إن سألت معظم المحللين كيف يرون الفترة الاقتصادية القادمة في عهد ترامب وما هي ملامحها، يصعب التوقع أو تحليل السياسات المستقبلية لرئيس أمريكا الخامس والأربعين على ضوء الوعود التي أطلقها فترة الانتخابات لكونها مستهجنة ومتناقضة، هذا بالإضافة أن بعضها غير قابل للتطبيق على أرض الواقع دون أن تكون له آثار كارثية على قطاعات مختلفة في أمريكا على المدى البعيد، أو التقويض من قوتها الخارجية أو عزلها في المحافل الدولية.
التنبؤ بسياسات ترامب الاقتصادية سواء كانت الداخلية أو الخارجية هو كالتنبؤ بأوراق خصمك في لعبة الورق، فلا تعرف ما هي الأوراق التي سيطرحها على الطاولة ولا كيف سيلعب بها.
ترامب:على أمريكا الاستحواذ على النفط العراقي
الواضح أن أغلب تصريحات ترامب عزفت على وتر الاقتصاد وعزمه على جعل أمريكا أمة صناعية عظيمة مرة أخرى، مزدهرة اقتصاديًا، تشير إلى نية الرئيس الحالي لطمس معظم إنجازات الرئيس أوباما وإدارته التي حققها في السنوات الثمانية المنصرمة وشطب القوانين والإجراءات التي مررها في عهده السابق.
النفط سيزداد تذبذبًا
من بين الوعود التي أطلقها ترامب، رفع التعرفة والرسوم التي كانت مفروضة على قطاع الطاقة والغاز والتي طبقت في فترة حكم أوباما، التعرفة كانت لتشجيع الشركات في قطاع الطاقة والغاز للاستثمار في قطاعات مختلفة من الطاقة البديلة كالنووية والشمسية وأخرى والتي لا تضر بالبيئة، وصرف النظر عن الطاقة التقليدية من الغاز والنفط الصخري والتي تسبب خللاً في التوازن البيئي على سطح الأرض بالأخص النفط الصخري المعروف بصعوبة التنقيب عنه، وهو ما يتميز به نفط الولايات المتحدة والذي يعتبر غالي التكلفة ومضر للبيئة في آن واحد.
تصريحات ترامب الأخيرة برفع الرسوم ستحفز شركات الطاقة والغاز بالعدول عن التفكير في الطاقة البديلة والرجوع إلى التنقيب عن النفط الصخري والغاز لأنه في تلك الحالة سيكون أقل تكلفة من الولوج إلى صناعات الطاقة البديلة إذا ما تم بالفعل رفع الرسوم والتعرفة، وهذا سيؤدي إلى ضخ المزيد من النفط في السوق وتضخم في الإنتاج العالمي للنفط منافسًا منظمة الأوبك ومزاحمًا الدول المنتجة.
النفط كان قد أخذ ضربة قوية خلال العامين المنصرمين، ومنذ بداية السنة انخفضت القيمة السوقية انخفاضًا حادًا، حاليًا يقف عند مستويات 44 دولارًا للبرميل، ومنذ هذا الانخفاض الحاد ومنظمة الأوبك تحاول جاهدة السيطرة على إنتاج المادة الخام من خلال التحكم في كمية العرض في السوق، والتوصل إلى اتفاق مشترك بين أعضاء المنظمة والتي تختلف أجنداتها في سياسة عرض إنتاجها في السوق اختلافًا كبيرًا.
فبينما تسعى السعودية مع باقي الدول من بينها روسيا وفنزويلا للتحكم في كمية العرض في السوق حتى يتم رفع الطلب وبالتالي رفع السعر أو على الأقل بقائه في المستويات الحالية، تأخذ إيران اتجاهًا آخر وهو الرغبة في زيادة الإنتاج، فإيران تريد الاستفادة قدر الإمكان من رفع العقوبات عليها في الآونة الأخيرة والتعويض بضخ كميات كبيرة في سوق النفط.
