جاءت زيارة العاهل المغربي الملك محمد السادس، لإثيوبيا، في مستهل جولة إفريقية شملت مدغشقر وكينيا ونيجيريا، لتضع العديد من التساؤلات بشأن الدوافع الحقيقية لهذه الزيارة التي تعد الأولى من نوعها منذ تنصيب السادس ملكًا عام 1999م.
الزيارة التي جاءت على رأس وفد مكون من 63 شخصية بينهم وزراء ومستشاري الملك وكبار المسؤولين وشخصيات شعبية ورسمية، فرضت نفسها على موائد الحوار المغربي الإفريقي، لما تمخضت عنه من طفرة كبيرة في منسوب العلاقات بين الجانبين بعد برودة دامت عقودًا طويلة.
بعيدًا عن الأهداف الاقتصادية والسياسية التي تنشدها الرباط من وراء تلك الجولة الإفريقية، إلا أن التوقيت الزمني لها يضع بعض علامات الاستفهام، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع القاهرة، والتي شهدت توترًا في الفترة الأخيرة جراء استقبال مصر لوفد البوليساريو في شرم الشيخ الشهر الماضي، فهل جاءت زيارة العاهل المغربي لإثيوبيا ردًا على استقبال القاهرة للحركة المعادية للرباط؟ وهل يأتي التقارب المغربي الإثيوبي على حساب المصالح المصرية في العمق الإفريقي؟
العودة للاتحاد الإفريقي
تأتي جولة العاهل المغربي لإفريقيا في وقت تعاني فيه الرباط من التوتر في بعض الملفات، أبرزها ملف العودة للاتحاد الإفريقي، وهو ما دفع المحللون للتأكيد على أن الهدف الأول لتلك الزيارة التهيئة لاستعادة المغرب مقعدها داخل الاتحاد الإفريقي، والذي غادرته طواعية عام 1984 احتجاجًا على اعتراف المنظمة بحركة البوليساريو.
فالزيارة تهدف في المقال الأول لإقناع الحكومة الإثيوبية بدعم المغرب في طلب العودة إلى الاتحاد، إضافة إلى إبرام اتفاقيات مع القطاعين العام والخاص في إثيوبيا قصد تطوير المبادلات بين البلدين، ضمن خطة ينتهجها المغرب وتهدف إلى توسيع الاستثمارات في البلدان الإفريقية وتعزيز المبادلات التجارية معها، كما سيرد ذكره لاحقًا.
كما أن هذه الجولة الإفريقية التي تشمل أربع دول تحمل أهمية دبلوماسية كبيرة، إذ تسعى الرباط ولأول مرة في تاريخها إلى طرق أبواب الدول ذات التأثير في الاتحاد الإفريقي، فبعد نجاحها في كسب دعم وتأييد الدول الفرانكفونية ها هي تتحرك نحو المحور الأنجلوساكسوني الذي يضم تنزانيا وإثيوبيا ورواندا، وهو الأكثر تأثيرًا وسيطرة على القرار السياسي داخل الاتحاد، خاصة فيما يتعلق بقضية الصحراء، بهدف عزل جبهة “البوليساريو” إفريقيًا.
الزيارة تهدف في المقال الأول إلى إقناع الحكومة الإثيوبية بدعم المغرب في طلب العودة إلى الاتحاد، إضافة إلى إبرام اتفاقيات مع القطاعين العام والخاص في إثيوبيا قصد تطوير المبادلات بين البلدين
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة العين للعلوم والتكنولوجيا في الإمارات سعيد الصديقي، قال إن زيارة العاهل المغربي تأتي في إطار تهيئة المغرب لظروف انضمامه إلى منظمة الاتحاد الأفريقي، وهذا ما جعله يوسع من فضاء علاقاته إلى دول شرق إفريقيا، وتعزيز روابطه مع الدول الناطقة بالإنجليزية التي لها نفوذ قوي في المنظمة الإفريقية، خاصة وأن إثيوبيا يوجد بها المقر المركزي والرسمي للاتحاد.
وبالفعل ألقت هذه الزيارة بظلالها على أجواء العلاقات المغربية الإثيوبية سريعًا، فها هو رئيس الوزراء الإثيوبي هيلي ماريام ديسالين يصف زيارة محمد السادس بـ”التاريخية والمهمة”، قائلاً في بيان مشترك له مع العاهل المغربي: “نرحب بعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، وندعمه بقوة في هذا الاتجاه، والعودة مدرجة على أجندة القمة الإفريقية القادمة بأديس أبابا في يناير”.
