لم يكن من الممكن الحديث عنهم بتلك الأريحية في العقود الماضية، وذلك لأن الوقت للعديد من المجتمعات العربية كالسيف، ولا يعني هذا أننا منتظمون كالألمان في مواعيدنا، إلا أننا نحدد للطفل منذ مولده العمر الذي سيبدأ فيه رحلته الأكاديمية، والتي يحددها النظام التعليمي في كل بلد بعمر معين لدخوله مرحلة الروضة، ومن ثم الإبتدائية، نهاية بالمرحلة الثانوية التي يختلف نظامها من بلد إلى أخرى، ليبدأ بعدها المرحلة الجامعية.
إلا أن المجتمع لا يقبل تأخر الطفل عن أي مرحلة من المراحل السابقة، بل يزداد الأمر سوءًا إن وجده زملائه في المدرسة أكبر سنًا منهم ولكنه في نفس المرحلة العمرية معهم، ولكن ماذا عن بدء حياة جديدة كليًا عن الحياة التي استمر الفرد على منهاجها فترة طويلة من الزمن، وماذا لو كان ذلك بعد سن الثلاثين؟
“لقد درست الطب، وأملك شهادة ممارسته، إلا أنني الآن أعمل طباخًا”، “اتجهت لرياضة ركوب الدراجات بعد أن كنت طبيبة”، كلها عبارات من الممكن أن نسمعها في الآونة الأخيرة من العديد من الأفراد، تركوا مجالات عملهم الأصلية، ليبدأوا حياة مختلفة تمامًا عما اعتادوا عليه من قبل، أو بدأوا عملهم الذي اشتهروا به في سن متأخرة للغاية وليس كما يحدد النظام التعليمي الروتيني في كل بلد.
بدأ مارك زوكربيرغ مشروعه الذي غيّر عالم التواصل الاجتماعي للأبد وهو في سن التاسعة عشر، وغيره من رائدي الأعمال من بدأوا مشاريع غيّرت مفهوم العالم عن الإنترنت والتكنولوجيا بعد أن أتموا الأربعين من عمرهم، مثل ريد هوفمان مؤسس “لينكد إين” حين كان في الـ36 من عمره، ومسارو إيبوكا مؤسس “سوني” حين كان في الثامنة والثلاثين، مثل هؤلاء أثبتوا بجدارة أنه لا دليل على تحديد المعرفة أو القدرة على التغيير بعمر معين.
ما تقوم عليه المدرسة هو منهج معين لكل صف، لا يصح للصف الأصغر عمرًا دراسة ما يتم تطبيقه على الصفوف الأكبر عمرًا، حيث تقوم على أنظمة المنهج التعليمي وتحديده اقترانًا بالمرحلة العمرية، ليحمل المجتمع الراية بعد ذلك في أنظمة حياة الفرد، ليحدد واجباته المجتمعية اقترانًا بعمره كذلك، فهذا عمر الزواج وهذا عمر بداية الحياة العملية وذلك خاص بالسفر للخارج إلى آخره من تحديد اختيارات الفرد اقترانًا بعمره.
إليك نماذج عربية وأجنبية كسرت القاعدة كليًا:
نادية العوضي: من طبيبة مصرية إلى متسلقة جبال
“عندما وصلت لسن الـ35 اتخذت قرارًا استراتيجيًا بالبدء فورًا بممارسة الرياضة والاهتمام بصحتي لأني كطبيبة أعلم أن المرأة بعد وصولها لمنتصف الثلاثينيات إذا لم تمارس الرياضة وتحسن من نظامها الغذائي ستشيخ مبكرًا”.
دائمًا ما تقول نادية عن نفسها بأنها لم تكن أبدًا امرأة رياضية، ولم تتبع رياضة معينة بانتظام، ولم يخطر ببالها أنها من الممكن أن تتخذ من الدراجة رياضة منتظمة لها، إلا أنه بدأ الأمر برحلة من لندن إلى باريس برًا عن طريق الدراجات، فزوجها رياضي يسافر بدراجته لمسافات طويلة منذ عقود، لذا كانت رحلته مع أصدقائه من لندن إلى باريس بمثابة الإلهام لها، لتقطع معهم مسافة وصلت إلى 388 كم.
