ليست مصر وحدها من تعاني من أزمة دواء حادة في الأسواق قوامها ارتفاع الأسعار ونقص في بعض الأصناف من الأدوية فالسودان لحقتها أيضًا، والسبب في كلا الحالتين البنك المركزي الذي عمد إلى تحرير سعر صرف العملة المحلية والتخلي عن سياسة الدعم، مما أدى إلى ارتفاع في الأسعار وحالة فوضى عارمة في الأسواق أحجم بسببها القطاع الخاص عن الاستيراد.
إذ قررت الحكومة السودانية في إطار خطة حكومية التخلي عن سياسة الدعم عن الأدوية والمحروقات أدت لتوقف البنك المركزي السوداني قبل أسبوعين عن توفير النقد الأجنبي لشركات القطاع الخاص وللشركات المحلية لاستيراد الأدوية والمستلزمات الطبية والمواد الأولية للدواء، وقد عمدت الحكومة إلى رفع قيمة دولار استيراد الدواء من 7.5 جنيه سوداني إلى 17.5 جنيه، مما أدى إلى ارتفاع كبير في المعدل العام لأسعار الأدوية.
أزمة الدواء في السودان
يعاني السودان في الأصل من سوء الأوضاع المعيشية بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية والخدمات وانقطاع بعضها، أدت إلى احتجاجات ومظاهرات في الأعوام السابقة، إذ إن معاينة البيانات الاقتصادية والاجتماعية في الاقتصاد السوداني كافية لمعرفة الأوضاع هناك.
إذ يعيش نحو 50% من السودانيين تحت خط الفقر حسب الأمم المتحدة وهو ما يعادل 15 مليون سوداني، وتحتضن الخرطوم وحدها أكثر من رُبع فقراء البلاد ويعاني 70% من السودانيين من صعوبات في الحصول على حاجياتهم الأساسية مثل الماء والغذاء والتعليم والعلاج والدواء، وتشير الإحصاءات أن الخدمات الصحية لا تغطي سوى 40% من السودانيين.
اتسعت دائرة الفقر بشكل كبير أيضًا في الآونة الأخيرة بسبب تدهور الوضع الاقتصاد وارتفاع الأسعار مع انخفاض القدرة الشرائية للجنيه السوداني، لا سيما بعد انفصال الجنوب في العام 2011 مما حرم السودان من 75% من المخزون النفطي حيث كان يشكل نحو 68% من موارد البلاد.
ومع كل ما سبق فإن السودان يواجه في الفترة القريبة الماضية أزمة في الدواء بعد إقرار وزير الصحة السوداني بحر إدريس الأحد الماضي ارتفاع أسعار الدواء بسبب عجز في الميزانية قُدر بنحو 40% في توفير العملة الصعبة للقطاع الخاص لتسهيل عملية الاستيراد، حيث تتطلب توفير نحو 300 مليون دولار بينما لم تتمكن الحكومة من توفير سوى 160 مليون دولار فقط.
وأعلن المجلس القومي للأدوية والسموم بالسودان اكتمال تسعير جميع الأدوية المصنعة محليًا والمستوردة بعد الإجراءات الاقتصادية الأخيرة الخاصة بتحرير سعر صرف العملات الأجنية ليصل سعر الدولار إلى 15.9 اعتبارًا من بداية يناير/ كانون الثاني 2017.
يعيش نحو 50% من السودانيين تحت خط الفقر حسب الأمم المتحدة
أدى فشل الجهات المختصة في توفير بعض الأدوية الحيوية فضلًا عن ارتفاع أسعار بعضها بنسب قد تصل إلى نحو 100% إلى تفاقم أزمة الصحة في البلاد بشكل كبير وإغلاق شركات أدوية، وأسهمت الأزمة في خروج نحو خمس شركات أدوية من السوق فضلًا عن تسريح ما يزيد عن 40 صيدلانيًا.
يعد تراجع الجنيه السوداني مقابل الدولار أحد أبرز الأسباب في ارتفاع الأسعار بشكل كبير حيث وصل سعر السوق السوداء إلى 11.5 جنيه أمام الدولار في حين بلغ السعر الرسمي له نحو 6.5 جنيه.
وكان اتحاد الصيدليات في ولاية الخرطوم الأسبوع الماضي، دعا الصيادلة لإغلاق الصيدليات في ساعات معينة واستجابت نحو 200 صيدلية لدعوة الإضراب، للضغط على الحكومة لإعادة سياسة الدعم على الأدوية.
يرى مراقبون أن ارتفاع أسعار الأدوية يمثل ردة الفعل الطبيعية لزيادة سعر صرف الدولار أمام الجنيه في الأسواق السوداء بعد فقدانه من المركزي الذي فشل في توفير النسبة المطلوبة من العملة الصعبة اللازمة للاستيراد، لذا لجأت شركات القطاع الخاص إلى السوق السوداء لشراء العملة الصعبة بأسعار عالية مما قاد إلى زيادة الأسعار بنسبة وصلت إلى 100% بالنسبة لأدوية القطاع الخاص و40% لأدوية القطاع العام، أضف أن الشركات تفشل في بعض الأحيان في توفير جميع الأدوية مما يؤدي لنقص في الأسواق.
يُذكر أن شركات الأدوية أحجمت في العام 2013 عن الاستيراد ورفضت بيع مخزونها من الأدوية احتجاجًا على شح العملة الأجنبية إلى أن توصلت لتفاهمات مع الحكومة السودانية التي التزمت بتوفير مبالغ محددة لاستيراد الدواء، وفي الأزمة الحالية فإن عدم تدخل الحكومة وعدم طرحها لأية حلول يؤدي إلى تفاقم أزمة الأسعار بشكل أسوأ.
الخدمات الصحية لا تغطي سوى 40% من السودانيين
ويرى أصحاب الصيدليات أن المصرف المركزي السوداني هو المتسبب الرئيسي في مشكلة عدم توفير العملات الصعبة للقطاع الخاص، حتى إن النسبة التي خصصت للاستيراد لا تكفي بالأصل لتوفير الكمية المطلوية فالعجز الناتج يقدر بنحو 50% عن المطلوب، وهذا ما أجبر الشركات الخاصة إلى تقليل الاستيراد الذي انعكس سلبًا على عدم توفر الأدوية.
غلاء أسعار الأدوية أدى لانعكاسات سلبية كبيرة على فئات في المجتمع بشكل خاص من ذوي الدخل المحدود والفقراء، وتخلي الدولة عن دوها الرئيسي في خدمة تلك الفئات في المجال الصحي سيؤدي إلى أخطار حقيقية، وحتى الطبقات المتوسطة في المجتمع فإنها تشتكي من اختفاء بعض الأصناف من الأدوية المستدامة وغلاء أسعار أدوية أخرى بشكل ملموس.
تُمنّي الحكومة السودانية من تحرير سعر صرف الجنيه إلى حل أزمة سعر الصرف والقضاء على الفجوة بين السوق السوداء والسوق الرسمية في مقابل انسحابها من سياسة الدعم لصالح القطاع الخاص، وفي ظل هذه السياسة فإن طبقة التجار والأغنياء سيكونون المستفيدون الوحيدون من هذه الخطوة بينما ستكون طبقات المجتمع الأخرى الخاسر الأكبر.