وأضاف ديسالين: نحن مع العمل الجماعي في الاتحاد الإفريقي، وسنعمل مع المغرب على إقامة شراكة متكاملة، والاتفاقيات ستضع أسسًا قوية للتعاون بيننا.
عودة المغرب للاتحاد الإفريقي باتت وشيكة
التعاون الاقتصادي
لم تكن العودة للاتحاد الإفريقي هي الهدف الوحيد لجولة العاهل المغربي لإثيوبيا، إذ هناك رغبة واضحة في تدشين صفحة جديدة من العلاقات الاستراتيجية المغربية الإثيوبية عبر بوابة الاقتصاد، في إطار تنويع الشركاء الأفارقة في شرق القارة وغربها، وهو ما أشار إليه الكاتب الصحفي المغربي محمد العلوي.
العلوي أكد أن من أبرز ما يترجم رغبة البلدين في تدشين صفحة جديدة من العلاقات على أسس اقتصادية، إبرام عدة اتفاقيات بين القطاعين الحكومي والخاص بحضور العاهل المغربي الملك محمد السادس ورئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالغن، حيث وقعوا 13 بروتوكول اتفاق ومذكرة تفاهم في مجالات التجارة والاستثمار والضرائب والزراعة والمياه والري، لكن أبرز الصفقات كانت تلك التي تتعلق بإنشاء مجمع للأسمدة في مدينة ديري داوا شرق إثيوبيا.
الكاتب المغربي استطرد بعض أهم المشروعات التي تم توقيعها خلال هذا اللقاء الذي جمع حكومتي المغرب وإثيوبيا، جاء في مقدمتها الاتفاق المبرم بين مجمع الشريف للفوسفات المغربي والحكومة الإثيوبية، لإقامة مجمع ضخم لإنتاج الأسمدة الزراعية باستثمار قيمته 3.7 مليار دولار خلال السنوات الخمسة القادمة، مما يعد أكبر استثمار خارج المغرب، وهو ما من شأنه أن يحقق الاكتفاء الذاتي لإثيوبيا بحلول 2025، بحسب مصدر رسميّ.
واعتبر يونس بلفلاح الباحث المغربي المختص في الاقتصاد السياسي، أن المجمع الصناعي لبنة أساسية في كيان الصناعة المغربية والتي تحاول الاستفادة من الفرص الاستثمارية الهائلة التي تزخر بها إفريقيا، مضيفًا أنه يعد تجسيدًا فعليًا للشراكة الصناعية بين دول شرق إفريقيا مع إمكانية توسع المشروع على دول أخرى.
أبرز ما يترجم رغبة البلدين في تدشين صفحة جديدة من العلاقات على أسس اقتصادية، إبرام عدة اتفاقيات بين القطاعين الحكومي والخاص، حيث تم توقيع 13 بروتوكول اتفاق ومذكرة تفاهم في مجالات التجارة والاستثمار والضرائب والزراعة والمياه والري
وبخصوص العائد من توطيد العلاقات مع إثيوبيا تنمويًا واستثماريًا على المغرب من خلال إنجاز منصة مندمجة لإنتاج الأسمدة بإثيوبيا، أكد الباحث المغربي أن هذا المشروع سيجعل من المغرب منتجًا للأسمدة ويغطي به حاجياته.
كما تم توقيع حزمة أخرى من الاتفاقيات، منها مذكرة التفاهم بين اللجنة الإثيوبية للاستثمار وطنجة ميد – إس. إيه (تي. إم.إس. إيه)، وأخرى مع مجموعة “هولماركوم” المغربية والبنك المغربي للتجارة الخارجية، كما وقعت اللجنة الإثيوبية للاستثمار كذلك اتفاقية مع مجموعة (أنوار إنفست غروب) والبنك المغربي للتجارة الخارجية “بنك أوف أفريكا”، فضلاً عن اتفاقيات أخرى تتعلق بالنقل الجوي ومنع الازدواج الضريبي.
من جانبها أكدت رئيسة الاتحاد العام للشركات المغربية مريم بنصالح شقـرون، استعـداد رجـال الأعمـال المغاربة والتزامهم بإقامة شراكة دائمة مع إثيوبيا في مجالات البنية التحتية، وتجهيز الأغذية والتعدين، وقطاعات الجلود والمنسوجات.
