آفاق مالية مظلمة، واستنزاف لمعدل الاحتياطي النقدي، مع انخفاض أسعار النفط، واستمرار الحصار الاقتصادي لما يقارب العامين، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتحركاتها في أوكرانيا.. عوامل مجتمعة هل تدفع بالاقتصاد الروسي نحو “التدمير الذاتي”، مع إصرار بوتين على زيادة الإنفاق العسكري، بالإضافة إلى النفقات المستمرة لشراء ولاء الأراضي الملحقة بروسيا، بصفة رسمية أو غير رسمية، في القرم ودونباس “بأوكرانيا”، وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية “في جورجيا”، وترانسينستريا ” في مولدوفيا”، وصولا إلى سوريا؟
تهاوي بالاحتياطي النقدي
بقراءة سريعة في أرقام الاقتصاد الروسي، التي أعلنها البنك الرسمي بموسكو، في أوائل أكتوبر الماضي، نجد أن الصندوق الاحتياطي العام للدولة تقلص إلى 32 مليار دولار بنهاية سبتمبر الماضي، وفقا لوزارة المالية الروسية، بعدما كان يبلغ 91.7 مليار دولار في نفس الشهر عام 2014، قبل بدء هبوط أسعار النفط، ما يُشكل انخفاصا بنسبة 65 في المائة، ما يطرح سؤالا هاما مفاده .. هل ينجح بوتين الذي يطمح لولاية رابعة في انتخابات العام 2018 في الخروج من الركود الاقتصادي العام المقبل قبيل الانتخابات، أم ستستمر الأزمة التي قد تطيح به؟
الرواتب والمعاشات
بتوقعات المحللين سيزداد الأمر سوءا بنهاية العام الجاري، ليبلغ الاحتياطي 15 مليارا فقط، وقد يستنزف الصندوق بالكامل في منتصف عام 2017، حيث تستند الميزانية الروسية لعام 2016 على افتراض أن الدولة ستستطيع بيع نفطها مقابل 50 دولاراً للبرميل، بينما كان متوسط سعر النفط في الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي، أقل من 43 دولار للبرميل، الأمر الذي قد يدفع بالحكومة الروسية مجبرة إلى اللجوء إلى صندوق الرعاية الاجتماعية، الذي يحوي أكثر من 73 مليار دولار، وتم تأسيسه لتمويل المعاشات التقاعدية في المستقبل، ما يعني بالفعل أن الاقتصاد الروسي يتجه إلى نقطة “التدمير الذاتي”، حيث قد تلجأ الدولة إلى الاقتطاع من المعاشات والرواتب ، ما قد يزعزع استقرار حكم بوتين، ويهدد فرص ترشحه للمرة الرابعة العام 2018.
نقطة الضعف
وفي سياق التداعيات المستقبلية لأزمة الاقتصاد الروسي، توقع بعض المحللين تأثيرات كبيرة للظروف الاقتصادية الراهنة، ومتوسطة الأجل على المستقبل الاقتصادي طويل الأجل في روسيا، وأصدر معهد راند الأمريكي منتصف 2016، تقريرًا حول التوقعات متوسطة الأجل للاقتصاد الروسي، والآثار الاقتصادية والمالية المحتملة للوضع الاقتصادي والسياسات الخارجية الحالية لروسيا.
التقرير يعرض ما حققته روسيا من معدلات نمو مرتفعة خلال الفترة 1999 – 2008، وكان هذا يعتمد على ارتفاع أسعار النفط بالدرجة الرئيسة؛ حيث ارتفعت قيمة صادرات روسيا من النفط والغاز من 28 مليار دولار أمريكي عام 1998، إلى 310 مليار في العام 2008، وقد شكل قطاع النفط والغاز بين 17 و25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، الروسي بين 2001 و2011، وساهم بنحو 46 في المئة من الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي بين 1999 و2008، وبذلك تشبه روسيا بلدان العالم الثالث باعتمادها على صادرات مواد أولية وخام بالدرجة الرئيسة؛ ومن هنا، فهي تتأثر كثيرًا بأسعار النفط والغاز في السوق العالمي، ويمكن معاقبتها عبر التحكم بهذه الأسعار – في إشارة للعقوبات الاقتصادية السارية من عامين-.
ارتفاع معدلات الفقر
وبحسب التقرير، بعد أزمة 2008 لم يستطع الاقتصاد الروسي استعادة قوة الدفع التي حظي بها بين 1999 و2008، فقد هبط ناتج روسيا عام 2009 بمعدل 7.9 في المئة، بينما حققت عامي 2010 و2011 نحو 1.7 في المئة فقط، كمعدل نمو في ناتجها، وعلى الرغم من تحسن هذا المعدل بين عامي 2012 و2014، فقد عاد النمو إلى التراجع مع الانخفاض الحاد لأسعار النفط منذ منتصف 2014، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي الروسي بمعدل 4.2 في المئة خلال عام 2015.
سيزداد الأمر سوءا بنهاية العام الجاري، ليبلغ الاحتياطي 15 مليارا فقط، وقد يستنزف الصندوق بالكامل في منتصف عام 2017
وهنا يتوقع التقرير أنه بدون تغييرات رئيسية في السياسات، فإن الاقتصاد الروسي سوف ينمو ببطء في الأجل المتوسط، حتى لو انتعشت أسعار السوق العالمية بحدة، لافتا إلى أنه من غير المرجح أي انتعاش بالاقتصاد الروسي في الأمد المنظور، بعدما هوت العملة الروسية الروبل بحوالي 50% مقابل الدولار منذ أغسطس 2014، هذا الوضع الاقتصادي خلق ضغوطاً غيرت من معايير مستوى المعيشة في سائر روسيا، فالروبل الضعيف يعني تكلفة أعلى للواردات، وارتفاع معدلات الفقر التي كانت 11.2 في المائة عام 2014، وارتفعت إلى 13.3 في المائة في عام 2015، وفي نفس العام عام 2015 شهدت روسيا ركودا حادا، حيث وصل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى سالب 3.7 في المائة، بعد ذلك وصل النمو إلى سالب 0.5 في المائة في عام 2016.
إجراءات تقشفية
قياسا على ذلك، وبما أن فكرة إدارة الدولة والمواطنين بروسيا، تقوم على أنه أي نوع من الرخاء الاجتماعي الثابت الذي تموله الدولة، يعد سببا في رضا الشعب نسبيا، فإنه مع تهاوي الاقتصاد سيكون على الحكومة أن تلجأ إلى إجراءات تقشفية تذهب بهذا الرضا تماما، خصوصا مع استمرار عجز الموازنة بعدما لجأت الحكومة إلى تخفيضات في مجالات معينة لخفض الإنفاق، إلا أن هذه الخطوة لم تساعد على كبح تنامي العجز في الميزانية الاتحادية، وهو الآن 2.6%، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 3.7% بحلول نهاية العام 2016.
الخلاصة
مرحلة “التدمير الذاتي الاقتصادي” تطرق أبواب روسيا، والدولة تتجه مسرعة نحو عودة المؤشرات الاقتصادية الرئيسية إلى معدلات التسعينيات المدمرة، التي شهدتها البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وخروج روسيا منه دولة فاشلة، مع توقعات محللين بأن يحدث انهيار اقتصادي كامل للدولة، أو نتيجة لركود اقتصادي عميق ومستمر لفترة طويلة، خلال عامين على الأكثر، في حال استمرت موسكو في دوامة الحرب السورية، وأزمتي القرم وأوكرانيا، ما يعني رحيل محتم للقيصر من الكرملين.