(ياما في الحبس مظاليم..) لم تخرج هذه العبارة المتعمقة في التراث الثقافي المصري من فراغ، بل هي حصاد إرث طويل من الظلم الذي تعرض له البعض من قبل جهازي الداخلية والقضاء في آن واحد، فما بين تحريات مباحث شرطية بعضها ملفقة، وأحكام إما أن تكون مبنية على معلومات مغلوطة أو مسيسة، يقبع العشرات بل المئات من المصريين داخل السجون والمعتقلات.
جاء الحكم الأخير الصادر بتبرئة طالب كلية الطب أحمد مدحت، والمتهم بالانتماء لشبكة تدير أعمال منافية للأداب لتلقي بظلالها القاتمة على هذه الظاهرة المتفشية في الشارع المصري في الآونة الأخيرة، فبعد أن قامت الشرطة بقتله بدعوى الاشتباك معه عقب إلقاء القبض عليه داخل شقة دعارة، هاهي المحكمة تصدر حكمها ببراءته من هذه التهمة، لكن بعد أن تمت تصفيته، ليضع العديد من علامات الاستفهام حول مصير العشرات ممن هم على شاكلة هذا الطالب.
طالب الطب ومخطط تشويه السمعة
البداية تعود إلى يوم 5أغسطس الماضي حيث أصدرت الداخلية بيانا قالت فيه إنها ألقت القبض على 7 متهمين بتكوين شبكة لممارسة الأعمال المنافية للآداب بمدينة نصر، من بينها الطالب بكلية الطلب أحمد مدحت محمد كامل، والتي قالت أنه برفقة المدعوة إسراء.ج، قاموا بالقفز من شرفة شقة سكنية بالحى العاشر بدائرة قسم شرطة أول مدينة نصر واستغلالها كنادي صحي بدون ترخيص، وإدارتها في أعمال الدعارة، ما أدى إلى وفاة الأول وإصابة الثانية بكسور وجروح متفرقة بالجسم”.
من جانبه، نفى المهندس مدحت محمد كامل، والد الطالب، رواية الأمن، وأكد أن هناك محاولة من الداخلية لتشويه صورة إبنه، ومحاولة تصدير صورة منافية للحقيقية للرأي العام، من أجل تبرئة ساحتها من جريمتها، قائلا: “ابني عذب حد الموت والداخلية مسؤولة عن قتله، وسأتخذ جميع الإجراءات القانونية لإثبات حقه”.
كما استكر اتحاد طلاب كلية طب عين شمس، في بيان له حينها تصريحات وزارة الداخلية عن مقتل زميلهم، معتبرين أن كل ما أشيع محاولة للتعتيم وطمس الحقائق، وطالبوا السلطات بفتح تحقيقا عاجلا وعادلا حول واقعة مقتل زميلهم، وطالبوا عميد كلية الطب بالتدخل لإجراء تحقيق عادل حول الواقعة.
أحمد مدحت طالب كلية الطب الذي قتلته الداخلية
محمد كمال.. الرصاص هو الحل
ثم جاءت حادثة مقتل القيادي الإخواني محمد كمال ورفيقه ياسر شحاته منذ شهر تقريبا لتلقي بظلالها القاتمة على المشهد بصورة غير مسبوقة، خاصة وأن هذه العملية جاءت عقب تصاعد وتيرة الحديث عن مصالحة مرتقبة بين النظام والإخوان المسلمين، لتأتي هذه التصفية موصده خلفها كل الأبواب نحو انفراجه في الأزمة.
وفي تقرير الطب الشرعي لجثماني محمد كمال ورفيقه ياسر شحاتة، كشف عن إصابتهما برصاصة في الرأس من مسافة أقل من متر دخلت من جهة وخرجت من الأخرى، مما يكذب رواية الداخلية عن تبادل إطلاق النار، وهو ما أكدته زوجة الدكتور ياسر شحاتة، بقولها أن زوجها صلى المغرب يوم الحادث ونزل الساعة 6.30 متوجهًا لمنزل الدكتور كمال، الذي كان يبعد مسكنه عن منزل الدكتور شحاته بخمس عمارات.
في تقرير الطب الشرعي لجثماني محمد كمال ورفيقه ياسر شحاتة، كشف عن إصابتهما برصاصة في الرأس من مسافة أقل من متر دخلت من جهة وخرجت من الأخرى، مما يكذب رواية الداخلية عن تبادل إطلاق النار
وأشارت إلى انها لاحظت سيارة تدور حول العمارة، فتم اتصال بينها وبين زوجها تخبره بأمر تلك السيارة، وخرج الدكتور شحاته من شرفة “بلكونة” شقة الدكتور كمال، وأشارت له على تلك السيارة، ثم بعدها تم مداهمة المنزل- نافية رواية الاعتقال قبل التصفية الجسدية- ثم سمعت صوت رصاصات إطلاق نار، ظنت في البداية أنها للتخويف، ولكن بعد فترة رأت سيارة إسعاف تصل للعقار، وتم تنزيل جثمانين على نقالة الإسعاف إلى السيارة.