وذكرت شقرون في كلمتها بالمنتدى الاقتصادي الذي عقد بين حكومتي البلدين، أن المغرب يتمتع بخبرة وتجربة في مختلف المجالات ولديه استعداد للمشاركة مع إثيوبيا، كما أشارت إلى أن المنتدى سيكون فرصة لبناء علاقات قوية مع إثيوبيا في المجال التجاري والاستثماري.
مجمع الشريف المغربي للفوسفات يوقع أكبر بروتوكول تعاون مع الحكومة الإثيوبية
توتر العلاقات بين الرباط والقاهرة
تشهد العلاقات المصرية المغربية في الآونة الأخيرة توترًا مكتومًا جراء الاستقبال المصري لوفد جبهة “البوليساريو” بقيادة خطري إدوه رئيس البرلمان الصحراوي للمشاركة في المؤتمر البرلماني العربي الإفريقي، الذي عقد في شرم الشيخ الشهر الماضي بمناسبة الاحتفال بمرور 150 سنة على أول برلمان مصري بمشاركة وفود برلمانية تمثل 47 دولة عربية وإفريقية، ليزيد سماء العلاقات بين البلدين تلبدًا، لا سيما بعد الحفاوة التي تم بها استقبال الوفد حسبما أشارت الأوساط المغربية.
لم يكن استقبال الوفد الصحراوي وحده هو المعضلة التي أصابت العلاقات بين القاهرة والرباط بشرخ كبير، لكن اللقاءات التي عقدت على هامش المؤتمر وبعدها مع بعض أعضاء البرلمان المصري، فضلاً عن عدد من المسؤولين والدبلوماسيين أثارت حفيظة القيادة المغربية، وهو ما اعتبرته مواصلة القاهرة لنهجها المعهود في “استفزاز” المملكة المغربية.
الدكتور محمد نشطاوي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض بمراكش علّق على هذا الاستقبال بأن هناك نية مصرية في إحراج المغرب، مقابل تقوية العلاقات مع الجزائر، منوها إلى ضرورة أن تقرأ هذه الخطوة في سياق مؤشرات متعددة، منها دخول العلاقات بين القاهرة والرياض في منعطف مسدود، والحديث عن إرسال شحنات من النفط الجزائري إلى مصر، وخروج هذه الأخيرة عن الموقف الخليجي في التعامل مع إيران واليمن وسوريا، متحدثًا عن وجود حمولة دبلوماسية كبيرة لوجود البوليساريو فوق الأراضي المصرية.
صحيح أن مصر قد تكون مجبرة على قبول حضور البوليساريو باعتباره عضو داخل الاتحاد الإفريقي، لكن تطوّر علاقتها بالجزائر واللقاءات الأخرى التي جرت بينها وبين البوليساريو، تبيّن أن النظام المصري يرغب بإحراج نظيره المغربي
وتابع أستاذ العلاقات الدولية المغربي: “كان على الدولة المصرية التعاطي بنوع من الحذر واتخاذ إجراءات أكبر وهي تستقبل وفد البوليساريو ضمانًا لاستمرار قوة علاقتها بالمغرب، صحيح أن مصر قد تكون مجبرة على قبول حضور البوليساريو باعتباره عضو داخل الاتحاد الإفريقي، لكن تطوّر علاقتها بالجزائر واللقاءات الأخرى التي جرت بينها وبين البوليساريو، تبيّن أن النظام المصري يرغب بإحراج نظيره المغربي”.
من جانبه أكد المحلل السياسي المغربي منار السليمي، أن هذا الاستقبال الحافل لجبهة البوليساريو يعني عودة القاهرة من جديد للعزف على هذا الوتر الحساس في علاقتها بالمغرب، لا سيما بعد رد الفعل المغربي حيال زيارة الوفد المصري العام الماضي لمخيمات تندوف بالجزائر لدعم الجبهة.
السليمي ألمح إلى أن ورقة البوليساريو هي الأخيرة بيد القاهرة التي من الممكن أن تلعب بها، خاصة بعد التقارب المغربي الخليجي، معتبرًا أن هذا الأمر خطير جدًا، وأن هذه الخطوة تعد رسالة واضحة لكل من المغرب ودول الخليج بعد إعلان التكتل الخليجي المغربي، محذرًا من اشتعال التوتر بين الجانبين خاصة وأن الصحافة المصرية خرجت مرة أخرى لمهاجمة المغرب بطريقة غير مباشرة، على حد تعبيره.
