دائمًا ما تشكل ثنائية “المصلحة – الإرهاب” أولوية في الأجندة الخارجية الأمريكية، ومع بداية عصر جديد بالبيت الأبيض، بوصول الجمهوري دونالد ترامب إلى كرسي الرئاسة، وبالرغم من عدم تنصيبه حتى الآن، والمنتظر في يناير من العام المقبل، لم يعد خافيًا على أحد تغير السياسة الأمريكية في العديد من القضايا الدولية والإقليمية، وتبدلت القرارات أو المواقف السياسية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها الأزمة السورية والعلاقات الأمريكية مع كل من روسيا والسعودية ومصر وإسرائيل وإيران، والآن ليبيا، وتحولت من التدخلات الخفية بدعاوى نشر الديمقراطية، إلى التصريحات المباشرة بفرض الأمر الواقع، و”تقسيم الغنائم”.
دعم قوات حفتر
يؤكد تلك التصورات التصريحات الأخيرة غير المسبوقة للمبعوث الأمريكي لليبيا جوناثان وينر التي أشاد فيها بما أسماه “تضحيات الجيش الوطني الليبي، الذي يقوده المشير خليفة حفتر، في المعارك التي يخوضها في بنغازي”.
وقال وينر في تغريدة على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي تويتر: “تضحيات صعبة من جنود الجيش الوطني الليبي، جرى الإعلان في الأسبوع الجاري عن 20 قتيلًا و40 جريحًا في القتال ضد الإرهاب في بنغازي”.
التغير المفاجئ لم يتوقف عند الموقف الأمريكي، بل استتبعه مباشرة موقف أممي كالعادة، حينما أشار مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، مارتن كوبلر، إلى أن القضاء على الإرهاب في مصلحة كل الليبيين.
التغير المفاجئ في الموقف الأمريكي من ليبيا، ليس وليد اللحظة، فالمتمعن في التصريحات التي أطلقها ترامب خلال حملته الرئاسية وخص بها الوضع الليبي، بشأن المهاجرين الليبيين إلى الولايات المتحدة وداعش والنفط الليبي، يدرك تمامًا أنها متوقعة.
تقسيم الغنائم
وقبيل أقل من ثلاثة أشهر من الآن، كانت ليبيا مادة انتخابية دسمة للمرشحين ترامب وكلينتون، خلال حملة التعبئة، وقال المرشح الجمهوري ترامب وقتها، إن ليبيا تمثل إحدى الكوارث التي تسببت بها كلينتون، وتعهد بقصف ليبيا للقضاء على تنظيم داعش، في حالة فوزه في الانتخابات، لكنه لم يكن يشير من قريب أو بعيد إلى شرعية قوات حفتر من عدمها.
ترامب إذًا يسعى لمضاعفة التدخل العسكري بحجة محاربة داعش، مع إمكانية رفع الحظر – الذي فرضته بلاده في الأساس – عن تسليح قوات حفتر، مما يهدد بتعميق الأزمة في البلاد، خصوصًا وأن هناك أكثر من جماعة مسلحة دينية وقبلية، بعضها يؤيد والآخر يرفض هيمنة قوات حفتر، بعيدًا عن تحركات حكومة الوفاق.
التساؤل الأهم هنا، هل ستسعى الولايات المتحدة إلى تدخل مباشر، وبعتاد عسكري جوي وبري في الأزمة الليبية، أم ستكتفي بالدعم اللوجستي الذي كانت توفره إدارة أوباما، مع زيادته بعض الشيء؟
يمكننا للإجابة على هذا التساؤل بالعودة إلى تصريحات ترامب بعد الانتخابات التي قال فيها ردًا على سؤال “فوكس نيوز” ما إذا كان التدخل الأمريكي في ليبيا في 2011 لإسقاط القذافي قرارًا صائبًا أم لا؟ حينما رد بالقول: “كان يجب أن نشترط على الثوار أن نأخذ نصف النفط الليبي مقابل مساعدتهم في حربهم ضد نظام القذافي”، وتابع: “حين كانت تندلع حرب في القديم، فإن الغنائم تعود للمنتصر”.