محمد كمال القيادي بجماعة الإخوان المسلمين ورفيقه ياسر شحاته
فريد إسماعيل.. التبرئة بعد الوفاة
لم تكن حالة طالب الطب هي الأولى أو الوحيدة من نوعها، ففي 25 أغسطس الماضي قضت محكمة جنايات الزقازيق بالشرقية، ببراءة البرلماني السابق، والقيادي بجماعة الإخوان المسلمين بالشرقية، الدكتور فريد إسماعيل، من تهمة التحريض على العنف والتي وجهت له وتم إعتقاله على إثرها.
جاء حكم البراءة بعد عام بالكامل على وفاة البرلماني السابق داخل محبسه بسجن العقرب، حيث قضى 20 شهرًا داخل الحبس الإحتياطي، بدءا من 2 ديسمبر 2013، وحتى وفاته في 15 مايو 2015، تعرض خلالها لأبشع أنواع التعذيب والإهمال الطبي وهو ماتسبب في وفاة الرجل.
صاحب موت إسماعيل حالة من الجدل داخل الشارع المصري بصورة عامة والشرقاوي بصورة خاصة، لما كان يمثله من قيمة ومكانة للكثير من المقربين منه، فضلا عن المنتمين لجماعة الإخوان ورواده من أبناء دائرته، خاصة وأن الرجل عرف عنه التواضع وعمل الخير.
الدكتور محمد فريد إسماعيل
الغندور وخماسي ريجيني
قائمة التجاوزات التي انتهكتها الداخلية المصرية بحق المواطنين طويلة، ولا يمكن حصرها لما تتضمنه من هدر تام لكل معاني الإنسانية والآدمية، فضلا عن معاني المواطنة التي تعزف عليها أجهزة الإعلام ليل نهار.
فها هو الدكتور طارق الغندور، أحد أبرز أساتذة الجلدية بكل الطب جامعة عين شمس، يفارق الحياة نتيجة الإهمال الطبي وذلك في 14 ديسمبر 2014، بعد معاناة طويلة قاربت العامين داخل محبسه مع المرض دون أن يحرك ذلك ساكنا لحراس السجن.
الغندور تلقى حكما بالحبس خمس سنوات بتهم عديدة منها تكدير السلم العام، والانتماء لجماعة محظورة ( الإخوان المسلمين) إلا أنه وبعد مرور عامين داخل محبسة، تصدر محكمة النقض حكمها ببراءته من التهم المنسوبة إليه، لتضاف حلقة جديدة إلى مسلسل القهر والظلم الذي يواجهه المصريون.
وفي تصريحات لشقيقه أسعد الغندور أشار أن شقيقه ظل ينزف ثماني ساعات وهو مكبل اليدين، وبعد النزيف الحاد زاره الطبيب المناوب بعد طلوع النهار، رغم أن هذا الطبيب موجود ليلا وطوال فترة النزيف، لكن لم يمر عليه إلا بعد أن تأكد أنه توفي إكلينيكيا وانخفض “الهيموغلوبين” من 11 الى 3.5 أي إنه توفي تماما بحسب التقارير التي حصلت عليها العائلة.
الغندور تلقى حكما بالحبس خمس سنوات بتهم عديدة منها تكدير السلم العام، والانتماء لجماعة محظورة ( الإخوان المسلمين) إلا أنه وبعد مرور عامين داخل محبسة، تصدر محكمة النقض حكمها ببراءته من التهم المنسوبة إليه
يضيف أسعد، أنهم أخذوا شقيقه إلى المستشفى وألحقوه بجهاز الأكسجين للتظاهر بالاهتمام به رغم أنه كان قد توفي فعليا، لكنهم أرادوا تجنب التهم الجنائية وهي القتل العمد، وذلك عبر استخراج شهادة الوفاة الرسمية بما يفيد بأنه توفي في المستشفى وليس في السجن.
وعن الحالة الصحية لشقيقه قبل الوفاة يقول أسعد إنه كان مصابا بفيروس الكبد “سي” قبل اعتقاله، لكن أوضاعه كانت مستقرة، ثم بدأت في التدهور بعد اعتقاله مع نقص الرعاية الطبية في السجن، وكذلك نقص الدواء والتضييق على الزيارات لدرجة أن الضابط كان يقوم أحيانا بمصادرة الدواء إذا غضب لأي سبب على الزائرين.
الدكتور طارق الغندور الذي فارق الحياة داخل محبسه نتيجة الإهمال الطبي
ثم تأتي قضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني الذي عثر علي جثته مقتولا وعليه آثار تعذيب لتزيد قائمة إنتهاكات الحقوق التي تمارسها الداخلية، ففي 24 مارس الماضي، أعلنت وزارة الداخلية عن «مقتل 5 عناصر إجرامية في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة»، وقالت إنها عثرت على متعلقات الباحث الإيطالي المقتول، جوليو ريجيني، داخل شقة تسكنها اثنتان من أقارب أحد المتهمين في تشكيل عصابي قتل جميع أفراده في تبادل لإطلاق نار مع الشرطة في القاهرة الجديدة، وأنهم كانوا أعضاء في تشكيل عصابي تخصص في انتحال صفة ضباط بالداخلية، وسرقة واختطاف مصريين وأجانب والاستيلاء على أموالهم.