وأضاف أستاذ العلوم السياسية أن مصر بهذه الطريقة تقدم وجهين إلى المغرب، خاصة وأن السفير المصري أشاد قبل أيام بالعلاقات المغربية المصرية، لكن هذا النوع من الممارسات يبين رسالة أخرى لمصر، ملفتًا إلى أن البوليساريو في هذه المرحلة تبحث عن كل النوافذ وتطرق كل الأبواب بعد عودة المغرب للاتحاد الإفريقي، وأن المملكة تراقب ما يجري ومتوقع أن يكون لها رد بأسلوب دبلوماسي.
خطري إدو رئيس بعثة البرلمان الصحراوي في شرم الشيخ
التوقيت.. علامة استفهام؟
العديد من التساؤلات فرضت نفسها بقوة حيال توقيت زيارة العاهل المغربي لإثيوبيا، حيث أنها جاءت بالتزامن مع التوتر الواضح مع القاهرة بسبب استقبال الأخيرة لحركة البوليساريو، مما دفع البعض لوصف تحركات المغرب الإفريقية خاصة نحو أديس أبابا بـ”الحساسة”، ليبعث نوعًا من القلق نحو الأمن القومي المائي المصري، والذي يمثل هاجسًا لدى ملايين المصريين، خاصة وأن أديس أبابا من المقرر أن تعلن عن الانتهاء من بناء “سد النهضة” وبدء مراحل تشغيله العام المقبل.
البعض يرى أن زيارة الملك محمد السادس جاءت ردًا على استقبال القاهرة لجبهة البوليساريو، وأن الهدف منها هو إحراج الجانب المصري فيما يتعلق بالملف المائي الخاص بسد النهضة، حيث تسعى أديس أبابا إلى كسب المزيد من التأييد والدعم لهذا المشروع الذي تراه علامة فارقة في انتشال إثيوبيا من أزمتها الاقتصادية الطاحنة.
تخوفات المصريين من تصريحات المسؤولين في إثيوبيا بشأن دعم الرباط لمشروع السد ومخرجاته الاقتصادية والاستثمارية الهائلة لا سيما في مجال الطاقة والكهرباء، فرضت نفسها على ساحة النقاش المصري الإفريقي، وهو ما أكد عليه الصحفي الزامبي كابيرو سانيا.
سانيا في تصريحاته لـ”نون بوست” أشار إلى أن هناك حالة من القلق تنتاب المصريين جراء التقارب المغربي الإثيوبي، خاصة بعد التوتر الذي شهدته العلاقات بين الرباط والقاهرة، مما دفع العديد من الصحفيين المصريين للتعبير عن انزعاجهم من هذه الزيارة التي تزامنت مع زيادة منسوب التوتر في العلاقات المغربية.
البعض يرى أن زيارة الملك محمد السادس جاءت ردًا على استقبال القاهرة لجبهة البوليساريو، والهدف منها هو إحراج الجانب المصري فيما يتعلق بالملف المائي الخاص بسد النهضة
الكاتب والصحفي الزامبي، قلل من تخوف المصريين من هذه الزيارة، ووصفها بـ”المبالغ فيها”، ملفتًا أن الرباط مهما وصل الخلاف بينها وبين القاهرة لن تقدم على عمل من شأنه أن يغلق جميع الأبواب فيما يتعلق بمستقبل العلاقات بين البلدين الشقيقين، خاصة وأن هناك إيمان راسخ لدى القيادة المغربية بأهمية الملف المائي بالنسبة لمصر، فهو مسألة حياة أو موت، مرجحًا احتمالية أن تكون هذه الجولة ذات أبعاد سياسية تهدف إلى العودة للاتحاد الإفريقي، واقتصادية تسعى إلى بناء تكتل اقتصادي جديد مع الدول الأنجلوساكسونية ذات التأثير في القرار داخل الاتحاد، مما يعزز فرص عزل حركة البوليساريو إفريقيا.
وفي المجمل، فإن أهداف الجولة الإفريقية للعاهل المغربي كثيرة ومتعددة، بعضها سياسي، والآخر اقتصادي، والثالث استراتيجي، إلا أن تزامن هذه الزيارة مع توتر العلاقات مع القاهرة هو ما تسبب في هذه الحالة الجدلية والترقب المشوب بالقلق بشأن الدعم المغربي لسد النهضة الإثيوبي، فكيف سيكون رد الفعل المصري تجاه هذه الزيارة بعد أن ترك الساحة الإفريقية تمامًا؟ وما مستقبل العلاقات المصرية المغربية عقب جولة الملك محمد السادس؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.