هذا هو رد ترامب، وهذه هي استراتيجيته المقبلة، مما يعني أن الإدارة الأمريكية ستدفع بثقلها في ليبيا، ليس لدعم الحكومة الشرعية أو قوات الجيش الليبي من أجل تثبيت دعائم الديمقراطية – وهي الجملة المعروفة دائمًا في الأكاذيب الأمريكية بخصوص منطقة الشرق الأوسط -، لكنه هنا يبحث عن غنائم، وبالتالي لن تقبل واشنطن أن تجني فرنسا أو إيطاليا ثمرة مجهود حربي بمفرديهما، وستسعى إدارة ترامب لمزاحمة باريس في الملف الليبي، وإن كان بعض المحللين يرون أن هذه الأطراف تقريبًا متفقة على ماهية حلفائها، والوضع الحالي قريب إلى التوافق بين هذه الأطراف، والتنافس مؤجل لوقت آخر، وستسعى كل منها إلى تثبيت وجودها العسكري في ليبيا، بدعوى محاربة داعش في سرت، والهدف الرئيس سيكون مراقبة آبار النفط في كل ليبيا قبل “تقسيم الغنائم”.
حفتر أم السراج؟
لكن، ما الذي يغري ترامب بدعم خليفة حفتر قائد عملية الكرامة، والابتعاد عن حكومة السراج المدعومة أمميًا، هل هو فقط نجاح حفتر في انتزاع الهلال النفطي من قبضة السراج، وإعلان خليفة الغويل رئيس الحكومة السابق سيطرته على مقر حكومة الوفاق ووقف عمل حكومة السراج؟
إذا كان الأمر كذلك فقد تتدخل كل من فرنسا وإيطاليا، ومن منطق تقسيم الغنائم، في خط الأزمة بدعم قوات حرس المنشآت التابعة لحكومة السراج، لاسترداد الهلال النفطي، مما يعني تأزيم جديد للموقف.
لكن في مقابل الميزة النسبية لحفتر، هناك نجاح موازٍ لحكومة السراج، التي نجحت في حرمان تنظيم داعش من معقلهم الرئيسي في ليبيا، مدينة سرت، بعد عدة أشهر من إطلاق عملية البنيان المرصوص، وحاصرت التنظيم في منطقة الجيزة البحرية على أطراف سرت وهي صغيرة جدًا، ومن ضمن أولويات ترامب أيضًا الفضاء على داعش.. كيف سيتحرك إذًا؟
تداعيات كارثية
برأي الخبراء سيحاول ترامب في البداية تجربة الطرفين، فايز السراج وخليفة حفتر، ويمد حدود التواصل مع الطرفين، ليستقر في النهاية على من يحقق الصالح لبلاده – واشنطن – أكثر، الأمر الذي يعني أنه سيتحرك في ليبيا بعيدًا عن الأوروبيين “فرنسا وإيطاليا”، وبالتالي ستصبح خطورة الأمر هنا ليست في استحواذ القوى الدولية على الخيرات الليبية فقط، ولكن ما سيستتبعه ذلك من تداعيات، حيث من المتوقع أن نصفي تلك الدول حساباتها مع بعضها البعض، في حال الاختلاف على توزيع الغنائم، من خلال استغلال أيادٍ ليبية بالاستقطابات الشديدة بين الفرقاء على رقعة الشطرنج الليبية المتأزمة، وتأزيم الوضع بتمكين أعداد هائلة من مقاتلي داعش من التسرب إلى الداخل الليبي، بعد طردهم من الموصل والرقة، ما ينذر بسيناريو كارثي إذا لم يتفطن الليبيون ودول الجوار له.