماضيين بسبب استمرار تردي الأوضاع الاجتماعية، حسب تقرير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (غير الحكومي)، ويرجع التقرير ارتفاع العدد إلى استمرار تردي الوضع الاجتماعي في تونس وفي مقدمته البطالة، التي تصل إلى 16%، والفقر الذي وصل إلى 24%، وغيرهما.
ويوضّح أن ظاهرة الانتحار أخذت شكلاً جديدًا وهو محاولات الانتحار الجماعي التي تمثل ثلث إجمالي الحالات، وارتفع عدد الاحتجاجات الفردية والاجتماعية في الشهرين الأخيرين في تونس ليتجاوز 1770 حالة في مختلف محافظات البلاد.
وتعاني تونس في السنوات الأخيرة من وضع اجتماعي صعب في ظل ارتفاع نسب البطالة وتباطؤ نسب النمو التي لم تتجاوز 1% خلال هذا العام، وأعلنت حكومة يوسف الشاهد في وقت سابق عن جملة من الإجراءات التقشّفية كتجميد الزيادات في الأجور وإيقاف التشغيل في الوظيفة العمومية، والعمل على تسريح الموظّفين، وهي إجراءات اشترطتها اتفاقية القرض الذي حصلت عليه تونس من صندوق النقد الدولي.
وأظهر مشروع الموازنة التونسية لعام 2017 أن تونس تتوقع قروضًا أجنبية بقيمة 2.78 مليار دولار أي نحو ضعفي الاحتياجات التمويلية هذا العام للمساعدة في تغطية العجز المتوقع أن يصل إلى 5.4%، وكانت موازنة العام الحالي تتوقع قروضًا أجنبية بواقع 1.45 مليار دولار.
“قضية نقض” توقظ الخلافات السياسية
هذا الاحتقان الاجتماعي قابله احتقان وانقسام سياسي برز إثر إطلاق سراح المتهمين بقتل المنسق الجهوي لحركة نداء تونس بمحافظة تطاوين، لطفي نقض، سنة 2012، حيث أصدر نواب حزب نداء تونس بيانًا عبروا فيه عن صدمتهم من الحكم الذي قالوا إنه استهزاء بدم الشهيد (نقض) وانحياز مفضوح للقتلة والمجرمين، فيما عبر حزب آفاق تونس عن تضامنه التام مع عائلة نقض الذي قال إنه ذهب ضحية عنف روابط حماية الثورة التي عادت فجأة للظهور في الصورة في تحدٍ صارخ للقانون ولمشاعر التونسيين.
دعت حركة النهضة إلى احترام حكم القضاء وعدم التشكيك فيه، معتبرة أن لا مصلحة لتونس في التهجّم عليه والمس من استقلاليته
ودعا الحزب كل القوى الديمقراطية المدنية لإدانة هذه المجموعات المارقة عن القانون، منبهًا إلى خطورة عدم التصدي لها بالسرعة والنجاعة اللازمة لما في ذلك من منزلقات تعيدنا إلى مربع العنف السياسي، كما عبر عن تخوفه من توظيف الحكم القضائي في قضية مقتل نقض لخلق أزمة سياسية يمكن أن تضع كل المسار الانتقالي على حافة الهاوية.
في حين دعت حركة النهضة إلى احترام حكم القضاء وعدم التشكيك فيه، معتبرة أن لا مصلحة لتونس في التهجّم عليه والمس من استقلاليته، وعقب إصدار حكم تبرئة المتهمين، شهدت صفوف حركة نداء تونس حالة احتقان كبيرة، وعرفت حركة “النداء” موجة من الاستقالات في صفوف منخرطيها.
وقضت محكمة تونسية بعدم سماع الدعوى بخصوص تهمة القتل المنسوبة إلى المتهمين بقتل المنسق الجهوي لحركة نداء تونس لطفي نقض بمحافظة تطاوين (جنوب تونس)، الّذي توفي خلال مسيرة تنادي بتطهير الإدارة من الفساد من تنظيم رابطة حماية الثورة في الجهة يوم 18 أكتوبر 2012.
وضع اقتصادي سيء
وفق الأرقام الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء في تونس فلقد شهدت نسبة البطالة ارتفاعًا في السنوات الخمسة الماضية من 13% خلال عام 2011 إلى 15% حتى نهاية الربع الثالث من العام 2015، وبلغت نسبة الدين العام في عام 2010 نحو 40.3% من الناتج المحلي الإجمالي لترتفع إلى حدود 52.7% في عام 2015 وفق إحصائيات وزارة المالية التونسية.
تراجع سعر صرف الدينار التونسي مقابل الدولار ليبلغ مستويات غير مسبوقة حيث بلغ سعر الصرف (في وقت كتابة هذه المقالة) 2.264
سجلت تونس تراجعًا في إيرادات السياحة خلال الأشهر التسع الأولى من السنة الحالية بأكثر من 8%، مقارنة مع الفترة نفسها في 2015، بحسب أرقام رسمية، وسجلت السياحة التونسية إيرادات بـ1.8 مليار دينار (730 مليون يورو)، مقابل 1.97 مليارًا العام الماضي (800 مليون يورو)، أي بتراجع نسبته 8.4%، بحسب البيانات التي نشرتها وزارة السياحة من الأول من يناير إلى 30 سبتمبر، وبلغ التراجع 34.1% مقارنة مع الأشهر التسعة الأولى من 2014، ويعتبر القطاع السياحي المصدر الثاني الرئيسي للبلاد من العملات الأجنبية حيث تسهم برفد البلاد بنسبة 20% من العملة الصعبة ويمثل قطاع السياحة نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتراجع سعر صرف الدينار التونسي مقابل الدولار ليبلغ مستويات غير مسبوقة، حيث بلغ سعر الصرف (في وقت كتابة هذه المقالة) 2.264، إذ بدأ تدهور سعر صرف الدينار في شهر مايو / أيار سنة 2013 ليبلغ السعر وقتها 1.52 دينار لكل دولار، مما دفع البنك المركزي التونسي إلى التدخل بشكل منظم لضخ السيولة في سوق الصرف في محاولة لتعديل أسعار الصرف ووقف تدهور سعر الدينار.
وشهدت تونس، تراجعًا في مستوى تدفق الاستثمارات الأجنبية، خلال التسعة أشهر الأولى من سنة 2016 بنسبة 4.19% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2015 لتبلغ قيمتها 2.1423 مليون دينار مقابل 6.1765 مليون دينار حسب إحصائيات رسمية، وكانت الاستثمارات الأجنبية في تونس تقدر بنحو 1.58 مليار دولار عام 2010، لكنها تراجعت بشكل حاد في السنوات الماضية نتيجة خروج عدد من المستثمرين وتزايد الإضرابات والصراع السياسي والقلق الأمني، لتصل إلى نحو تسعمئة مليون دولار في 2015.
وأعلنت الحكومة الشهر الماضي، عن رصدها 32 مليار دينار تونسي (15 مليار دولار) لموازنة الدولة لعام 2017، بعد أن بلغت في 2016 نحو 29 مليار دينار (نحو 13 مليار دولار)، مع توقعات بتحقيق نمو اقتصادي بنسبة 2.5%..