يبدو أن الأوضاع في منطقة الخليج تشهد تحسنًا تدريجيًا، وصلت تأثيراته إلى العاصمة الجزائرية، التي تعد مركزًا للدبلوماسية العربية.
أجرى الوزير الأول الجزائري عبد المالك سلال زيارة رسمية للمملكة العربية السعودية، وأتت هذه الزيارة عقب زيارة الطيب بلعي وزير الدولة والمستشار الخاص لرئيس الجمهورية الجزائرية إلى السعودية، وكان لبلعيز مهمة أساسية ألا وهي إيصال رسالة من رئيس الجمهورية إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.
وتظهر هذه الكثافة في الزيارات التي يقوم بها كبار المسؤولين الجزائريين عزم كلا الطرفين على إيجاد تسوية نهائية للخلافات التي اتسمت بها العلاقة بينهما في السنوات الأخيرة، أما فيما يخص الزيارات التي أجراها كبار المسؤولين في المملكة السعودية، بما في ذلك الزيارة التي قام بها ولي العهد، فهي تؤكد على أن العلاقات الدبلوماسية الجزائرية السعودية في تحسن متواصل، إلا أن هذا التحسن في العلاقات بين الرياض والجزائر لم يكن متوقعًا البتة، ومن البديهي الاعتقاد أن إقبال الطرفين على تبادل الزيارات لا يهدف فقط لتحسين العلاقات الثنائية بين البلدين، بل تقف وراء هذه الزيارات المتتالية التي قام بها كل من سلال وبلعيز أهداف أخرى محددة.
والجدير بالذكر أن الأجواء الدبلوماسية الجزائرية العربية شهدت حراكًا كبيرًا في ظل هذه الزيارات المتعددة، والتي من المتوقع أن تتواصل بين الجزائر ودول الخليج، بعد أن حل بالأمس وزير الخارجية القطري في الجزائر، وأدى وزير النفط السعودي زيارة مماثلة، حيث حلت طائرته في وقت متأخر بعد ظهر يوم أمس في مطار هواري بومدين، وتبدو عودة الدفء في العلاقات أمرًا مستغربًا، خاصة وأنه قبل بضعة أشهر تبنت دول مجلس التعاون الخليجي موقفًا معاكسًا للجزائر فيما يخص الملف اليمني، حيث تسبب رفض الجزائر الانضمام إلى التحالف العسكري العربي في الحرب ضد الحوثيين في ردة فعل “عنيفة” من قبل دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، فيما تجنبت بقية الدول الخليجية الدخول في أي مواجهة مباشرة مع الجزائر، فيما قامت الرياض بتقديم دعم مباشر للمغرب في ملف الصحراء الغربية، كرد على رفض الجزائر الانضمام إلى الحلف الذي تقوده في اليمن.
ويبدو أن الأوضاع في الوقت الراهن في منطقة الخليج تشهد تحسنًا ملحوظًا، حيث أصبحت العاصمة الجزائرية وجهة للوزراء السعوديين، ويمكن تفسير ذلك بالرجوع إلى الاضطرابات السياسية والاقتصادية العالمية، التي كان لها دور هام في إخضاع القوى النفطية، وبالتالي لا بد من القول إن الانخفاض الذي تشهده أسعار النفط أربك القوة المالية التي كانت تتمتع بها دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية.
