لم يكن روسو وكثير من مفكري الغرب بعيدين عن الحق في مهاجمتهم للنظام الانتخابي في المنظومة الليبرالية، فإن قضية حكم الشعب واختيار الشعب ما هي إلا أكذوبة، فقد رأينا في النظام الرئاسي الأمريكي أن اختيار الرئيس مؤخرًا جاء ضد اختيار الشعب، وذلك لأمر بسيط أن اختيار الشعب جاء مخالفًا لاختيار من يسمون بالنخبة، وليست هذه بالواقعة الأولى في التاريخ الأمريكي.
وهذا هو الحق الذي لا ينبغي أن يُعدل عنه.
إن اختيار الشعب مبني على اختيار الأكثرية منه، وهذه الأكثرية تشمل النخب والعلماء وأصحاب الفكر والرأي والسياسة والوعي، كما تشمل الجهال والرعاع والغوغاء، بل وأيضًا تشمل الفساق والمجرمين وعديمي الأخلاق وغيرهم.
لذا فالحديث عن الأكثرية أكثر خداعًا، فكما ذهب روسو أن الأمر يؤول في النهاية إلى حكم ذوي السلطة والمال، فهم الذين يتحكمون في معيار العدد لتحقيق الأكثرية، وهذا التحالف بين أهل السلطة وأهل المال يمثل أشد أنواع الاستبداد والديكتاتورية المغلفة باسم الحرية والديمقراطية واختيار الشعب وحكمه، وهذا أمر لا يحتاج إلى كثير استدلال، فإن السياسة الأمريكية خاصة، فضلاً عن غيرها، أصبحت رهينة لدى أصحاب المصالح المالية الكبيرة جنبًا إلى جنب مع أصحاب السلطة.
الوجه الآخر لاختيار الأكثرية أو مقولة حكم الشعب، هو فساد المعيارية الاختيارية، فإن الحق الذي يجب ألا نعدل عنه أن يكون اختيار الشعب منوطًا بكونه واعيًا فاهمًا على دراية وعلم وإدراك بالمصالح والمفاسد المتعلقة بالاختيار، وهذا أمر لا يتحقق إذا كان الذين يختارون من الشعب يشملون من ذكرنا من صفاتهم.
وهذا أمر يدركه الساسة جيدًا، لذا فإنه في حقيقة الأمر يكون الاختيار بيد النخبة المؤهلة الواعية، والشعب يقع في أكذوبة كبرى وخديعة عظمى، اسمها الديمقراطية وحكم الشعب وصوت واحد لكل مواطن أو فرد من الشعب.
وإذا نظرنا إلى أنواع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وغيرها، وجدنا أن الشعب يختار اختيارًا تاليًا ثانيًا بعد اختيار النخب.
فإما أن يعرض على الشعب واحدٌ، يُستفتى عليه الشعب، أو اثنان، يختار منهما الشعب، والحاصل أن ذلك اختيار النخب، التي تعلم وفق علم المصالح أن كلاً من هؤلاء يصلح لكي يكون رئيسًا، يحقق أهداف الدولة ومصالحها العليا، فليس في الأمر بأس إن اختار الشعب هذا أو ذاك، أو رفض هذا عرضنا عليه ذاك، فهل هذا يسمى اختيار الشعب؟
وإذا نظرنا إلى بيعة الخلافة وجدنا الأمر يسير هكذا، يختار النخب (أهل الحل والعقد) من يصلح للخلافة، فردًا (كحالة أبي بكر، وكذا عمر)، أو فردين (كحالة عثمان وعلي) أو أكثر (كالستة الذين اختارهم عمر)، ويعرف ذلك ببيعة النخب أو أهل الحل والعقد أو البيعة الخاصة، ثم يعرض اختيار النخب على الشعب (الأمة)، فيما يعرف ببيعة العامة أو البيعة العامة، وإما أن تكون بيعة الشعب لفرد، أو تكون بيعة الشعب ترجيحية بين اختيار النخب لمن هم مؤهلون للخلافة، كما كان في حالة ترجيح الشعب بين اختيار النخب لعلي وعثمان.
وإذا نظرنا واقع اليوم وجدنا نظام الانتخاب الأمريكي أشبه شيء ببيعة الخلافة عند المسلمين، ومع الاختلافات الكثيرة بينهما، يتضح عند التحليل والتمحيص أن بيعة الخلافة حقيقية وطريقة الانتخاب الأمريكية وغيرها كاذبة خادعة كما أشرنا.
ووجه ذلك أن اختيار النخب الذين هم أهل الحل والعقد عند المسلمين لا بد حتمًا أن يأتي موافقًا لاختيار الشعب (الأمة)، وأن الأمة ترضى تمام الرضى باختيار النخب، بل لا يتصور خلاف ذلك أبدًا، لأن أهل الحل والعقد هم زعماء الأمة بحق، وممثلون للشعب بصدق، ويقومون بمصالح الأمة حقًا وصدقًا، والشعب يعرفهم بأعيانهم وأشخاصهم، ويعرف فضلهم وتقدمتهم، والأمة قد أوكلت إليهم الأمر برمته في جميع شؤونها ومصالحها، لذا تعتبر بيعة العامة تأكيدية لبيعة الخاصة، وتأتي تعبيرًا عن رضى الشعب أو الأمة، تعبيرًا تامًا على الذي هو أحسن.
وحتى بعد تمام البيعة والاختيار، إذا ما بدا للأمة، في وقت ما، عدم رضاها عن الحاكم، وجب على النخب تغييره، وإن كان الأفضل، ويتم تولية الفاضل، اعتبارًا لرضى الأمة، وهذا قد نص عليه الفقهاء، وإن كان تصورًا لم يكن واقعًا، ولكنه تأكيد على أهمية رضى الأمة (الشعب) عن الحاكم.
وهذا في الرضى عن الخليفة الحاكم الأكبر، أما أمراء الولايات الصغرى وحكام الأقاليم، فقد أشار عمر إلى عدم بقائهم على السلطة أكثر من أربع سنين، وما ذلك إلا اعتبارًا لرضى الشعب، فإن كان الحاكم عادلاً ملَّه الناس، وإن كان غير ذلك كرهه الناس.
هذا باختصار شديد.
تذييل:
من أقوال الآباء المؤسسين لأمريكا: “الشعب حيوان كبير” و”الشعب كالمصاب بعمى الألوان، فكيف نعهد له في اختيار اللون؟” هاملتون، و”عندما تنتهي الانتخابات تبدأ العبودية” جون آدامز.
يقول توكفيل العلامة الفرنسي في كتابه “الديمقراطية في أمريكا”: “يندر أن يوضع أقدر الرجال على رؤوس الشؤون العامة”
ومن أمريكا إلى أوروبا يقول “رامفال” رئيس المعهد الدولي للدعم الديمقراطي والانتخابي: “هناك في الغرب من يشارك في الديمقراطية بمعدل دقيقتين كل خمس سنوات، أي عند الانتخاب فحسب، وهناك آخرون لا يفعلون ذلك”.