لم تكن نادية رياضية من الأساس فهي في الأصل طبيبة بشرية، إلا أنها درست برنامج “الصحافة العلمية” في برنامج للدراسات العليا، وعلى الرغم من عملها في الصحافة العلمية وكونها مديرة مكتب مصر لمركز الاتحاد الدولي للصحفيين العلميين من قبل، فإنها تحولت إلى متسلقة لقمم أعالي الجبال حول العالم، وماهرة في ركوب الدراجات لمسافات طويلة، فعلى الرغم من أنها ليست المصرية الأولى التي تتسلق جبل كليمنجارو، فهي بلا شك أكبرهم سنًا، فكل من تسلق كان في العشرينيات من عمره، إلا أنها وحدها فعلتها وهي في الأربعين.
وسام مسعود: طبيب المخ والأعصاب الذي تحول إلى طاهٍ ماهر
ولد ونشأ وسام في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم استقر مع عائلته في السعودية، وبعدها بدأ دراسة الطب في مصر، ليعود مرة أخرى إلى الولايات المتحدة لاستكمال برنامج الدراسات العليا في تخصص المخ والأعصاب، وبعد الانتهاء بدأ عمله في إحدى شركات البحث العلمي في مصر، وعلى الرغم من مرور وقت طويل في انخراط وسام في دراسات الطب البشري المختلفة، فقد قرر في النهاية أن يترك كل ما سبق، ويتجه لفعل ما يحبه، ألا وهو الطهي، ليصبح شيف ماهر، ومقدم لبرامج الطهي، وحالمًا بفتح سلسلة مطاعم مصرية الأصل خاصة به.
على الرغم من حمله للجنسية الأمريكية ودراسته في الولايات المتحدة، فقد قرر العودة إلى مصر وبدء مشواره مع الطهي، لم تكن تلك بداية الرحلة، فكان للطهي جذور وتاريخ مع “وسام” من بداية اهتمامه بطهي الطعام إلى تذوقه، وتدوينه لملاحظاته على الطعام في المطاعم المختلفة التي يذهب إليها، حيث قرر دراسة الطهي في إحدى مدارس الطهي الأمريكية، وهو الآن مقدم لبرنامج “مطبخ 101” على قناة cbc سفرة.
في الثمانين من عمره، ويعمل كعارض للأزياء
هل من الممكن أن يتخيل المرء نفسه على المسرح وسط عارضات الأزياء يسير بينهم واثقًا في نفسه وهو في العشرينيات من عمره؟ ماذا إن كان في الثمانينيات!، لقد فعلها الممثل وانغ داشون في أسبوع الأزياء الصيني الماضي، حيث أبهر الجمهور برشاقته وقوامه الممشوق النابع من رياضة مستمرة.
بدا أكثر صحة ولياقة من العديد ممن يصغرونه سنًا بعقود وليس بضعة سنوات، قام وانغ بالتمثيل في أفلام صينية متعددة، إلا أن ذلك كان منذ عشرات السنوات الماضية، حيث شعر من رآه على المسرح بأنه يعود من جديد وبقوة وبمزيد من الثقة بالنفس، حيث عاد وانغ للصالة الرياضية من جديد في عمر متقدم، ومن ثم أثبت لنفسه أن باستطاعته كسر وتخطي الحدود التي وضعها لنفسه وحددها سنه عليه، فجسده يمكنه تخطي تلك الحدود التي ظن أنها السقف الذي لا يمكنه أن يتخطاه، ولكن الأمر ليس بتلك السهولة، ويحتاج الكثير من الصبر، ليثبت “وانغ” أن عرض الأزياء لا يتطلب سنًا محددةً ما دام المرء قادرًا على إبهار الجمهور.
متأخرون ولكن فنانون عالميون
على الرغم من أن موهبة الفن من أكثر المواهب التي تبدو معالمها في عمر مبكر، إلا أن هناك العديد من الفنانين ممن اكتشفوا مواهبهم بعد سن الثلاثين، كان منهم فينست فان جوخ، لم يكن جوخ اجتماعيًا في حياته، بل عانى من أمراض نفسية و أمراض عقلية، كان نتاجها اكتشاف أكثر من 2100 لوحة مرسومة له بعد مماته، ذلك لأنه لم يحب أن يعرض أعماله كلها على الجمهور، لم يبدأ جوخ مشواره الفني في نهاية عقده العشرين فحسب، بل لم يكن رسامًا جيدًا على الإطلاق إلا في آخر عامين له في هذه الحياة!
هؤلاء وغيرهم أثبتوا أن الوقت لم يتأخر بعد، وأن الإنسان بإمكانه تخطي الحدود التي رسمها لنفسه منذ البداية، ليحقق ما كان يحلم به، فماذا عنك عندما تبلغ الثلاثين من عمرك، هل تظن أن الوقت تأخر بالفعل؟