ويظهر العجز الذي خلفه انخفاض أسعار النفط من خلال العجز في الموازنة التجارية الذي أجبرت المملكة على الاستدانة، وجاءت الضربة القاضية من الولايات المتحدة، ففوز دونالد ترامب بالرئاسة وضع حدًا لخطط دول الخليج، خاصة وأن الرئيس الجديد أكد عزمه على تغيير السياسة المعتمدة في الشرق الأوسط، وفي ظل انخفاض أسعار النفط الذي بلغ سعره 45 دولارًا، فإن الرياض لن تستطيع إعادة توطيد العلاقات مع أهم حليف لها، ألم يؤكد ترامب في خطاب له أن المملكة العربية السعودية لن تستطيع الصمود لعشرين يومًا من دون دعم الولايات المتحدة لها؟ كما أن النوايا المعلنة للرئيس الأمريكي الجديد تشير إلى أنه لن يطالب برحيل الرئيس السوري بشار الأسد كما فعلت موسكو مسبقُا، ألا يعد ذلك بمثابة إنذار نهائي للمملكة ودعوة لأن تجد طريقة تخرج بها من المشكل الذي أوقعت نفسها فيه؟
ورغم وجود السعودية تحت التهديد فإن من مصلحتها وقف تدخلها في الشأن اليمني وتوطيد علاقاتها مع إيران وروسيا، ولذلك تأتي محاولة الجزائر لتقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث فيما يتعلق بملف النفط ومحاولة إخراج السعودية من الأزمة التي وضعت فيها نفسها، والجزائر بذلك عرفت كيف تنتهز الفرص، وبالتالي فإن الرسالة التي وجهها رئيس الجمهورية الجزائرية، وزيارة رئيس الوزراء الجزائري إلى المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى الزيارات التي قام بها مسؤولون من المستوى الرفيع إلى الخليج، كلها علامات لا تكذب الفرضية القائلة بأن خطة السلام الجزائرية تطمح إلى تخفيف حدة التوتر في المنطقة وإعطاء السعودية وسائل تمكنها من الصمود في وجه الأزمة المالية التي تواجهها.
في الواقع إن أزمة النفط والانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة جعلت الجزائر تعتمد سياسة معينة تتماشى وهذه الفترة الحساسة، وهذا التماشي الدبلوماسي الجزائري كان له تأثير عالمي، ولكن في الوقت الراهن على الجزائر الحفاظ على دور “صانع السلام” الذي لعبته سابقًا والذي أكسبها احترام المجتمع الدولي بأسره.
فقد ساهمت العلاقات الشخصية المتميزة بين الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ونظام الحكم في السعودية في تفكيك التوترات المتراكمة منذ 70 سنة، ولكن في الحقيقة لم يتم التطرق بينهما إلى مصير التدخل العسكري في اليمن والسياسة النفطية، وبالتالي لم تتفق الجزائر والرياض على أي شيء يذكر.
ففي اعتراف لأحد الدبلوماسيين لإحدى الصحف الغربية، قال هذا الأخير: “السياسة السعودية في نهاية المطاف ستجثو على ركبها أمامنا”، وهو ما يبرز كم الحقد والضغينة الذي يحمله، هذا التصريح جاء قبل عدة أشهر من تصريح الوزير الأسبق للطاقة، يوسف يوسفي، الذي دعا منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) لخفض إنتاجها وإلى “رفع الأسعار وحماية إيرادات الدول الأعضاء فيها”، لكن الأوبك قررت الحفاظ على مستوى إنتاجها البالغ 30 مليون برميل يوميًا، في حين أعلنت المملكة العربية السعودية عن خطط لمضاعفة إنتاجها على الرغم من درايتها الكاملة بمخاطر القرار الذي اتخذته، حيث سيساهم ذلك في انخفاض أسعار النفط أكثر نظرًا لفائض الإنتاج.
في الجزائر تغطي عائدات النفط 70% من ميزانية الدولة، و33% من الناتج المحلي الإجمالي، و98% من عائدات التصدير، وبالتالي انخفاض أسعار النفط إلى أقل من 60 دولارًا سيحدث كارثة اقتصادية، ففي الأشهر الخمس الأولى من العام الحالي قدر العجز التجاري بأكثر من ستة مليار دولار، وهو ما لخصه المستشار المالي حسن حدوش بقوله: “في صورة تواصل الكارثة التي حلت بأسعار النفط فلا مفر من السيناريو الذي قدمه كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذان توقعا أن العجز التجاري سيبلغ ما بين 25 و30 مليار دولار بحلول نهاية العام 2015، إن واصلنا على هذا المعدل، في غضون الخمس سنوات القادمة سنستنفد كل احتياطي النقد الأجنبي، وستجد الجزائر نفسها في وضعية صعبة”.
وفيما يتعلق بالتذبذب الذي شهدته العلاقات السعودية الجزائرية قال كمال منصري الصحفي والخبير في تطوير وسائل الإعلام، الذي يعكف الآن على إعداد كتاب عن المملكة العربية السعودية، “في العام 1973 اتفق الملك فيصل مع ريتشارد نيكسون على أن العملة التي سيتم اعتمادها فيما يتعلق بالنفط هي الدولار، وآنذاك اتهم الرئيس الجزائري هواري بومدين العاهل السعودي بأنه طعن في الظهر كتلة دول عدم الانحياز (مجموعة من البلدان التي ترغب أن تبقى مستقلة عن القوى الكبرى في العالم)، وبأنه سيدخلها في مأزق هي في غنى عنه.
