عند الحديث عن نادي ريال مدريد الإسباني لكرة القدم، فإننا لا نتحدث عن مجرد نادٍ نجح في تحقيق لقب دوري أبطال أوروبا مرتين خلال السنوات الـ3 الماضية، بل نتحدث عن تاريخٍ عامرٍ بالبطولات والألقاب الكبرى، فمن 32 لقبًا جعلته حامل الرقم القياسي في الفوز بالدوري الإسباني، إلى 19 لقبًا في كأس الملك الإسباني، إلى 11 لقبًا في أمجد البطولات الأوروبية، دوري أبطال أوروبا، وضعته على قمة ترتيب أندية أوروبا والعالم، سواء في القرن الماضي الذي اختير خلاله كنادي القرن، أو في الألفية الجديدة التي تابع خلالها تسطير ملاحم أمجاده، ليكرس نفسه كأعظم نادٍ عبر تاريخ الساحرة المستديرة.
وإذا كان اسم ملعب “سانتياغو بيرنابيو”، قد خلد ذكر الرئيس التاريخي الذي يعده أنصار النادي الملكي صاحب الفضل الأول في إنجازات الخمسينيات والستينيات، التي وضعت الفريق على قمة أندية إسبانيا وأوروبا حينها، فإن اسم رئيس النادي الحالي، فلورنتينو بيريز، يستحق أن يخلد في ذاكرة كل مشجعٍ مدريدي، وكيف لا؟ وهو يعتبر عراب إنجازات الألفية الجديدة للنادي الملكي!
فمن ذلك الرجل القوي الذي يترأس إدارة أكبر وأعرق أندية المستديرة في العالم؟ وكيف استطاع الحفاظ على الإرث الملكي الثمين وحفظه من الضياع والاندثار أمام القوى الكروية الصاعدة؟ وما أهم الإنجازات والانتصارات التي شهدها النادي الملكي في عهده؟ ولماذا يكثُر الجدل عنه في أوساط محبي النادي رغم إنجازاته المذكورة؟ هذا ما ستجيب عنه السطور التالية:
في حي هورتاليزا المتواضع الذي يتوسط العاصمة الإسبانية مدريد، ولد فلورنتينو إدواردو بيريز رودريغيز يوم 8 من مارس 1947، ولم يمنعه الوضع المادي المتوسط لعائلته من التفوق في دراسته، حيث توج تحصيله العلمي بالحصول على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة مدريد، لتبدأ مسيرته العملية بالتوظيف في بلدية مدريد، والتي عمل بها إلى جانب نشاطه السياسي، الذي بدأه بالانضمام إلى حزب الإصلاح الديمقراطي عام 1979، وتوجه بالترشح للانتخابات النيابية العامة في إسبانيا كممثلٍ عن حزبه، وذلك عام 1986.
لم يُكتب للرجل النجاح على الصعيد السياسي بفشله في الانتخابات، فآثر أن يجرب حظه في ميادين المال والأعمال، حيث طور من مهاراته الاقتصادية والعملية، حتى حظي عام 1993 بوظيفةٍ محترمةٍ ضمن مجموعة ACS الإسبانية للبناء والتعمير، حيث شغل منصب نائب المدير مدة 3 سنوات، قبل أن يصبح الرجل الأول في الشركة الكبرى اعتبارًا من عام 1997، مكونًا ثروةً شخصيةً لا بأس بها.
وخلال كل تلك السنوات، لم يكن للمهندس المدريدي الطموح أية علاقةٍ بكرة القدم لا من قريبٍ ولا من بعيد، حتى أغراه أحد مساعديه بالترشح لانتخابات رئاسة نادي العاصمة الأكبر ريال مدريد، لخلافة الرئيس السابق رامون ميندوزا بعد انتهاء فترة رئاسته عام 1995، فدخل في منافسةٍ حامية الوطيس مع لورينزو سانز، انتهت بفوز الأخير بفارقٍ ضئيلٍ من الأصوات، ليضطر فلورنتينو للانتظار 5 سنواتٍ أخرى.
لم تكن السنوات الـ5 التي ترأس فيها لورينزو سانز النادي الملكي بالسيئة إطلاقًا، بل على العكس تمامًا، فقد أحرز خلالها النادي لقب بطولة الدوري الإسباني عام 1997، قبل أن يستعيد أمجاده الأوروبية الغابرة، بفوزه بلقب كأس الأبطال عامي 1998 و2000، تلك الإنجازات جعلت مهمة إزاحة لورينزو سانز عن مقعد رئاسة النادي الملكي أمرًا بالغ التعقيد، ولكن دهاء فلورنتينو وتركيزه على نقاط ضعف خصمه المتمثلة في الجانب الاقتصادي المتدهور للنادي، جعله يربح انتخابات عام 2000، بعد وعوده بحل أزمة النادي المالية من جهة، وتحويل الفريق إلى مجرةٍ تستقطب أفضل نجوم المستديرة من جهةٍ أخرى، ليعلن يوم 16 من يوليو عام 2000، تربع رجل الأعمال فلورنتينو بيريز على مقعد رئاسة النادي الملكي.
