لم تظهر للحركات الباطنية يومًا فرص مواتية كما هي حاليًا، فكبير كان حجم العوائق التي وقفت في طريقهم، والقوى التي صدتهم عن أهدافهم، بعكس ما هو كائن حاليًا من اكتسابهم قوة ظاهرة في النواحي الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لا سيما ملفهم النووي، ومن حيث غياب الخلافة الإسلامية التي كانت حجر عثرة ضخمًا في طريق حركاتهم على مر التاريخ سواء من ناحية عدم شرعية الأنظمة الباطنية التاريخية (الصفويين والعبيديين مثلًا) مقابل شرعية الخلافة، أم من ناحية ميزان القوى، أو حتى التحالفات الدولية في الصراع.
إيران قائمة على أساس عقيدي باطني، منحته تأبيدًا “نظاميا”، وسياجًا حاميًا – دستوريًا وعسكريًا -، فدستورها ينص في المادة 12 على أن “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الاثنا عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير”، وحتى يتجاوزا أزمة عدم شرعية الحكم إلا من خلال الأئمة “المعصومين” الاثني عشر المنصوص عليهم – حسب عقيدتهم – وآخرهم المهدي، الذي دخل السرداب ولم يخرج! فقد قرروا الاعتماد على النظام الذي ابتدعوه “ولاية الفقيه”، والذي اعتبروا “الفقيه القائد” فيه هو المرجعية العظمى وولي الأمر ورأس السلطات، وأسبغوا عليه الحماية أيضًا في دستورهم، ففي الديباجة وتحت عنوان “الحكومة الإسلامية”: “عندما كان النظام الطاغي فـي قمة جبروته وسيطرته على الشعب، قدم الإمام الخميني فكرة الحكومة الإسلامية على أساس (ولاية الفقيه)”.
وفيها أيضًا تحت عنوان “ولاية الفقيه العادل”: “اعتمادًا على استمرار ولاية الأمر والإمامة، يقوم الدستور بإعداد الظروف المناسبة لتحقيق قيادة الفقيه جامع الشرائط والذي يعترف به الناس باعتباره قائد لهم (مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)، وبذلك يضمن الدستور صيانة الأجهزة المختلفة من الانحراف عن وظائفها الإسلامية الأصيلة”، وفي المادة الخامسة: “فـي زمن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة فـي الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير وذلك وفقًا للمادة 107”.
ومع تلك الحماية الدستورية، أنشأوا القوة العسكرية الحارسة (الحرس الثوري والقوات المسلحة العقيدية) لهذا النظام، بأذرعها العسكرية والمخابراتية، الداخلية والخارجية.
وسرعان ما دخلوا في أتون الصراعات الإقليمية لتوسيع نفوذهم، وتنفيذ مخططاتهم الساعية لتصدير ثورتهم البائسة، فحاربوا العراق، ثم حاولوا حرب نظام الطالبان الإسلامي مباشرة بُعيْد نجاح الطالبان في السيطرة على حكم أفغانستان بعد عدة سنوات من سيطرة أمراء الحرب على البلاد ونشرهم الفساد والطغيان فيها، ولكن تدخل البعض حال دون حدوث الصراع المسلح بين الجارتين السنية والباطنية، ولكن إيران لم تكف عن دعم حزب الشمال، والوجود فيه بميليشيات شيعية موالية لها، حتى نجحوا في إزاحة الطالبان عن الحكم بمعاونة التحالف الصليبي عام 2001 م .
لم تتوان الدولة الباطنية عن استغلال الفرصة الذهبية بالعدوان الأمريكي على العراق عام 2003م، فدعمت الأمريكان، ورد الأمريكان بدورهم الجميل، فدخل العراقُ المسلم في “احتلال مزدوج” (باطني – صليبي)، سرعان ما نتج عنه حكومة علمانية (مجرد إصدار تجريبي مبدئي)، تمت إزاحتها بعد ذلك لصالح حكم رافضي (الإصدار الدائم) موالٍ لإيران، مع إحداث تغيير ديمغرافي هائل في التركيبة السكانية العراقية، ليحل الشيعة “إيرانيين وعراقيين” محل أهل السنة في بلادهم وديارهم.
