بعد كل أزمة تحدث في مصر بمختلف القطاعات تظهر المؤسسة العسكرية بإمبراطوريتها المتشعبة في الاقتصاد المصري وأذرعها المتغلغلة في كل مكونات الدولة كمخلص من الأزمة ومساهم في حلها، في حين يبقى التساؤل سيد الموقف فيما إذا كانت الأزمة بالأساس مفتعلة أم لا؟!
أزمة قطاع الصحة المصري: الجيش هو السبب
ظهرت خلال الأسبوعين الماضيين أزمة في القطاع الصحي تمثلت في تأمين المستلزمات الطبية في المشافي والمراكز الصحية والصيدليات، طالت حتى الحقن الطبية (السرنغات) في مشهد متأزم لا يُسأل فيه المقصر فيما قصر ولا يعاقب الجاني! تتقاذف مؤسسات الدولة مع القطاع الخاص الاتهامات في التقصير ويبقى الخاسر الأكبر في النهاية؛ المريض الذي طرق أبواب الصيدليات والمشافي ومراكز الصحية التابعة للدولة ولم يجد دواءه.
ويتساءل مواطنون في جدوى إدارة الدولة للوضع العام فبعدما فشلت مؤسسات الدولة في تأمين المواد الاستهلاكية كالسكر والرز ومن ثم ارتفعت أسعار معظم الخدمات والسلع المدعومة، أضف أن الاقتصاد لا يستطيع توفير فرص العمل ويعاني من أزمات متعددة بدءًا بالسياحة وليس انتهاءً بالأمن العام، ليأتي الآن قطاع الصحة والتلاعب بحياة المرضى! فما الذي تقدمه الدولة للمواطن إذًا؟!
رُفعت شكاوى كثيرة ممثلة من مؤسسات وأشخاص لحل أزمة نقص المستلزمات الطبية، فبرزت المؤسسة العسكرية كعادتها! إذ أعلن المتحدث باسم وزارة الصحة خالد مجاهد إنشاء مصنع للسرنجات بالتعاون مع وزارة الإنتاج الحربي أحد أذرع المؤسسة العسكرية. وذكر المتحدث أن المصنع سيتكلف إنشاؤه 17 مليون دولار وسيوفر نحو 50 مليون سرنجة سنويًا تستخدم جميعها مع المريض لمرة واحدة فقط.
بالرغم من تصريحات مؤسسة الرئاسة المصرية برئاسة السيسي لطمأنة القطاع الخاص في مصر من دخول القوات المسلحة في النشاط الاقتصادي، حيث ذكر في مؤتمر الشباب في شرم الشيخ نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن الأنشطة الاقتصادية للقوات المسلحة تعادل ما بين 1% – 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي وأن الجيش لا يتطلع لمنافسة القطاع الخاص، فإن الواقع يقول غير ذلك! ولا غرابة، ففي مصر أن يكون للجيش دور فعال في النشاط الاقتصادي فهذا ليس مستحدثًا ولا جديدًا على المصريين، فإمبراطورية الجيش قديمة واستطاعت خلال العقود الماضية توطيد حكمها والتوسع بشكل مرن بحيث تستأثر بالاستثمارات القومية وتؤثر على المستثمرين الأجانب بمطالبتهم بحصة في المشاريع التي ينوون الاستثمار فيها.
استمرار نقص المخازن من مستلزمات طبية وبعض الأدوية
وخلال العامين الماضيين بلغ توسع الجيش في النشاط الاقتصادي أوجه فاستحوذت أذرع المؤسسة العسكرية على مشاريع البنية التحتية من طرق وجسور وأبنية ومشاريع الطاقة والصلب وتولت تأمين السلع التموينية وبيع المواد الغذائية ووصل بها الأمر إلى إدارة منظومة البطاقات الذكية الخاصة بوزارة التموين.
وبالنسبة للقطاع الخاص فإن دخول المؤسسة العسكرية في أي نشاط اقتصادي يعد أمرًا طبيعيًا وغير مفاجئ، علمًا أن مراقبين أشاروا أن هذا التغلغل سيضر بالبلاد أكثر مما سيفيد وهناك تخوف أن يتحول الجيش بعد فترة إلى “ممارسة الاحتكار” بشكل غير رسمي وهذا سيؤدي بالضرورة لهروب أو نفور على أقل تقدير للاستثمارات الأجنبية والوطنية لخارج مصر وما يتبع ذلك من زيادة في أرقام البطالة.