الدخيل في معادلة النفط هذه المرة هو تصريحات ترامب، فترامب لم يكن أبدًا من مؤيدي رفع العقوبات على إيران كما صرح من قبل باعتبار إيران دولة راعية للإرهاب، وانتقد سياسة أوباما مع الدولة ورفع العقوبات عليها، ويبدو أنه بدأ في تنفيذ تصريحاته بشأن التعامل مع إيران، فقد أوقفت شركة الطائرات الأمريكية الصفقة التي عقدتها مع إيران وتزويدها بالطائرات التجارية من بوينغ وإيرباص المتفق عليها من قبل إدارة أوباما عندما صوت غالبية مجلس الشيوخ من الجمهوريين لوقف الصفقة.
أدعى ترامب أيضًا أنه سيوقف استيراد النفط من السعودية لكونها تمول منظمات إرهابية كداعش، وإن لم تتوقف عن الدعم فإن أمريكا ستوقف التعامل مع المملكة العربية السعودية، وهذا التصريح غريب بعض الشيء وغير واقعي كما يراه المحللون وما كان إلا لدغدغة مشاعر الناخبين، وذلك أن الولايات المتحدة تستورد النفط الخام من أرامكو، حوالي مليون برميل في اليوم، وتكرره في المصافي الأمريكية، مما يعني أن وقف استيراد النفط سيضر بطبقة العاملين في هذا القطاع والذين صوت أغلبهم لترامب في الانتخابات الرئاسية على أمل تحسين معيشتهم لا لقطع أرزاقهم.
قطاع البنوك والاستثمارات المالية قد تعود إلى الفقاعة
لدى ترامب نظرة تقليدية في مجال إدارة البنوك المصرفية والأسواق المالية وكيف يجب أن تدار بأقل درجة من القيود أو الضوابط كما كانت قبل الأزمة المالية، فصرح بأنه سيرخي كثيرًا من القوانين الحالية والتي عمل أوباما جاهدًا على تطبيقها بعد الأزمة المالية الأخيرة في 2008 بحيث تضمن هذه الإجراءات والقوانين المطبقة عدم تلاعب البنوك الاستثمارية والمؤسسات المالية في خلق فقاعة جديدة مستقبلاً تؤذي الاقتصاد وتؤدي إلى انهيار النظام المالي كما حدث سابقًا.
ساعدت القوانين التي سنها أوباما على رفع نسبة الشفافية في البنوك وإجبار هذه الشركات على إعلان الحوافز والعلاوات المهولة التي كان يتقاضها المدراء التنفيذين، والعمل على وضع سقف لها خاصة وأن تلك البنوك والمؤسسات المالية واجهت سيلاً من الانتقادات اللاذعة من دافعي الضرائب والإعلام والاقتصاديين.
تلك الإجراءات والمقترحات المطبقة من خلال الجهات التنظيمية ساهمت في تعزيز المحاسبة والمساءلة وتعزيز تطبيقات الحوكمة في المؤسسات، كما أنه، وما يعتبر إنجازًا يحسب لأوباما، وهو وضع الضوابط للحد من التعامل بمشتقات السندات الشديدة التعقيد في تركيبها لما تحمله من نسبة مخاطرة عالية، والتي كانت من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انهيار الكثير من البنوك الاستثمارية وإفلاس حكومات دول كآيسلندا وتردي اقتصاد الكثير منها، والتي تحاول الحكومة الأمريكية والحكومات الأوروبية التقليل من أضرارها والحد من تبعاتها إلى هذا اليوم.
ترامب من جهته يريد عودة الأسواق المالية إلى عهدها القديم، فهو يعتبر القوانين الحالية عائقة وصارمة جدًا وتحد من التعاملات التجارية والصفقات الاستثمارية، ورفعها أو التقليل منها سيزيد من المعاملات البنكية والاستثمارية ويؤدي إلى خلق الوظائف وانتعاش الاقتصاد، وقد يكون هذا هو السبب المباشر لاستقالة ماري وايت رئيس Securities Exchange Committee لجنة الأوراق المالية من منصبها قبل ثلاث سنوات من مدة إنهاء خدمتها.
وهذه اللجنة هي هيئة تنظيمية لمتابعة سوق الأوراق المالية من سندات وضمانات، تتمتع بسلطة رقابية نافذة لضمان سير عمل هذه الأسواق المالية ومنع أي تلاعب من قبل الشركات، ويبدو واضحًا أن رؤية ترامب لا تتوافق مع إدارة ماري وايت واستراتيجية اللجنة الحالية والتي تتسم بالصرامة.
