في البداية وقبل أي شيء، ، فإن لم تمُر على السجن الكبير بمركز شرطة ميت غمر ولم يسعك زحام المقبرة البشرية هنا، فمن الواجب تعريفك أولًا بـ”سيد برشامة”، صاحب مزاج السجن بشكل كامل، ولا يمتلك أحد الجرأة ليتجاوز سيد في الحصول على أي شيء ممنوع، حتى ولو من حجزٍ مجاور.
“عايز وخايف يلا؟” هكذا كان رد سيد دائمًا على أولئك الذين يطلبون منه بعض المكيفات ثم يتراجعون عنها، بعد أن دفعتهم ظروف السجن، إلى اللجوء إلى ذلك وشبيهاتها، فالسجن، ودون الخوض في التفاصيل، يدفعك لأمور، لو أخبرك أحدٌ خارج هذه الحوائط الأربعة بها، لوصفته بالسفه، على أقل تقدير.
ما العلاقة؟
تلخّص هذه الجملة واقعًا حقيقيًا للسياسة المصرية من كل أطرافها، من النظام والمعارضة وكذلك اللاعبين الإقليمين في هذا البلد، جميعهم يريدون لكنهم لا يفعلون، أو ما يُمكن تسميته مجازًا “سياسة عايز وخايف”.
قبل أيامٍ خرج نائب مرشد جماعة الاخوان المسلمين إبراهيم منير، في حوار مع موقع عربي 21، تحدث فيه عن إشكالياتٍ كثيرة، وأجاب في ثنايا الحوار عن أكثر من سؤال يدور داخل أذهان أبناء صف جماعة الاخوان المسلمين أو حتى المهتمين بالمسار السياسي للأزمة في مصر.
من ضمن هذه الإجابات، إجابة سؤال عن مدى قبول الجماعة للمصالحة مع نظام السيسي، فكانت الإجابة “نقول ونحن جادين فليأتنا من حكماء شعبنا أو من حكماء الدنيا من يرسم لنا صورة واضحة للمصالحة، التي يعلقها البعض في رقبة الجماعة ورقاب الفصائل الشريفة المعارضة للانقلاب التي تحقق السلم والأمن بكل الأمة المصرية، دون مداهنة أو خداع أو كذب على الناس، وعندها تكون ردود الفعل”.
وفي هذه الفقرة، يمكن العثور على مربط الفرس، بعيدًا عن التأويلات أو التوضيحات التي تبعت الحوار، حيث إن منير خرج بعد ساعات من الحوار على الفضائيات، ليبين ذلك، لكن هذه الجملة يمكن أن تحل مشكلة موقف الجماعة الذي يمكن الاعتداد به، فمنير لم يبد موقفًا رافضًا للمصالحة، لكنه وبكل وضوح أبدى استعداده لتلقي صورة واضحة للمصالحة.
رغم وضوح هذه الفكرة، إلا أن الماكينات الإعلامية القريبة من الإخوان دائمًا ما تعلن وبكل وضوح أن المصالحة ليست مطروحة أصلًا على طاولة الجماعة، لكن الزميل الصحفي محمد خيّال نشر انفرادًا في جريدة الشروق المصرية، كشفت فيه مصادر قيادية بجماعة الإخوان مقيمة في المملكة العربية السعودية عن أن هناك مساعٍ منذ فترة لما أسمته “حلحلة” الوضع الحاليّ بين الحكومة المصرية والجماعة، ومشيرةً إلى أن الاتفاق سيكون برعاية وضمانات سعودية، فالمملكة لديها استعداد كامل لتبني تلك المبادرة ورعايتها وهو ما وضح في اتصالات بين قيادات فى الجماعة وأطراف سعودية.
وتعليقًا على هذا التقرير، “تمنّى” أمين لجنة العلاقات الخارجية بحزب الحرية والعدالة محمد سودان المعروف بقربه من جبهة إبراهيم منير، في تصريحٍ لجريدة العربي الجديد، “تدخل أي دولة بغض النظر عن اسمها لحلحلة الأزمة السياسية الراهنة في مصر”، مؤكدًا أن الجماعة مع تدخل الحكماء والدول لحلحلة الأزمة، لعلاج الوضع الاقتصادي التي تمر به مصر وكذلك معاناة المعتقلين المصريين”.
