عادت من جديد دعوات عدد من المهتمين بالأمن القومي في المملكة العربية السعودية، لبحث إمكانية التجنيد الإجباري للشباب من سن 19 إلى 30 عامًا، كقوة أمنية احتياطية، بعد إطلاق مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل شيخ، تغريدة تنادي بـ”ضرورة فرض التجنيد الإجباري على الشباب، ليكونوا الحصن المنيع والداعم والدرع الحامي للمملكة في وجه الأطماع الإقليمية والدولية والمؤامرات التي تحاك ضد المملكة والمنطقة العربية من قبل أعداء المملكة والدين في المنطقة”.
مطلب ملح
دعوة آل الشيخ لم تكن الأولى وسبقتها دعوات كثيرة خلال الأعوام الأخيرة آخرها كان في أبريل من العام 2015، مع انطلاق عاصفة الحزم ضد انقلاب الحوثيين على الشرعية باليمن، ودخول المملكة في حرب ضد الميليشيا المدعومة من بقايا الجيش اليمني بقيادة الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح وإيران، قبل أن تعززها التطورات الأخيرة بالمنطقة، خصوصًا الحرب على تنظيم داعش الإرهابي بالعراق وسوريا، وتمدد خلايا التنظيم إلى داخل المملكة، وعدد من دول الخليج.
حوار مجتمعي
الدعوة الجديدة أثارت نقاشًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي بين الشباب السعودي، ما بين مؤيد يرى أنها تصب في صالح الأمن القومي للبلاد خاصة ودول الخليج عامة، مشيرين إلى أنها تأخرت كثيرًا، وكان من المفروض العمل بها بعد احتلال العراق للكويت في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وكانت وقتها الشعوب العربية في حاجة إلى قوة إسلامية وعربية ضخمة لتحرير الكويت ورد قوات الاحتلال العراقية ومنع التدخل الأجنبي بالمنطقة، وتشكل حائط صد أمام أية أطماع إقليمية ودولية محتملة، وبين معارض يستند إلى تصريحات سابقة لوزير الحرس الوطني الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز، قال فيها إن هناك إقبال كبير من المواطنين على الالتحاق بالقطاع العسكري، سواء الكليات أو المعاهد أو مراكز التدريب، وهي أعداد كافية وتفوق الاحتياج الفعلي، والتشكيلات لجميع القطاعات العسكرية، خصوصًا مع تغير طبيعة الحروب الحديثة، التي لم تعد تعتمد على أعداد كثيرة من المجندين، بل تعتمد على التقنيات الحديثة والأسلحة المتطورة.
التهديدات الإيرانية
يرى عدد من المحللين أن عدم امتلاك دول الخليج، باستثناء الكويت وقطر والإمارات، نظمًا إلزامية للتجنيد، يجعلها لا تمتلك قوات احتياط احترافية، ومن ثم فهي لا تمتلك نظامًا للتعبئة العامة لقوات الاحتياط، مما يخل بتوازن القوى التقليدي بينها وبين دول الجوار التي لديها طموحات توسعية مثل إيران، التي تمتلك وحدها جيشًا يقترب في تعداده البشري من ضعف حجم القوات المسلحة في دول الخليج الست مجتمعة!
نقطة الأزمة هنا ليست في الدعوة ومدى الاستجابة لها، لكن فيما ورائها وتوقيتها والتخبط في تأكيدها ونفيها، لماذا الآن كل هذا الزخم على الرغم من مرور ما يقرب من عامين على الحرب باليمن وعقود طويلة من الأزمة مع إيران، الأمر الذي دفع بعدد كبير من المحللين إلى الربط بين تلك الدعوات وما يشاع عن خسائر كبيرة لقوات التحالف، خصوصًا القوات السعودية، في الحرب ضد الحوثيين، بالإضافة لخسارة المملكة حالة المبادرة في الحرب بسوريا، مع وصول دونالد ترامب لسدة البيت الأبيض، وتأكيده على أن رغبته الأولى ليست محاربة الرئيس السوري بشار الأسد، لكن محاربة داعش والجماعات الإرهابية المسلحة بكل من سوريا والعراق، ما يزيد من حالة التخوف لدى السعوديين من تزايد هيمنة الجانب الإيراني على المنطقة، في اليمن وسوريا والعراق، ولبنان أخيرًا بعد انتخاب ميشال عون المقرب من حزب الله.
