لم تكن رسالة أبو بكر البغدادي الصوتية، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش – التي بثها في التاسع من ابريل العام الماضي بإعلانه دمج تنظيم جبهة النصرة في سوريا مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق تحت مسمّى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الا الطعنة الأولى التي تلقّاها تنظيم جبهة النصرة ممن يعتبرون أشقائهم في فرع تنظيم القاعدة في الدولة الجارة العراق.
الرسالة الصوتية للبغدادي رد عليها زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري برسالة صوتية قال فيها بأن تُلغى الدولة الإسلامية في العراق والشام ويبقى أبو بكر أميراً للدولة الإسلامية في العراق، وأبو محمد الجولاني أميراً لجبهة النصرة في سوريا، الأمر الذي لم ينزل عليه البغدادي بل رد بالقول بأنه “بعد مشاورة مجلس شورى الدولة الإسلامية في العراق والشام من المهاجرين والأنصار اخترت أمر ربي في مخالفة أمره – يقصد أمر الظواهري بحل داعش – بالرسالة والمواصلة في طريقنا”.
أبو محمد الجولاني بدوره استنكر ما قام به البغدادي لاحقاً وقال أنه تم دون مشورته، معلناً بيعته للظواهري واستمراره في القتال ضمن تنظيم جبهة النصرة، ليبدو الأمر كما لو أن جبهة النصرة فرع لتنظيم القاعدة في سوريا، بينما تخرج داعش عن كلمة أمير تنظيم القاعدة لتخلق جسماً آخر بنفس الفكر مع بعض الخلافات بين تنظيم القاعدة العالمي وبين تنظيم القاعدة في العراق القديمة والتي برزت الآن إلى السطح.
إلا أن رسالة الجولاني لم تمنع انشقاق ما يزيد عن 70 % من جبهة النصرة وانضمامهم إلى التنظيم الجديد باسم الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش – ، الأمر الذي أدّى إلى تعاظم التنظيم وكبره بسرعة كبيرة، كما أنه كان واضحاً للعيان نوعية السلاح والذخيرة التي كان مجهزاً بها والتي يقول نشطاء وخبراء في التنظيم أن معظمها بعدتها وعتادها و بعض قادتها كذلك جاءت من العراق، خاصة بعد ما يسمّى عملية تحرير سجن أبو غريب الأخيرة.
وفي المنتديات الإسلامية مثل حنين وشموخ الإسلام حدث هناك جدل كبير بين الرأب الذي حدث في جبهة النصرة وبين التمدد الذي حصل للدولة الإسلامية في العراق لتصبح داعش في سوريا، البعض كان مؤيداً ومتحمساً لفكرة داعش والسيطرة على المناطق وإعلان الدولة وتطبيق الشريعة، إلا أن آخرين رفضوا عصيان أمير التنظيم العالمي أيمن الظواهري وعدّوا ذلك خروجاً عن كلمته.
قبل الإنشقاق حدث أن كانت جبهة النصرة إحدى أكبر التنظيمات المقاتلة في سوريا، والتي لها كلمتها وحسابها في المعارك والجبهات، حتى أنه كان لها بعض المقرات والمناطق المسيطر عليها والتي سعت من خلالها إلى تطبيق الشريعة وإعتقال بعض المعارضين او الاعلاميين او شخصيات من الجيش الحر والذي كان محل استياء لبعض من السوريين الرافضين لفكر القاعدة برمتّه في سوريا والذي كان محل ثقة واعجاب لآخرين من المعجبين بفكرة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة، إلا أن الأمر لم يتزايد بل تراجع بسبب الانشقاق الذي حدث والذي فقدت فيه جبهة النصرة كثيراً من قوتها.
داعش لم تكذب الخبر، بل بدأت منذ اليوم الأول من تأسيسها إلى اختيار المواقع المهمة من القرى والمناطق، ثم اختيار أفضل الأبنية و”الفلل” للسيطرة عليها واتخاذها مقرات لها، فالرقة كانت- وما زالت- المدينة الحاضنة الأكبر لها، وتل رفعت وعندان ومنبج وجرابلس وحريتان والباب ثم أخيراً عزاز في ريف حلب بالإضافة إلى العديد من المناطق داخل مدينة حلب المحررة، والدانة وسراقب وسرمين ومعرة مصرين ومناطق من جبل الزاوية، وكذلك مناطق أخرى من الساحل وريف حماة.
