من المفترض أن يثير انتخاب ترامب أسوأ المخاوف التي دارت في ذهن هنتنجتون ورفاقه وهو يخط بقلمه كتابه “من نحن”.
وإن كان هنتنجتون قد استشرف المستقبل الأمريكي، واستشعر الخطر المحدق بالهوية الأمريكية من الإثنيات والعرقيات المختلفة، فإن ترامب وخطابه الأهوج خير مثير لهذه المخاوف، وخير من يجسدها كواقع مفزع.
هنتجتون مؤلف من نحن تحديات الهوية الأمريكية
فقد وضع هنتنجتون في كتابه “صدام الحضارات” الحضارة الإسلامية في صدام مباشر مع الحضارة الغربية، حيث قسَّم هنتنجتون الحضارات القوية ذات القدرة على البقاء إلى ثماني حضارات كبرى من أهمها الصينية واليابانية والهندية والإسلامية والغربية.
وانتهى إلى تصور مؤداه حتمية الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وهو إن كان قد طرَح نظريته الصدامية هذه في مقابل طرْح فوكوياما “نهاية التاريخ” الذي أراد إعلان تفوق حضارة الرجل الغربي الأبيض، ومع كونه رجل سياسة من الطراز الخاص إلا أنه أغفل أمرًا هامًا في عالم السياسة الغربية عامة والأمريكية خاصة، هو أنه من أجل بقاء سيطرتك وهيمنتك لا بد لك من عدو، ومن هنا كان فن صناعة العدو في عالم السياسة.
الغرض أن هنتنجتون وقع فيما فر منه، فهو من جهة رفض فكرة نهاية التاريخ، إلا أن صدامه قد تضمنها، حيث أوقف هذه النهاية على إتمام القضاء على ما تبقى من حضارات مناوئة لحضارة الرجل الأبيض، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية، التي تحمل في مضمونها، وفق النظرة الغربية عقيدة الجهاد ضد الآخر، ولا أدري بماذا نسمي الطرح الهنتنجتوني سوى: الحرب ضد الآخر.
وهذا الطرح الهنتنجتوني يتفق مع رؤى سياسية عديدة في الفكر الأمريكي تتمحور حول ما اصطلح عليه بالخطر الإسلامي، وما زال هذا الطرح يسيطر بشدة لا سيما في الآونة الأخيرة على مراكز البحث الأمريكية المختلفة.
والسياسة الأمريكية تعتبر خير تجسيد لهذا الطرح الحربي الإبادي ضد الآخر كل الآخر، ليس الآن فحسب، بل منذ وجودها منذ ما يقرب من الثلاثمئة سنة، فأمريكا هي رائدة الأمم في الإبادات الحضارية والثقافية للبشر، على اختلاف تنوعهم، ولا تتفاجأ، نعم ثلاثمئة سنة، فهذا فقط هو عمر هذه الحضارة الدعيّة، وهي مع ذلك آيلة للسقوط، وتعددت أسباب ذلك، ولكن السؤال: أي هذه الأشياء سيكون السبب الرئيس المباشر؟
ثم جاء هنتجتون في “نحن والآخر” ليطرح نوعًا آخر من الصدام والصراع ولكن داخل أمريكا لا خارجها، في محاولة لإنقاذ الهوية الأمريكية، فقدم طرحًا بنائيًا إصلاحيًا للهوية الأمريكية التي تقوم على التعدد الثقافي الإثني اللغوي، إلخ، فيالها من هوية!
وكالمعتاد جعل العنصر الأبيض المسيحي القادم من أوروبا على قمة هذا البناء الهوياتي، بل ذهب أبعد من ذلك حيث جعل الحضارة الغربية برمتها مرهونة بالشعب الأمريكي.
خطر الإثنيات.. هل سيمنعه جدار ترامب؟
وأما الخطر المحدق بهذه الهوية يتمثل في الإثنيات والعرقيات المتعددة المختلفة المناوئة المهددة، وفي مقدمتها العرق المكسيكي، الذي يزعم أنه طاردٌ للرجل الأبيض من مواضعه الأمريكية، وربما يقوم يومًا بشن حرب لاستعادة ما فقد منه من أراض مكسيكية عام 1840م، وفي القرن التاسع عشر بصفة عامة.
وأما الخطر الذي يأتي من السود، هو في نظر هنتنجتون أقل بكثير من الخطر المكسيكي، لأسباب منها أن تعداد السود لا يتجاوز 13%، كما أنهم أكثر اندماجًا في المجتمع الأمريكي حتى صاروا جزءًا من الهوية الأمريكية، ولو عاش هنتنجتون ليومنا هذا لاستطاع أن يحكم بصورة مختلفة عن مدى تأقلم العنصر الأسود مع الهوية الأمريكية.
ونلاحظ أن الخطر الخارجي المطروح في صدام الحضارات يتصل بخيط رفيع بالخطر الداخلي ليصل إلى الإثنية العرقية الإسلامية داخل أمريكا، ولم يطرحها هنا هنتنجتون، ربما لظنه أن الحرب الأمريكية الخارجية الشعواء الشرسة على العالم الإسلامي ستقوم بالقضاء على هذه الحضارة الإسلامية، ومن ثم إخضاع من بالداخل.
الخطر الحقيقي الآن هو في الطرح الذي قدمه هنتنجتون في مواجهة هذه الإثنيات المهددة للهوية الأمريكية ومن ثم للحضارة الغربية، هذا الطرح الذي يتبناه اليمين الأمريكي على طول الخط، هو نفسه الذي يتبناه وينتهجه وبشكل علني وفج وهوجائي: “ترامب”
هذا الطرح مؤداه مواجهة هذه الإثنيات العرقية بالعنف والشدة التي تتجاوز الإقصاء والتهميش، ويعتبر ذلك رد فعل طبيعي مؤيد بالتجارب التاريخية والمعاصرة، يقول: “الأمر الذي يؤدي إلى ظهور بلد غير متسامح على المستوى العرقي ويتميز بدرجة عالية من الصراعات الإثنية والعرقية الداخلية”.
فلا بأس أن تتحول أمريكا إلى بلد غير متسامح، فإن هذا أمر سوف يقوم بتغطيته منطق غطرسة القوة الصلبة والناعمة، ومنطق التبعية والإخضاع، في عالم فوضوي أبعد ما يكون عن حكم العقل والقانون.
ولكن الخطر القادم من ترامب سيجعل من مخاوف هنتنجتون أضغاث أحلام أطفال.