تأكيد ونفي
ما يزيد من حيرة المحللين، هو عدم وجود تأكيد أو نفي رسمي لتلك الدعوات، اللهم إلا تغريدة الأمير سطام بن خالد آل سعود الثلاثاء، التي أعلن خلالها أن أمرًا ملكيًا بتطبيق التجنيد الإجباري في السعودية قد صدر، اعتبارًا من ربيع الثاني لعام 1438.
قبل أن يعود وينشر تغريدة أخرى، يفهم منها تراجعه عن تأكيد الموضوع أو أنه أعلن ما ليس من صلاحياته، وكتب يقول “نحن كلنا مع التجنيد الإجباري.. يارب يتأكد الخبر، وكثير أوساط سياسية مؤيدة لهذا التوجه الحكيم، كما طالب علماؤنا وعلى رأسهم مفتي المملكة حفظه الله”.
وبعد نشره هذه التغريدة، تم حذف التغريدة الأولى المتعلقة بالأمر الملكي بالتجنيد من حسابه، ما قد يفسر أن الأمر لم يأخذ طابع الرسمية بعد.
جاهزية عسكرية
بعض مؤيدي الدعوة للتجنيد الإجباري يرون في مبررات أن “الحروب الحديثة ليست بكثرة الجنود، إنما باتت تعتمد على التقنية الحديثة والأسلحة المتطورة، وباتت الطائرات اليوم دون طيار”، بعض الصحة، لكنهم يدللون على تنافيها مع الواقع الإقليمي حاليًا بأن المعارك بكل من العراق وسوريا واليمن، لا يحسمها سوى الأفراد في الأرض، مشيرين إلى أن التكنولوجيا والتفوق الجوي والتقني تضعف العدو بالتأكيد، ولكنها لا تحسم المعارك، قياسًا على عدد الصواريخ الموجهة إليكترونيًا التي تم إطلاقها على “داعش” ولم تحسم المعركة معهم، إلا عبر الجنود في البّر، خصوصًا وأن تطبيق فكرة التجنيد الإلزامي على شباب المملكة من سن 18 إلى 30 عامًا والذي يعاني أساسًا من وقت الفراغ والبطالة، سيوفر احتياطي أمني يقدر بأكثر من مليوني و400 ألف جندي مجهز لأية ظروف، يمكن أن يكونوا خط دفاع خلفي لأكثر من 233 ألفًا و500 جندي، هم تعداد القوات المسلحة السعودية حاليًا.
عسكرة المجتمع
في المقابل يرى عدد من معارضي الفكرة أن تطبيق الخدمة الإلزامية يكرس فكرة عسكرة المجتمع، وفرض مبدأ القوة في الحلول، والذي يأتي نتيجة للتجنيد الإجباري الذي يفرض على الشعوب، مستشهدين بحقيقة أن التجنيد ليس خيارًا جيدًا بالضرورة، فالدول التي تتصدر الآن اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا وأخلاقيًا، ليس لديها جيش، عوضًا عن أن يكون لديها مواطن مقاتل، كما أن هناك معوقات عدة تواجه الفكرة، أهمها تخصيص ميزانيات ضخمة في ظل تراجع الإنفاق الحكومي في الميزانيات العامة لدول الخليج خلال السنوات المقبلة نتيجة للتراجع في أسعار النفط.