تجاوزات داعش تزايدت بشكل مطرد ودون أي استجابة من القيادة لحل أو نزول عند هيئة او محكمة شرعية مشتركة،فمسلسل إعتقال النشطاء والإعلاميين بدأ بالتزامن بين الرقة وحلب، ليفوق عدد المعتقلين لديها الـ 800 شخص، يروي بعض من خروجوا قصصاً من الضرب والإهانة والتعذيب بالكهرباء والشبح، تماماً كما في سجون النظام السوري، ومحاولة فرض “الشريعة الإسلامية” في بعض المدن المسيطر عليها من قبلهم مثل الجلد لتارك الصلاة ومنع التدخين في الأماكن العامة وقطع الطريق للصلاة وحتى منع رفع علم الثورة في بعض المظاهرات، ثم جاء أخيراً مداهمة المكتب الإعلامي في كفرنبل ومصادرة كافة محتوايه ومعدات الاذاعة التي تبث من هناك، فضلاً عن حالات القتل التي تمت بحق أفراد وقيادات في الكتائب المقاتلة والتي كان نصيب الأسد منها لحركة أحرار الشام الإسلامية المنطوية تحت ما يسمى الجبهة الإسلامية، حيث قتل في البداية مسؤول الإغاثة أبو عبيدة البنشي رمياً بالرصاص، بعدها تم ذبح المقاتل محمد فارس ظنّاً منهم بأنه شيعي، وأخيراً حادثة مقتل الطبيب أبو ريان تحت التعذيب والذي كان معتقلاً لديهم.
ممارسات داعش لم تتوقف، بل بدأت بالهجوم على بعض النقاط للكتائب كان أبرزها الأتارب في ريف حلب والفوج 46 ، ومدن كثيرة أخرى لتبدأ بعد ذلك مسلسل السيارات المفخخة و “الانتحاريين” الذين ترسلهم إلى مقرات وحواجز الجيش الحر والتشكيلات الأخرى من الجبهة الإسلامية وجيش المجاهدين بحجة “الصحوات” و “جنود مكين ” وتهمة الكفر والنفاق ومحاربة الدولة الإسلامية.
جبهة النصرة والتي ما زالت داعش تعتقل أميرها في الرقة أبو سعد الحضرمي وخسرت بعضاً من جنودها في الاشتباكات الدائرة ، لم تعلن حتى اليوم – رغم كل التجاوزات من قبل داعش – موقفاً رسمياً موّحداً من كل هذا، فرغم أنها تقاتل داعش بشكل مباشر إلى جانب الجبهة الإسلامية في الرقة، لا زالت تحاول عمل معاهدات للصلح و إعادة الأمور إلى نصابها في ريف إدلب وتفتح مقرّاتها لمقاتلي داعش وترحب بالمهاجرين المنشقين عن الدولة إليها.
وبالنظر إلى تصرّف جبهة النصرة، فما هو إلا محاولة لإعادة إحتواء الموقف لصالحها وإعادة تسويق جبهة النصرة بالشكل “القاعدي” السوري الذي سيحتوي موقف الإقتتال ويعيد الأمور إلى نصابها، ثم تظفر جبهة النصرة بجنود الدولة “الأشاوس” المهاجرين والمنشقين عن داعش، ليعود من جديد بناء فرع تنظيم القاعدة في سوريا باسم “جبهة النصرة” واستعادة قوته من جديد.
وليس السؤال هنا أنه هل ستنجح النصرة في إستعادة قوتها على حساب خسارة داعش المستمرة يوماً إلى آخر، ولكن السؤال هل ستعود جبهة النصرة إلى ذات تصرفات داعش من تطبيق للشريعة واعتقال للنشطاء واستهداف الكتائب الأخرى حالة استعادة قوتها ؟