كثيرًا ما تتكلم وسائل الإعلام عن تصريحات أو خطابات من بعض قادة التنظيم الدولي للإخوان عن مصالحة أسماها البعض بالتاريخية بين أركان النظام الحالي والمؤسسة العسكرية، يبدو أن هذه نقلة نوعية وموقف أكثر برجماتية، على هذا ممكن أن تفسر هذه التصريحات لأول وهلة.
ولكن فلتنتظر يا صديقي فليس الأمر بالسهل أو الهين، هناك آلاف من الشهداء وأضعافهم بكثير من المعتقلين والمطاردين والمفصولين والمشتتين في بقاع الأرض، نعم إن حالة السلم الداخلي المجتمعي هو ما يتوق إليها الكثير ولكن أليس المحقق لذلك السلم هو العدل وليس الظلم، هو الطمأنينة وليس الرعب، هو الأمن وليس الخوف؟
مؤيدو العسكر يحرقون المقر الرئيس للإخوان
يتساءل الكثير كيف لجماعة ضخمة منظمة على أساس غاية في الدقة والتنظيم والحركة أن تركن بسهولة إلى هذه المصالحة المزعومة، بل والأدهى من ذلك هي من تطالب بتلك المصالحة وتدفع في سبيلها وتسلك كل الطرق من أجل إنجاحها، وتستعطف المجتمع الدولي من أجل الإسراع فيها، إن البعض ليحاول أن يفهم هذا فلا يجد طريقًا للفهم أو سبيلاً للإدراك، فكثير من قرارات تلك الجماعة تجدها غير قابلة للتأويل ولا محل لها من الإعراب سوى عنوان عريض يفرض من قبل القيادة وهو (مصلحة الصف).
مصطلح المصالحة عادة يكون بين طرفين سواء مباشرة أو عن طريق وسطاء وتسبقه عادة مفاوضات ويكون لدى كل فريق مواقف ودلائل وبراهين يستطيع أن يضغط بها على الطرف الآخر محاولاً فرض أكبر المكاسب وأقل الخسائر، هكذا تدار عملية المفاوضات التي نعرفها.
إذا حاولنا إسقاط هذه النظرية على أرض الواقع بين تنظيم الإخوان والموسسة العسكرية نجد الذي يملك كل أدوات الضغط والتأثير والذي يمتلك القوة فضلاً عن السلطة والأرض هو الجيش، والذي لا يملك أي شىء سوى مصطلح “الشرعية” التي لا يمكن أن يبنى عليها أي بناء ما دام لا يملك أسباب القوة هم الإخوان.
بديهي جدًا أن يفرض الجيش شروطه وأسلوبه على الإخوان وأن يستغل تلك المفاوضات في تحقيق مكاسب كان كثيرًا ما يشتاق إليها وأن يخسر الإخوان خسارات فوق خسارتهم لأنهم لا يملكون أدوات ولا أرضية للتفاوض، فتصبح تلك المفاوضات أشبه بالأوامر التي يفرضها الحاكم العسكرى على الإخوان.
تلك هي محصلة مفاوضات المصالحة التي سيشكر الكثير حينها الجيش لاستيعابه الإخوان وإدماجهم مرة أخرى في المجتمع وبهذا يصبح الجيش الجاني هو البطل والإخوان المجني عليهم مجرد وسيلة لإظهار مدى رحمة وعطف المؤسسة العسكرية وحرصها على النسيج الوطني والسلم الاجتماعي.
مهلاً هناك سيناريو آخر ما زال في إمكانه أن يحقق مكاسب للإخوان أفضل بكثير من خيار المصالحة هذا السيناريو هو الانسحاب من الحياة السياسية.
هذا المصطلح يعني أن بإمكان بعض الأحزاب والجماعات الانسحاب من اللعبة السياسية كمظهر احتجاجي على الأوضاع القائمة والمحيطة بتلك الجماعات، الانسحاب مصطلح تجمع فيه بين مزايا الهدنة وشرف المنافسة لا هو انتصار ولا هو استسلام، هي حالة وسيطة تحفظ المسؤولية التاريخية والأدبية للأطراف المتصارعة وتثبت في نفس الوقت انتصار الطرف الآخر.
إذا أسقطنا بالمثل هذا الانسحاب على الساحة السياسية المصرية نجد أن هناك انسداد ما حاصل الآن وأن الطريق انتهى إلى حائط سد ووجب من الجميع الرجوع خطوة للخلف حتى تحدث الانفراجة.
يجب على الإخوان هنا أن يعلنوا للجميع أنهم قد خاضوا تلك المعركة بشرف حتى النهاية وأنهم فقدوا العديد من أفراد الصف الإخواني بين شهيد ومعتقل ومطارد ومشتت في بقاع الأرض، وأنهم مضطرون للحفاظ على ما تبقى من أفراد الصف وسينسحبون من الحياة السياسية احتجاجًا على الطريقة التي عوملوا بها ويعودوا إلى الخط الدعوي في انتظار بناء جديد يكون قادر على تلافي أخطاء الماضي وتحقيق آمال المستقبل.
حري بالإخوان أن يعلنوا أن هذه جولة من جولات الحق والباطل ومع أن الباطل قد ظهر أنه انتصر على الحق ولكن الحقيقة أن هذا درس مهم ومحوري وقاسٍ للحركة الإسلامية عامة والمصرية خاصة، وأنهم سوف يراجعون مواقفهم السابقة وأسلوب تعاملهم مع الأطراف المحلية والدولية مراجعة تجعلهم يعملون لمصلحة الدعوة أكثر من عملهم لمصلحة التنظيم.
هذا الانسحاب سيؤدي إلى إعلان انتصار المؤسسة العسكرية في هذه المرحلة وهزيمة التيار الإسلامي، ولكنها تبقى ضرورة حتى تتعلم الأجيال الجديدة من الأخطاء السابقة وحتى يعلم الجميع أن اللعبة السياسية لها أدوات ولا تدار بالنوايا أو بالعواطف، بل بالمواقف والأدوات على الأرض.
أنا أعلم أن مجرد إعلان هذا الانسحاب سيؤدي إلى محاسبة كل من أوصل إلى هذه الحالة من قادة لم يعلموا يومًا أن قراراتهم تلك ستتسبب في أكبر انتكاسة وهزيمة للحركة الإسلامية منذ عشرينيات القرن الماضي، ولكنها ضرورية حتى لا تنخدع الأجيال القادمة من مواقف حسبناها قديمًا أنها مواقف مرحلية وذكية حتى أفجعتنا تلك التجربة أنها ما كانت إلا حالة من الغباء السياسي وعدم نقلها بوصفها والتماس الأعذار لها ساهم في تضليل لجيلين من الحركة الإسلامية تحت مزاعم حسينيات ومظالم عبد الناصر.
إن الفرق بين المصالحة والانسحاب يكمن في أن المصالحة حالة تثبت أن الطرفين قد تنازلا عن حقوقهما للآخر، أما الانسحاب فهو إعلان بفوز أحد الطرفين على أمل جولة جديدة في المنافسة والصراع.