حتى حدث ما يشبه “الترانسفير”، فتم تجنيس أعداد كبيرة من الإيرانيين بالجنسية العراقية، مع إحلالهم محل السكان العراقيين من أهل السنة، الذين هُجِروا قسريًا من مدنهم وقراهم، واضطهادهم والتنكيل بهم عن طريق الميليشيات الشيعية كـ “لواء الذئب” التابع وقتها للشرطة العراقية العميلة، و”حزب الله العراقي” وغيرهم .
وقد اعترف نائب الرئيس الإيراني السابق محمد علي أبطحي بذلك الدعم علنًا بلا مواربة ولا خجل، وذلك على هامش مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في يناير 2004 م، حيث صرح بأنه لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة، وأكد على تقديم إيران الدعم الكبير للأمريكان في عدوانهم على أفغانستان والعراق !
وفي مسار موازٍ لا تهمل إيران تحكمها في أرض الشام، عن طريق ذراعيها حزب الله ونصيرية سوريا، لتحكم الطوق الهلالي الباطني في المنطقة، ولما انفجرت الثورة السورية ومثلت تهديدًا كبيرًا على ذلك الذراع النصيري، سرعان ما قذفت إيران بسراياها إلى العمق السوري لقتال الثائرين ووأد تلك الثورة المسلمة، وانطلق الحاج قاسم سليماني – بفيلق القدس – يعيث في الشام فسادًا وقتلاً وتنكيلا بأهل السنة، منذ بدايات 2012م، حتى الآن !
ولم تكتف إيران بالحاج قاسم وفيلقه، بل استقدمت فلذات أكبادها من روافض لبنان وأفغانستان والعراق وأذربيجان وأوزباكستان، لتعلن حربًا كونية ضد أهل السنة والجماعة، مستعينة بالصليبيين الروس وموالية لهم ولـ “الشيطان الأكبر” مرة أخرى، مستغلة كل الفرص المتاحة غير المسبوقة لإحكام السيطرة من جديد على بلاد الشام .
ولم تنس الدولة الرافضية فرصة فتح قناة جديدة مع زعيم الانقلاب بمصر، مستغلين فرصتين كبيرتين: احتياجه الشديد للنفط بعدما أوقفت السعودية إمداده به، وتطابق موقفيهما – الباطنية والانقلابيين – في الحرب على “الإرهاب” أي “الحرب على الإسلام”.
والمتوقع هو استغلال الروافض أيضًا لتلك الصفقات الجديدة لمد نظام الأسد بالأسلحة عن طريق مصر، ولزيادة دعم نظام الانقلاب المصري للأسد على الأصعدة الأمنية .
وتمتد الفرص السانحة إلى اليمن، فيسيطر الحوثيون عليه بشكل دراماتيكي أذهل كل “المغفلين والغافلين”، ويستمر جسر الدعم بكل أشكاله إلى هؤلاء المارقين، حتى يستتب لهم الأمر، أو على الأقل يتشكل الأمر الواقع الجديد في اليمن بزعامة للباطنية الحديثة في جزء جديد ومهم من جزيرة العرب .
ويظل استغلال الفرص الكبرى – غير المسبوقة – في مجالات “التبشير” الباطني عن طريق الغزو الفكري، بخاصة الإعلام والمؤتمرات، ونشر الفكر الباطني بين المسلمين في مختلف الأقطار الإسلامية، حتى وصلوا إلى إفريقيا جنوب الصحراء وغزوا بلادها وأنشأوا حوزاتهم وحسينياتهم، بل أصبحت لهم هناك أيضًا ميليشيات مسلحة، استعدادًا لتشكيل مساحات باطنية جديدة .
مد يحتاج من يوقفه، ولن يوقفه سوى الغيورين من المسلمين، بعيدًا عن تلك “الأنظمة الوظيفية” التي لا تتحرك إلا في ظل مصالحها ومصالح من يوظفها.