يأتي هذا الكتاب “السيمونيون الذي يعيشون في القرن الذهبي – دولة الأمس وجماعة اليوم” أو كما أسماه مترجمه الباحث والمتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية محمد زاهد كول، “التنظيم السري لفتح الله كولن” ضمن سلسلة من المذكرات لمدير الأمن الأسبق ومدير المخابرات في الشرطة التركية، حنفي أوجي (Hanefi Avcı)، ويقع الكتاب في 350 صفحة.
داعي التأليف كما يوضح المؤلف: “أنا لست كاتبًا، وليس عندي قدرات تعبيرية كبيرة، لكنني ذو نفس حساسة، إنّ المسائل التي أريد أن أشرحها هي مسائل متعلقة بوطني، وبالحريات الموجودة فيه، فلتكن هي محط الاهتمام وليس نوع الكتابة”.
يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول منها هو “مقدمة المترجم” وهو الجزء الأهم لمن يريد فهم فلسفة الكتاب، حيث إنها تعتبر بوصلة القراءة، لهذه الترجمة الهامّة التي تضع أمام أعين القارء التاريخ الأمني لضابط الأمن حنفي أوجي الذي تزيد خبرته على 30 سنة من العمل المضني والخطير، ويحوي أيضًا هذا القسم تعريفًا بمؤلفه.
والجزء الثاني، وهو بحسب تقسيم المؤلف “القسم الأول” من الكتاب تحت عنوان “الدولة”، حيث يقدّم فيه فلسفته للدولة عمومًا، وما يجب أن تكون عليه من مبادئ، ويحدد ذلك بمفهومي الحرية والديموقراطية، وللدولة التركية خصوصًا، وما كان حالها ضمن الفترة التي ابتدأها من عام 1976 حتى عام 2009، ضمن عمر الكتاب، فيقدم لنا كيف ينبغي لنظام الحكم أن يفسر طبيعة المنظمات السرية والإرهابية، وكيف أنّ المواجهة بالسلاح ليست حلًّا أمثلًا، بسبب ما بنيت عليه من فكر وعقيدة الذي هو لبّ القتال الذي تنتهجه هذه المنظمات، وهدف هذا القسم هو بيان حال الدولة التركية قبيل تجمع خلايا تنظيم كولن النائمة.
ثم يليه الجزء الثالث وهو “القسم الثاني” من كتاب المؤلف بعنوان “الجماعة”، ويقدم فيه نظرته إلى من يستغل وظيفة الدولة كي يروج لفكر ديني يُضيق الواسع، بل ويتعدى هذا إلى استخدام الدولة لأهداف تفتح عيون الاستخبارات العالمية على هذه الدولة، وينشئ الثغور فيها، عن طريق هذا العمل، وبالخصوص هو يتحدث عن تنظيم الخدمة، أو ما تم الاصطلاح عليه بجماعة فتح الله كولن، والذي كان ينسب نفسه إلى جماعة سعيد النورسي.
كما يوضح السيد حنفي أوجي كيف بدأ يشعر بوجود تنظيم هرميّ يقود أجهزة الأمن، ضمن هرمية الأمن الشرعية، فكان يشعر بأنْ ثمة أوامر تملى على مجموعة من الضباط من غير الأوامر الطبيعية التي من الواجب تلبيتها، وبحسب خبرته فإنه يعلم تراتبية هذه الأوامر من الأعلى إلى الأدنى، وكان يحدد مصدر كثير من المشاكل ضمن سنوات عمله في هذا الموضوع، فيتم كشف رؤوس فساد تدير عمليات خطيرة باستغلال جهاز الأمن.
الكتاب مليء بالأحداث التي شهدها منذ توليه وظيفته الأولى في مرسين، مرورًا بالولايات التركية المختلفة، والتحديات التي واجهها في أخطر بقع الإرهاب في الجمهورية التركية، ويبينها بسرد روائي مشوّق، ضمن فلسفته الخاصة التي يتفكر ضمنها بديناميكية الأحداث حوله، والفضل يعود للترجمة الرصينة التي لم تحوّر الكلام، ولم تعبث به.
ويمكن استخلاص بعض النتائج المستقاة من القراءة المتأنية للكتاب كالتالي:
1) عندما ترون الدولة التركية بعيون حنفي في زمن ما قبل الحداثة 1997 ستجدونها في ذلك الوقت، مختلفة عمّا هي الآن، ولا تكاد تكون تركيا الحالية أبدًا بكل ما في الكلمة من معنى.
2) ثمة عاملان مهمّان قد ساهما في تغلغل منظمة كولن إلى الدولة التركية، الأول فساد البيروقراطية المالي، وتعرض كثير من الجماعات والأفراد للتطرّف من بعض رجالات الدولة من أصحاب الفكر الكلاسيكي، فدخلت من خلال مواطن الضعف هذه، وكرّست الفساد فيها حتى لا تكشف، فكانت هذه المنظمة كالذي يريد فك السحر بالسحر، فانتهجت أساليب غير شرعية في السيطرة على مفاصل الدولة.
3) اعتبر المؤلف أنه من الخطأ اقتصار الدولة على المواجهة المسلحة لهذه التنظيمات وخصوصًا تنظيم PKK، وأنْ تهمل الحرب الفكرية المضادة عليها.