سياسة “عايز وخايف” تسود الموقف
من المعروف لكل القريبين من جماعة الإخوان المسلمين أو العاملين في الحقول المهتمة بهم، أن قيادة الجماعة بالفعل تريد مصالحةً مع النظام، لكنها دائمًا تفشل في إيجاد مسوّغ وصيغة مقبولين، لدى أفرادها وقواعدها في مصر، وداخل السجون وخارجها، وحتى المقيمين في المنافي.
ورغم نفي الجماعة، في بيانٍ لها ما ورد في تقرير الشروق، فإنّ هذه “المسودة” مطروحة منذ شهورٍ عديدة، تتغير بعض بنودها ويتبدل أحدها بالآخر لكنها موجودة ومطروحة ولا مشكلة حقيقية لدى الجماعة (كقيادة) في هذا، لكن الأزمة الحقيقية التي تعاني منها الجماعة حاليًا عدم وجود شجاعة لدى قياداتها ليخرجوا للناس ويعلنوا أنه وبعد أكثر من ثلاث سنوات، فشلنا في كل اختبارات مقاومة هذا الانقلاب، وضيعنا كثيرًا من الفرص، ولم نستغل فرصًا أخرى، أن نعلن أنه لا سبيل لدينا حاليًا إلا الجلوس على طاولة واحدة مع النظام وحل الأمر.
وحقيقةً أنا أتفهم هذا المأزق جيدًا، فالجماعة رفعت سقف طموحات أعضائها ودوائرها وتمسّكت على مدار ثلاث سنوات بشعاراتٍ طويلة ورنانة يعلم مردودها أنها للأسف لن تتحق، فمن شبه المستحيل إقناع القواعد الآن بكل بساطة بحتمية الجلوس مع النظام، فأين الشرعية ودماء الشهداء والقصاص من القتلة.
أنا متفهم للغاية، ذلك السؤال القائل “ألن نعلّق السيسي وقادة الانقلاب على أعواد المشانق، كما كان يعدنا قادتنا؟” وهنا من يتحمل هذا المأزق وتبعاته، هي القيادات التي ساهمت بشكل أساسي، في رفع طموحات الناس.
كيف ستخرج هذه القيادة اليوم، لتعلن لمنتسبيها ودوائرهم كافة، أننا لم يكن لدينا أية خطة لمواجهة الانقلاب، وأننا بالأساس كنا نعاني من ضعفٍ في الرؤية وضبابية في الإدارة وسوء في التخطيط، ولم نحقق على مدار الثلاث سنوات سوى آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المعتقلين وآلاف أخرى تعاني ويلات النفي والتغريب، ثم تعجز الجماعة عن صياغة ورقة تقدمها لصفوفها، بل تعجز الجماعة عن اتخاذ موقفٍ “واضح” في قضية مفصيلةٍ كهذه.
أيضًا صعوبة هذه الفكرة تأتي بسبب الجماعة وقياداتها، وهم الذين صارعوا على مدار ثلاث سنوات لتشويه كلمة “المصالحة” والقطع بعدم وجودها، رغم أن المصالحة ليست بالعار الذي يلحق بالحركات السياسية التي يُعتبر التفاوض أحد أهم أوراقها واستراتيجياتها.
وعملًا بقاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب”، فإن واجب الوقت حاليًا هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدماء التي تسيل والأعمار التي تضيع في السجون، وذلك لن يحدث إلا بمصالحة مع ذلك النظام المجنون، فعلى الجماعة أن تتحرك في هذا الصدد تحركًا محسوبًا ومدروسًا بشكل جدي، لأن استمرار الوضع كما هو عليه، في ظل امتلاك النظام للقوة بشكلٍ كامل واستيلائه على كل شيء وضعف المواجهين له، لن يزيد إلا أعداد الضحايا.