بينما نشرت صحيفة جارديان البريطانية٬ حينها تقريرا٬ تنفي فيه وجود أي صلة بين الخمسة الذين قتلوا إثر اتهامهم بتكوين تشكيل عصابي لخطف وقتل الأجانب بقضية مقتل الطالب الإيطالي ريجيني، وذكرت الصحيفة تفاصيل الخمسة، الذي تجمعه صلة قرابة وصداقة.
الطالب الإيطالي جوليو ريجني
وجاء في بيان الداخلية: عقب تقنين الإجراءات وإعداد الأكمنة اللازمة لضبط المتهمين المذكورين وحال سيرهم بالسيارة رقم ( ق ف 871 ميكروباص ) بدائرة قسم شرطة أول القاهرة الجديدة ولدى مشاهدتهم للقوات قاموا بإطلاق الأعيرة النارية تجاه قوات الشرطة فبادلتهم مما أسفر عن مصرعهم وحدوث تلفيات بسيارات الشرطة من جراء إطلاق الأعيرة النارية ، حيث تبين أن السيارة الميكروباص مزوده بستائر لحجب الرؤية وعُثر بداخلها على ( جثة أحد الأشخاص مجهول الهوية فى العقد الثالث من العمر بها طلق نارى “جارى تحديد شخصيتة” ) .. كما عثر على ( بندقية آلية عيار 7,62×39 – 12 طلقة من ذات العيار – طبنجة عيار 9 مللى، طلقتين من ذات العيار – بطاقتان تحقيق شخصية عسكرى مزورة منسوب صدورهما لوزارة الداخلية – صاعق كهربائى – 4 هواتف محمولة خاصة بالمتهمين المتوفيين ) .
ومع مرور الأيام تبين كذب هذه الرواية، وهو ما أثار جدلا حول مصير ضحايا الداخلية ومن المسئول عن قتلهم، وهو ما دفع زياد العليمي، عضو مجلس الشعب السابق، إلى توجيه 12 سؤالًا مع الإجابة عليها بخصوص بيان وزارة الداخلية منها: «ليه العصابة احتفظت بأوراق الطالب اللي قتلته؟ العصابة دي بالذات معروف عنها إنها بتحب تجمع تذكارات من ضحاياها، وليه ما جمعوش من ضحايا تانيين؟ ما الهواية دي بدأت مع الحالة دي بالذات، وليه عذبوه؟ علشان يعترف بالباسوورد بتاع الكريديت كارد، وليه ما سحبوش فلوس ولا اشتروا حاجة بالكريديت كارد؟ ما هو الضحية صمد وما اعترفش، الثابت إنه إتخطف من محيط ميدان التحرير يوم ٢٥ يناير، إزاي إتخطف وسط التواجد الأمني ده؟ اتخطف بالميكروباص».
نشرت صحيفة جارديان البريطانية٬ حينها تقريرا٬ تنفي فيه وجود أي صلة بين الخمسة الذين قتلوا إثر اتهامهم بتكوين تشكيل عصابي لخطف وقتل الأجانب بقضية مقتل الطالب الإيطالي ريجيني
كما كتب العليمي: «ليه العصابة تمشي ف عز الظهر بواحد مقتول؟ كانوا رايحين يرموه ف أكتوبر، إزاي العصابة كلها إتقتلت؟ اشتبكوا مع القوات، وإزاي ٥ مجرمين بيشتبكوا مع قوات ومحدش اتقتل أو اتصاب م القوات؟ لأ، أنا مباحث حضرتك، العصابة بتسرق أجانب، ليه تقتله؟ تجربة جديدة، وليه المجرمين ما شربوش الحشيش اللي لقوه ف شنطة ريجيني؟ فيه حد بيشرب تذكار!، طيب لما العصابة كانت بتنتحل صفة ضباط شرطة، إيه اللي يطمنني أنا كمواطن إن اللي بيقابلني ف الشارع راجل شرطة؟ الضباط بيبان عليهم».
من الواضح أن قضية طالب الطب لن تكون الأخيرة، فقد سبقها تاريخ طويل من التناقض الواضح بين اتهامات الداخلية، وأحكام القضاء، ليبقى السؤال: من المسئول عن مقتل هؤلاء الضحايا؟ ولماذا لم يقدموا للمحاكمة؟ وما هو التعويض المناسب لهم بعد تبرئتهم مما نسب إليهم؟ وإلى متى يظل المواطن متهما إلى أن تثبت براءته حتى وإن مات قبلها؟