4) كذلك نستطيع أن نرى كثيرًا من ثغرات الدولة آنذاك، من قلّة الخبرة بالتنظيمات السرية، ومعرفة التعامل معها، وأنه مع كثرة التآمر الدولي ودعم هذه المنظمات، لم ييأس السيد حنفي، وبيّن أن الدولة قادرة على مواجهة هذه الصعوبات، بالاعتماد على النفس، وقد أعطى أمثلة بين جنبات الكتاب، كثيرة ولا تحصى، منها ترك شراء بعض الأجهزة الخاصة بالاستخبارات من بريطانيا، والاستعاضة عن ذلك بالتصنيع الوطني الذي انخفض بسعر القطعة من مئات الدولارات إلى 15 ليرة تركية! فكانت ذات كفاءة عالية!
5) ذكره لبعض نقاط الضعف في الجهاز الأمني قبل أن يأتي إليه لتحسينه، وتأسيسه لنظام الحاسوب – على سبيل المثال – في إسطنبول، كقوله: “إسطنبول كانت من أكثر المناطق التي تعاني من الإرهاب، ولم يكن في أي من شُعَبِ إسطنبول إلا حاسوبين لتسجيل البيانات! مقابل أن بعضًا من المجموعات الإرهابية كانت تمتلك عددًا منها”.
6) كانت تظهر له نتائج ناقصة من تنفيذ العمليات الأمنية، فيكتشف وجود سير تعليمات باتجاه غير مرغوب به، فكان يحدد مصدرها، ويعرف أن تنظيم ما يقوم بإدارتها، وهو تنظيم كولن.
7) عمليات إلقاء القبض المدروسة على بعض رجال الأمن الشرفاء، ممن لا تتناسب أفكارهم مع خط سياسة ذلك الكيان الذي يتغلغل في الدولة، مما جعل الشك يساور الضابط حنفي.
8) محاولة سيطرة هذا التنظيم على دائرة مكافحة التهريب والجريمة خصوصًا هي، وبالدرجة الكبيرة لأنها المنفذ الحركي لهم على مفاصل مهمة، وأيضًا لأنها تسمح لهم باستخدام تقنية التصنت بشكل حر إلى حد كبير.
9) كذلك محاولة تنظيم كولن لترسيخ الفساد في الدولة والحكومة، في سبيل تحقيق أهدافه، والغريب أن هذا التنظيم استخدم تهمة الفساد لكي يرميها على حكومة العدالة والتنمية في أحداث ديسمبر 2013!
وقد احتوى الكتاب على كثيرٍ من أسماء المنظمات الإرهابية، التي ساهم المؤلف في كشفها، فكان منها التنظيمات اليسارية، والتنظيمات التي أنشأتها الدولة العميقة، في سبيل استخدامها في مقاومة اليسار والتحديات التي تواجه الدولة، ويوضح لنا المؤلف سبب رفضه لأي تنظيم تُنشئه الدولة لمحاربة هذه المنظمات الإرهابية بشكل غير قانوني، وهذا ما يعبر عنه العهد الجديد في تركيا، إذ يبين أردوغان: “أننا لم نكن كالأفعى التي تتحرك من تحت البساط، وأننا ظاهرون وسنحارب كل من يقف أمامنا بشجاعة”، ويحتوي الكتاب على كثير من أسماء الأشخاص الذين ما زالوا إلى الآن يثيرون الرأي العام في تركيا.
مؤلف الكتاب كان اسمًا على مسمى فاسمه حنفي أوجي، وكلمة أوجي تعني الصياد، إذ إنه فعلًا صياد ماهر، فقد نَفَذَ من فك المؤامرات ضده، وقد رفعت عليه دعاوى عدة استطاع أن يكسبها لنزاهته ونظافة يده، فاستطاع أن يصطاد لنا الحقائق ويدونها! ومما ساهم في هذا هو استقلالية شخصيته، إذ إنه كان غير منتمٍ إلى أي توجه مما جعله يثبت أمام الرياح الصعبة بالإضافة إلى إنجازاته التي أثبت بها وجوده.
وتكمن الخطورة في حياة المؤلف ضمن هذا الكتاب لما يلي:
1) مواجهة التنظيمات السرية الكثيرة (الرئيسة وما تفرع عنها).
2) محاولة تلك التنظيمات للتغلغل في جهاز الأمن التركي وإحلال أجندتها فيه.
3) تعرضه لكثير من القضايا في المحاكم نتيجة محاربته لهذه التنظيمات وبالأخص تنظيم كولن.
4) هيمنة بعض الشخصيات في المؤسسة العسكرية على الدولة والحكومة عمومًا وعلى جهاز الأمن خصوصًا.
ويعتبر هذا الكتاب الجزء الأول ضمن ثلاثة كتب – إلى حد الآن – وها قد تمت ترجمة هذا الأول، والثاني مطبوع ينتظر الترجمة، أما الكتاب الثالث فهو كما بيّن السيد حنفي أوجي تحت التدوين.
نتمنى لكم قراءة متدبرة، لتتعرفوا على حقيقة ما يحصل في الدولة التركية، وأقول الدولة ولا أقول الجمهورية، لأن الدولة أخرجت لكم أسرارها عبر هذا الكتاب الذي قل مثيله.. قراءة مشوقة.