الأزمة اليمنية
يتفق مع هذا التصور الكاتب والمحلل السياسي أسامة الهتيمي الذي يرى أن ما تشهده منطقة الخليج بل ومنطقة الشرق الأوسط كلها في الفترة الأخيرة، عاملاً مهمًا في البدء بتغيير ذهنية المواطن السعودي تجاه عديد من القضايا والإشكاليات، يأتي على رأسها مسألة التجنيد الإجباري في الجيش، خاصة وقد أصبحت المملكة الأكبر مساحة بين دول الخليج طرفًا في معركة عسكرية تدور رحاها منذ نحو عام ونصف العام بلا حسم، كانت سببًا في قصف العديد من أراضي المملكة وسقوط العديد من الضحايا بين قتلى ومصابين، فضلاً عن الخسائر المادية الكبيرة والتي تتزامن مع عجز كبير في موازنة المملكة، نتيجة الانخفاض الكبير في أسعار البترول.
قلق وابتزاز
وعلى الرغم من أن المملكة شكلت تحالفًا عربيًا ضم نحو 10 بلدان تحت قيادتها حتى تجبر المتمردين الحوثيين في اليمن على الدخول في لعبة المفاوضات السياسية، فإن التهديدات الأمنية للمملكة لم تتوقف طيلة هذه الفترة، بل إن لهجة قادة الحوثيين وحلفائهم من أتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، تتزايد يومًا بعد يوم، وهو ما بات أمرًا مثيرًا لقلق المواطنين السعوديين في منطقة جنوب البلاد.
وأضاف الهتيمي أن هذا الحديث يأتي الآن من قبل شخصيات لها وزنها وثقلها في المجتمع السعودي، بعدما استشعرت المملكة أن من كانت تظن “أنه يمكن الاعتماد عليهم في الدعم العسكري، بات أمر استدعاءهم للتعاون والتنسيق أمرًا ليس بسيطًا، بل له استحقاقاته الكبيرة على المستويين المادي والسياسي، وهو ما لا يمكن أن تتحمله المملكة لتعارضه مع مواقف المملكة وثوابتها”!
ولفت إلى أن القرار الملكي بالتجنيد الإجباري أضحى قاب قوسين أو أدنى، وربما تنتظر القيادة السعودية الوقت المناسب لتعلن فيه عن قراراها، بعد أن تتابع وتدرس الحوار المجتمعي بشأن القضية، والذي يبدو أنه بدأ ينحاز لهذا القرار، بعدما شعر أنه يمكن أن يخضع لابتزازات تنتقص منه ومن دور المملكة المحوري في المنطقة.
شرطي المنطقة
وتابع، لا يمكن تجاهل الدور الإيراني المتصاعد في المنطقة، فيبدو أن إيران تقدم نفسها أمام القوى الدولية معتمدة على قدراتها العسكرية وعدد قواتها المسلحة كشرطي للمنطقة، ومن ثم فقد منحها هذا القدرة على أن تتدخل في العديد من الملفات المحورية بالمنطقة، بل وتفرض في الكثير من الأحيان رؤيتها السياسية المتعارضة في كل الأوقات مع الرؤية العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص، ومن ثم المهددة للأمن القومي العربي، وهو ما يستدعي ضرورة أن تعمل المملكة، وغيرها على بناء قوات مسلحة قوية، يمكن أن تكون رادعًا لهذه الطموحات الإيرانية.
إشكاليات
ويرى الهتيمي أن ثمة إشكاليات حقيقية أخرى تتعلق بالتجنيد الإجباري في المملكة، منها ما يتعلق بالميزانية التي يجب أن تخصصها المملكة لهذا التجنيد، وهي ميزانية معلوم عنها أنها كبيرة، الأمر الذي سيكون مرهقًا للمملكة في الوقت الحالي، كما أنه سيكون ثمة بون شاسع في رواتب العسكريين الذين تم تجنيدهم وفق طلبات وظيفية، والمجندين الإجباريين، فضلاً عن أن حديثًا شعبيًا سيثار عن المعايير التي على أساسها سيكون هذه التجنيد، ومدى شفافية الذين سيفرض عليهم التجنيد، فضلاً عن معايير توزيعهم على المناطق والسلاح.