نشهد اختلافًا في طبيعة خطاب رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان، وقد يكشف هذا الخطاب لنا طريق تركيا الكبيرة 2023 الذي نقترب منه كل يوم بشكل مشهود بتطور الإنجازات في تركيا، مع وجود المخاطر والتحديات المتعاظمة المحيطة بهذا المشروع في كل من سوريا والعراق، فإننا يجب أن نحلل هذه الخطابات، وننظر بعمق في مدلولاتها، وهل هي نداء لتحالفات معينة أم لا؟
إلى الآن ينظر الجميع لإدارة الرئيس الأمريكي الجديد بتأهب، فدول تنتظر الأمل، وأخرى ترتقب الألم، وكثير من المحللين ينتظرون ترامب حتى يرسى على بر واضح، ليحددوا موقفهم منه، ولكن مع مضي الأيام يتعرفون إلى مزيد من الشخصيات صاحبة الآراء المتطرفة التي لطالما أثارت تخوف كثير من مواطني الولايات المتحدة الأمريكية وغيرهم من مواطني وسياسيي الشرق الأوسط، مما يحدوهم إلى تضييق الخناق حول دائرة الأمل، ولكن ما يدرينا، لعل التلاقح بين الديموقراطية والترامبية الجديدة، سيخفف من وطأة هذه المعاناة، ولعل المؤسساتية ستلعب دورًا يجعل ترامب يقتنع بأن يحقق مكاسب اقتصادية بالمنحى المعتدل، وفي ظل هذا الظرف يتوجه السيد أردوغان بتركيا إلى صناعة سياستها الخاصة سواءً بالخطابات أو بالتحالفات المرتقبة.
كانت لهجة الخطاب الموجه من أردوغان إلى رئيس البرلمان الأوروبي واضحة وشديدة، إذ هي تعبر عن تحول في نظرة تركيا إلى الاتحاد الأوروبي كأحد أولوياتها للانضمام إليه، وهذه اللهجة تلت قضية طرح استفتاء “حكم الإعدام” على الشعب ليقرر مصير من كان له السبب المباشر في مقتل 242 شهيدًا يوم 15 من تموز، ثم يكشف لنا رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولز سبب عدم رغبتهم في إنهاء قضايا المفاوضات مع تركيا للانضمام: “فإذا أوقفنا هذه المحادثات نكون قد فقدنا سلاحنا الوحيد الذي يخولنا التدخل في شؤون تركيا الداخلية“، وهذه حقيقة، إذ إن “تركيا القرن الماضي” سعت إلى إلصاق نفسها ضمن العالم الأوروبي منذ 1959، ولم تحصل على نتيجة نهائية سوى استغلالها وجعلها أداة لتنفيذه مآرب السياسة الأوروبية، وقد اعتبرت فترة ما يقارب من 60 سنة كافية لأردوغان ليحدد طريقًا خاصًا في هذه القضية، وليوقف التلاعب الذي أعلن عنه رئيس البرلمان الأوروبي.
وأما عن توجيه التهم لإيران في بيانه عن خطر التوسع الفارسي في العراق، فما هو إلا إشعار لمن يخاف من أن يتمدد هذا الخطر الفارسي لدولهم بأن يوثقوا علاقتهم بتركيا، ويشدوا حبالهم بها، وليلقوا عصيهم على الموجات التي تهدد عواصمهم، نعم إنه نداء واضح للإخوة العرب بأن يقوموا بالتنبه لما حولهم، وليختاروا شريكهم الثقافي، وقسيم تاريخهم الحقيقي، ومنه أيضًا توجيه اللوم لإيران التي ما فتأت تلعب بهم، فكأنه يقول “يا أخوتنا العرب تعالوا إلى كلمة توّحد صفوفكم، وتعلي قوتكم أمام من يحتل عواصمكم”.
وأما عن الجولة التي توجه بها الرئيس أردوغان مع وفد رفيع المستوى إلى باكستان وأوزباكستان، تكوّنت من نائب رئيس الوزراء ويسي قايناك، ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، ورئيس الأركان خلوصي أكار، ورئيس الاستخبارات الوطنية هاكان فيدان، وكل من وزيرة الأسرة ووزير الاقتصاد ووزير الموارد والطاقة المعدنية، لم تكن عبثًا، فبها نفهم رسالة واضحة للاتحاد الأوروبي، أن تركيا لم تعد كما كانت في السابق سبّاقة في الهرولة خلف “حلم الانضمام”، ويؤكد ذلك تصريح أردوغان بعد عودته من زيارته هذه: “تركيا من الممكن أن تنضم إلى تكتل أمني تهيمن عليه روسيا والصين”، بما معناه أن تركيا ليست مضطرّة إلى تحقيق “حلم الاتحاد الأوروبي”، في إشارة منه إلى مجموعة شنغهاي التي تتكون من روسيا والصين وكل من كازاخستان وقرغيزستان وأوزبيكستان وطاجيكستان، وهنا يصرّح بأن هذه المجموعة ستكون البديل الذي يضغط به على أوروبا مقابل تدخلات أوروبا في الشؤون الداخلية التركية.
إن العلاقات المستقبلية مع القارة الأوروبية لن تنقطع، ولا تعني الخطابات تلك أن تركيا تنوي التوجه إلى العالم الشرقي، إنما انتقال العلاقات التركية – الأوروبية إلى مستوى مختلف من الدبلوماسية، وفي ذلك لون ملموس يدل على مستوى قوة آخر لتركيا، وانتقالها إلى سياسة الموازنة بين الشرق والغرب، وهذا كله سيلعب حتمًّا الدور الأبرز في دعم سياساتها في قضايا العراق وسوريا، وما يكمّل ذلك هو إذا ما تمت “تحالفات مؤثرة” بين تركيا والعالم العربي قد تقف في وجه مشروع استعمار جديد، أو مخطط تقسيم يطبخ للمنطقة، أو حتى احتلال لعواصم عربية أخرى.