وقد شهدت سنوات الثمانينيات محاولات للتقارب بين الملك خالد والشاذلي بن جديد، ولكن لم تشهد العلاقات تحسنًا إلا في فترة حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، “بعد يوم من تولي بوتفليقة سدة الحكم في العام 1999 قام كل من الملك فهد (توفي في سنة 2005) وخليفته عبد الله (توفي في كانون الثاني/ يناير الماضي) بتقديم الدعم المادي لمساعدة الجزائر في التعافي من سنوات الإرهاب التي مرت بها”، كما أضاف منصري: “أما بالنسبة للملك سلمان فإنه في شبابه كان من المؤيدين المتحمسين للقضية الجزائرية، كما قال إنه دعم سنة 1956 صندوق دعم الثورة الجزائرية وجبهة التحرير الوطني، كما قاموا بتعيين عباس بن الشيخ الحسين كأول سفير للجزائر المستقلة في المملكة العربية السعودية”.
والدليل على قوة العلاقة الشخصية بين رئيس الحكومة الجزائرية والمملكة السعودية هو الابن الأكبر للملك فهد، محمد بن فهد بن عبد العزيز آل سعود، الذي يقوم بزيارة الجزائر كل ربيع من أجل اصطياد طائر الحبارى، وفي شباط/ فبراير الماضي، أعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الحداد الوطني لمدة ثلاث أيام إثر وفاة الملك عبد الله، وذلك نظرًا لعلاقة الصداقة التي كانت تربط الأمير نايف بن عبد العزيز (توفي سنة 2012) والرئيس الجزائري، فعلى عكس إخوته قضى نايف إجازته وفترة نقاهته الأخيرة في الجزائر، كما قال إنه يفضل الجزائر على الولايات المتحدة والمغرب، يمتلك الأمير نايف أيضًا منزلاً يقع بمدينة الجلفة، كما كان آخر ظهور له أمام وسائل الإعلام برفقة الرئيس بوتفليقة، وذلك قبل بضعة أيام من وفاته في سويسرا.
قال السفير الأسبق للجزائر في سوريا كمال بوشامة في مقابلة مع صحيفة غربية: “نحن دول شقيقة نشترك في العديد من القيم، كما أننا دولتان تدينان بالإسلام، لكن تفاهمنا يقف عند هذا الحد، تستطيع السعودية بالقدرات المالية التي تتمتع بها وعلمائها أن تغير وجه العالم العربي، لكنها لا تجسد نموذجا قادرا على إحداث التطور. كما أن مواقفنا حول مجموعة من القضايا تختلف على غرار القضية اليمنية.”
وفي آذار/ مارس من سنة 2015، بينما قرر أغلب رؤساء جامعة الدول العربية تشكيل قوة عسكرية مشتركة للتدخل في اليمن، إلا أن الجزائر رفضت المشاركة، وقد كشف مسؤول في وزارة الخارجية الجزائرية عن تصريحات وزير الخارجية رمضان لعمامرة الذي قال حينها: “الجامعة العربية لم تكن في حاجة لمشاركتنا، حيث إنها في ميثاقها تقول بأنها تهدف إلى حل القضايا بطريقة ودية، الجيش الجزائري لم يتدخل في أي بلد آخر، لكن ما شكل صدمة للسعوديين هو تقديمنا مقترح وساطة عن طريق إيران”.
ووفقًا لهذا المسؤول فإنه منذ اندلاع الثورات العربية في سنة 2011 بدأت السعودية تفقد نفوذها على الساحة الدبلوماسية لصالح الجزائر، كما قال “بسبب انهيار الأجهزة الأمنية المصرية وتركيز السعودية على أمنها الداخلي، وجدت الولايات المتحدة شريكًا آخر تعول عليه ألا وهي الجزائر التي تعرف بقوة أجهزة مخابراتها”.