وأوفى الرجل فعلًا بوعوده، فقد تمكن من استقطاب عددٍ من أشهر نجوم المستديرة، بدءًا بالبرتغالي الشهير لويس فيغو الذي اقتلعه من صفوف الغريم التقليدي برشلونة صيف عام 2000، بعد دفع قيمة فسخ عقده البالغة 56 مليون يورو، ومرورًا بالفرنسي الفذ زين الدين زيدان القادم من صفوف يوفنتوس صيف عام 2001، مقابل رقمٍ فلكي آنذاك بلغ 75 مليون يورو، ومن ثم استقطب الظاهرة البرازيلية رونالدو من صفوف إنتر ميلان عام 2002 مقابل 45 مليون يورو، لتنجح تلك الصفقات الكبرى في قيادة النادي الملكي للفوز بـ3 ألقابٍ كبرى، بدءًا بلقب الدوري الإسباني عام 2001، ومرورًا بلقب دوري الأبطال الأوروبي عام 2002، ونهايةً بلقبٍ جديدٍ في الليغا عام 2003، إضافةً إلى ألقابٍ أخرى مكملة، كلقب السوبر الإسباني عامي 2001 و2003، والسوبر الأوروبي والإنتركونتينانتل عام 2002، علمًا بأن جميع تلك الألقاب جاءت تحت قيادة المدرب الإسباني القدير فيسنتي ديل بوسكي، الذي لم يقدره بيريز حق قدره، فقام بإقالته من تدريب النادي صيف عام 2003، بدعوى افتقاره للكاريزما! وعين مكانه مدربًا عديم الخبرة يُدعى كارلوس كيروش.
لم ينجح كيروش هذا في تكرار نجاحات سلفه المغادر، فخرج الريال من موسمه بلا ألقاب، وهذا ما تكرر في الموسمين التاليين مع 4 مدربين هم: أنتونيو كاماتشو وغارسيا رامون وواندرلي لوكسمبورغو ولوبيز كارو، لترتفع الأصوات المطالبة بإقالة بيريز من رئاسة النادي، متهمةً إياه بالجهل في الأمور الفنية الرياضية والديكتاتورية في تعامله مع المدربين، وتحويل النادي إلى مجرد مؤسسة استثماريةٍ همها الربح المادي ليس إلا، وخاصةً مع قيامه بصفقاتٍ هدفها الأساسي التسويق التجاري، كصفقتي دافيد بيكهام ومايكل أوين، مقابل الاستغناء عن نجومٍ أفادوا النادي كماكاليلي ومورينتس وفيرناندو هييرو، وتحت الضغط الجماهيري المتزايد، لم يكن أمام الرجل الثري إلا الاستقالة من رئاسة النادي في فبراير من عام 2006.
وخلال فترة ابتعاد بيريز عن رئاسة ريال مدريد، والممتدة من فبراير 2006 إلى يوليو 2009، لم يحقق الفريق أكثر من لقبين محليين في الدوري، لم يشبعا نهم الجماهير الملكية التواقة لتكرار نجاحات دوري أبطال أوروبا، والتي أدركت خطأها في حق رئيسها السابق، صانع فريق المجرة (Galácticos)، فطالبته بالعودة إلى دفة القيادة بدلًا من الرئيس رامون كالديرون، الذي لم ينجح في نيل ثقة الجماهير، فاستقال من منصبه، تاركًا المقعد للرئيس السابق، الذي فاز بالتزكية بعد انسحاب جميع منافسيه، لتبدأ في يوليو 2009، الحقبة الثانية من رئاسة فلورنتينو بيريز للنادي الملكي.
لم يغير فلورنتينو بيريز الكثير في سياسته خلال فترته الرئاسية الثانية، فدأب على عادته في إنفاق الأموال الطائلة لانتداب أشهر نجوم المستديرة، ككريستيانو رونالدو وكاكا ولوكا مودريتش وكريم بن زيمة وغاريث بيل وخاميس رودريغيز وغيرهم، كما استمر في ديكتاتوريته تجاه المدربين، من خلال تعيينه 5 مدربين خلال المواسم الـ6 الماضية، بدءًا بمانويل بيلغريني الذي درب النادي موسمًا واحدًا، خرج خلاله خالي الوفاض، ومرورًا بجوزيه مورينو الذي درب النادي 3 مواسم، أحرز خلالها لقب كأس إسبانيا عام 2011، والدوري الإسباني وكأس السوبر عام 2012، ومن ثم كارلو أنشيلوتي، الذي قاد الفريق لتحقيق 4 ألقابٍ عام 2014، هي دوري أبطال أوروبا والسوبر الأوروبي وكأس إسبانيا والسوبر الإسباني، وليترك منصبه صيف عام 2015 ويخلفه رافا بينيتيز، الذي لم يصمد أكثر من 6 أشهرٍ، أقاله بيريز على إثرها، وعين مكانه زين الدين زيدان منذ مطلع العام الحالي، في مغامرةٍ أثبتت جدواها، بعد فوز زيدان بلقب دوري أبطال أوروبا في مايو الماضي، وأتبعه بلقب كأس السوبر الأوروبي مطلع الموسم الحاليّ، الذي يسير فيه الفريق بخطى ثابتةٍ نحو تحقيق إنجازاتٍ جديدة.
بيريز حاملًا كأس دوري أبطال أوروبا
وهكذا، نجح داهية ريال مدريد الملقب بـ”مقاول كرة القدم”، في نيل ثقة جماهير النادي الملكي، بعدما تمكن من تحقيق التوازن المطلوب بين الجانبين الاقتصادي والرياضي، من خلال تأمين الفوز بالألقاب من جهة، وانتشال النادي من أزمته المالية من جهةٍ أخرى، بل وقيادته للتربع على رأس هرم أغنى أندية كرة القدم في العالم، منذ عام 2013 وحتى الآن، عبر إدارةٍ عبقريةٍ فذة، اعتمد خلالها على خبراته الاقتصادية في مجالات الاستثمار والتسويق والدعاية والإعلام، لتحقيق المكاسب المادية المطلوبة، التي تكفل للنادي استمرار تفوقه الرياضي، وتضمن له شخصيًا ازدهار أعماله التجارية، وتنامي ثروته الطائلة التي باتت تُقدر بحوالي 1.74 مليار دولار!