يزعم ترامب إعادة مجد الولايات المتحدة مرة أخرى لتكون قوة كبرى في مجال الصناعة، ويبدو أن أجندته الاقتصادية، على الأقل، تتضمن رجوع العجلة إلى ما قبل الأزمة المالية وتبني السياسات نفسها التي كانت مطبقة قبل 2008 بكل ما فيها من عيوب وثغرات وتدمير ذاتي للنظام المالي، فسياسة أوباما الحالية في وجهة نظره تكبل عجلة الاقتصاد وتحد كثيرًا من الاستفادة من الفرص الاستثمارية والتجارية.
المؤكد أنه وكما يعرف مفهوم المخاطرة في عالم المال بأنه عدم التأكد أو اليقين لمخرجات الحدث في المستقبل من إيجابي أو سلبي، فإن سياسة ترامب بلا شك تتسم بالمخاطرة العالية التي لا توجد في معادلتها نتائج إيجابية إلا على المدى القصير فقط، فهذه المخاطرة قد تتسبب في كارثة على مستوى العالم وتبعات عميقة.
مزيج من الترغيب والترهيب
ينوي ترامب تخفيض نسبة الضرائب على الشركات الكبرى، وذلك لتشجيعها على البقاء في أمريكا وزيادة الإنتاج، وإن لم تنفع الضرائب في تحفيز وإبقاء مصانع كبرى الشركات في الولايات المتحدة، فإنه يستخدم خيار الترهيب، كما حدث وأشار لشركة APPLE والتي تعتبر أكبر الشركات في القيمة السهمية في السوق إن لم تنقل مصانعها وإنتاجها من الصين إلى الولايات المتحدة فإنه سيغلق عليها الطريق.
وعود ترامب اتسمت بمزيج من الترغيب والترهيب، الجزرة تارة والعصا تارة أخرى للشركات والمصانع، كتصريحاته الأخيرة بشأن شركة Ford للسيارات الأمريكية، ثاني أكبر شركة سيارات في الولايات المتحدة، فقد حذرها من نقل مصانعها إلى المكسيك مما دفع بالشركة إلى التصريح أكثر من مرة أنها لم تكن تنوي بالأساس نقل مصانعها خاصة موديل “لنكن” إلى المكسيك، وإنما تنوي أن توقف إنتاج سيارات SUV لإنخفاض الطلب عليها انخفاضًا حادًا في السنوات الأخيرة، والبدء في إنتاج السيارات الصغيرة الحجم.
لا نعرف مدى جدية التصريحات التي أطلقها سواء في الشؤون الداخلية أو الشؤون الخارجية، فقد تكون ورقة استخدمها ترامب لجذب قاعدة كبيرة من الناخبين لتكون فقط وعود انتخابية تذهب وتتبخر مع قيادة الدولة أو قد تكون أهدافًا حقيقية يريد تطبيقها على أرض الواقع ولكن في دولة ذات مؤسسات، التغيير فيها ليس بالسهولة المتوقعة، فحتى وإن كان جادًا في تحقيق وعوده، قد يصدم بالتيار المعارض من مؤسسات الدولة كما حدث مع أوباما حين أوصى بغلق معتقل غوانتاناموا، إن سياسات ترامب ووعوده الاقتصادية كان من السهل إطلاقها في فترة الانتخابات ولكن الآن هو على المحك وخاصة أنه يفقد ثقة نصف الشارع.
الولايات المتحدة مقبلة على فترة حساسة في تاريخها السياسي والاقتصادي فأتوقع ألا تقبل بعض الولايات بالسياسات الاقتصادية خاصة الولايات الغربية كولاية كاليفورنيا صاحبة المساهمة الأكبر لناتج أمريكا المحلي (حوالي 2.5 مليار دولار)، لذلك نتساءل إلى أين ستقود سياسة ترامب الولايات المتحدة، أو أين ستقود سياسة الولايات المتحدة ترامب؟ وحدها الأيام القادمة ستزيل بعضًا من هذا الغموض.