وفي خضم التدخل العسكري في اليمن، وجهت وسائل الإعلام الجزائرية انتقادها للمملكة العربية السعودية، كما أظهرت شهادة أحد الطيارين الذي روى صعوبة تمكن المواطنين الجزائريين الموجودين في اليمن من العودة إلى ديارهم، حيث قال مراد عمراوي قائد الرحلة 5600 الرابطة بين الجزائر وصنعاء لصحيفة الوطن الجزائرية: “قبل خمس دقائق من وصولنا إلى جدة، تلقينا رسالة من برج المراقبة تخبرنا بأنه يحظر علينا دخول المجال الجوي السعودي”.
كما أضاف أن السعوديين الذين يتكفلون بالسيطرة على المجال الجوي ومطار صنعاء أيضًا ضغطوا على المسؤولين اليمنيين ومنعوهم من مساعدة الجزائريين.
بعد أسابيع قليلة، علمت الصحيفة من مصادر أخرى أن هنالك “قائمة سوداء” عرضها الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، وضع فيها 11 دولة، بما في ذلك الجزائر، بتهمة عدم بذلهم قصارى مجهوداتهم لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث أرسل الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج مذكرة إلى البلدان الأعضاء للالتزام بقواعد العمل المالي، لكن الجزائر لم تعطي بالاً لها، ولكن كمال منصري قال إن الأمر مجرد سوء فهم للبيروقراطية، أما فيما يتعلق بتعطيل عمليات إجلاء الجالية الجزائرية باليمن فقد نسب رسميًا إلى “سوء الأحوال الجوية”، وهو ما سماه المتخصصون “فشلاً ذريعًا في التنسيق ما بين السعوديين والجزائريين”.
ونوه الدبلوماسيون الجزائريون بالعلاقات الجيدة التي كانت تجمعهم بإخوانهم في المملكة العربية السعودية، كما وصفوا العلاقة التي تجمعهما بالقوية والعريقة والاستثنائية، كما أظهرت برقيات الدبلوماسيين السعوديين التي تم نشرها من قِبل موقع ويكيليكس أن العلاقات بين البلدين جيدة بما فيه الكفاية ليقوم وزير الاتصال الجزائري بفرض ضغوط على الصحف التي تكتب مقالات معادية للمملكة العربية السعودية أو أن يقوم وزير سابق بطلب معروف لكي يذهب إلى مكة المكرمة مع زوجته.
وتعد المملكة العربية السعودية شريكًا استراتيجيًا للجزائر في حربها لمكافحة الإرهاب، فالرياض تستقبل مجموعة من ضباط الشرطة الجزائريين في إطار عمليات تبادل الخبرات، وتعد السعودية أيضًا شريكًا اقتصاديًا مهمًا، حيث أنشأت سنة 2004 شركة الاستثمارات الجزائرية السعودية، التي تلتزم بالاستثمار في الصناعة والعقارات والسياحة والزراعة، كما قامت في حزيران/ يونيو من العام 2015 بإعادة فتح أول سوبر ماركت “كارفور” في الجزائر.
ولكن مع ذلك قال أحد الدبلوماسيين الجزائريين: “لا شيء يستطيع أن يمحي ما حدث في التسعينيات، فالمملكة العربية السعودية قامت باستقبال قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية في سفارتها، وأصدرت فتاوى تتعلق بالجزائر مستفيدة من سلطتها الدينية”، ويضيف هذا الدبلوماسي: “على مدى 15 سنة امتنعت الجزائر عن التدخل في أي مشكل يخص البلدان العربية أو أي دول حليفة لها، ولكن في الحقيقة يجب القول إننا لم نتفق أبدًا على شيء، فعندما يتم أخذ أي قرار في جامعة الدول العربية أو الأوبك كانت المملكة العربية السعودية تفرض سطوتها، ولكن رغم ذلك سيكون من المجحف القول إن السعودية تتعمد أخذ قرارات ضدنا، فالجزائر لم تعان من أضرار جانبية من السياسة السعودية”.
وخلاصة القول، على الرغم من أن الرئيس بوتفليقة قال بأنه سيتم التعامل مع السعوديين كإخوة، فإن الجزائر والرياض نسيتا أن حساباتهما الاقتصادية والجيوسياسية والإيديولوجية ستحول دون تحقيق تحالف حقيقي بينهما.
المصدر: ديكريبنيوز أونلاين