ولعل الاحتكار ظهر بشكل جلي بعد أزمة “لبن الأطفال” المدّعمة من قبل الدولة، ففي سبتمبر/ أيلول الماضي شهدت الأسواق المصرية نقصًا شديدًا في مراكز التوزيع المتخصصة في بيع هذا الصنف من المنتجات، واحتج الأهالي ضد هذه الأزمة وخرجوا في مظاهرات احتجاجًا على هذا النقص، ولكن سرعان ما كشفت وزارة الصحة أن لبن الأطفال متوفر.
إذ يعود الفضل للمؤسسة العسكرية التي أعلنت عن استيراد هذا المنتج وطرحه مجددًا في الأسواق لتجني أرباحًا كبيرة جراء تجفيف الأسواق من المنتج وغلاء سعره ومن ثم بيعه ليظهر الاحتكار في أنقى صوره.
الحل في التصنيع المحلي
يعاني قطاع الدواء في مصر من نقص حاد في الأدوية منذ ما يقرب من عام، بدأ برفع أسعار بعض الأدوية بنسبة تقارب الـ30% تخللها نقص غير مسبوق في بعض الأصناف لعدة أسباب، ومن ثم جاءت خطوة تعويم الجنيه التي أقدم عليها المركزي المصري لتشكل أزمة حقيقية.
حيث عمدت الشركة المصرية لتجارة الأدوية إلى تقليص حصة كل صيدلية من دواء الأنسولين المستورد إلى خمس علب فقط يوميًا وقرار آخر من كبرى شركات استيراد وتوزيع الدواء في مصر بخفض كميات الأدوية المستوردة المباعة للصيدليات، واتخذت شركات استيراد وتوزيع أخرى هذا القرار، ويأتي كل هذا بسبب قرار المركزي بتحرير سعر صرف الجنيه.
فإذا عرفنا أن مصر تستورد أصنافًا كثيرة من الأدوية من الخارج بالعملة الصعبة ما يتطلب وفرتها في المركزي واستقرار في الأسواق ليحقق المستورد توازنًا بين تكاليف الاستيراد بالعملة الصعبة وتكاليف البيع بالعملة المحلية في الأسواق المحلية، كما أن أكثر من 90% من مستلزمات إنتاج أصناف الأدوية المحلية مستوردًا، فإن أي ارتفاع في سعر صرف الدولار أمام الجنيه سيؤثر على كلفة إنتاج الدواء المحلي وبالتالي ستعمد شركات الأدوية لرفع الأسعار، ومن المتوقع أن ترتفع تكاليف صناعة الدواء في مصر بنحو 50% نتيجة تعويم الجنيه.
أكثر من 90% من مستلزمات إنتاج الأدوية المحلية مستوردًا
ونتيجة لهذه الأزمة علق أصحاب المخازن وموردي الأدوية مبيعاتهم حتى تتوضح الأسعار، وهذا انعكس أيضًا على الصيدليات التي عمد أصحابها إما إلى غلقها لحين استقرار السوق أو بيع الدواء بسعر أغلى من سعره أو أن يتحمل خسارة.
طبعًا هذا الأمر لا يُقاس ماديًا فقط، فتبعات هذه الأزمة تطال المرضى ذوي الدخل المحدود والفقراء في المجتمع المصري الذين وقفوا في طوابير طويلة قبالة مؤسسات الدولة لأخذ الأدوية الضرورية المستدامة المدعمة التي يحتاج لها مرضى السكري والضغط والكبد وغيرها، فالدواء ليس سلعة كمالية أو ثانوية يمكن تأجيلها أو الاستغناء عنها، ففي بعض الأمراض في حال عدم تناول جرعات الدواء المجدولة فإن تأزم حالة المريض أو موته هو مصير المريض.
يرى خبراء أن الأزمة في قطاع الصحة تتطلب تضافرًا في الجهود بين القطاع الخاص الوطني أو الأجنبي من خلال الاستثمارات الأجنبية بعيدًا عن المؤسسة العسكرية، والدولة نفسها التي يتمثل دورها بالتحفيز وتجهيز بنية استثمارية جاذبة للاستثمار، والهدف يتمحور حول دراسة إمكانية تصنيع المواد الخام محليًا كما فعلت دول عديدة مثل الصين والهند للتخلص من تأثير تحركات سعر صرف الدولار على الأدوية، وتجنب أزمات مستقبلية في قطاع الصحة.