بعد ما يقرب من تسعة أشهر من تجميد العلاقات اللبنانية السعودية منذ قيام الأخيرة بوقف مساعداتها المقررة للجيش اللبناني، وفرض عقوبات اقتصادية على بيروت في فبراير الماضي، تأتي زيارة الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة وموفد العاهل السعودي، لتهنئة الرئيس اللبناني الجديد العماد ميشيل عون، لتلقي بظلالها التفاؤلية بخصوص مستقبل العلاقات بين البلدين.
زيارة الفيصل والتي لم تتجاوز اليوم الواحد، تعد الأولى من نوعها خلال العامين الماضيين، كما أنها تحمل عديد من المؤشرات والدلالات عن ملامح التوجهات السياسية الجديدة للسعودية تجاه لبنان، خاصة في ظل المستجدات الإقليمية والدولية التي دفعت الرياض إلى إعادة النظر في سياساتها الخارجية وعلاقاتها بالدول المجاورة، فهل تفتح زيارة اليوم الواحد صفحة جديدة في العلاقات اللبنانية السعودية؟
تهنئة ودعوة للزيارة
توجه الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة إلى بيروت مساء الإثنين الماضي في زيارة رسمية للبنان، يلتقي خلالها كبار المسؤولين اللبنانيين، لبحث تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين ومناقشة القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك.
وضمّ الوفد الرسمي المرافق له وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور نزار بن عبيد مدني، وكان في استقباله وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال اللبناني جبران باسيل، وسفراء دول مجلس التعاون الخليجي المعتمدين في لبنان، والقائم بالأعمال بالإنابة لدى سفارة خادم الحرمين الشريفين في لبنان وليد بن عبد الله بخاري.
وقد أثنى رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بهذه الزيارة، مؤكدًا أن علاقات لبنان وشعبه مع السعودية أكبر من أن تمس ويعكرها أحد، وأنها ستبقى إلى أبد الدهر مهما حاول المغرضون والدخلاء.
الحريري خلال العشاء الذي أقامه على شرف الموفد السعودي قال: “اللبنانيون يستبشرون خيرًا بزيارتكم وملتزمون بكل القضايا التي تحملها المملكة وفي طليعتها محاربة الإرهاب”، في مغازلة واضحة منه للرياض، والإعلان عن تمسك بيروت بعلاقاتها التاريخية مع الجارة الشقيقة.
الفيصل: ” لقد وصلت اليوم لأنقل رسالتين من الملك السعودي إلى رئيس الجمهورية ميشال عون بتهنئته لاختياره وانتخابه كرئيس لجمهورية لبنان، ورسالة ثانية لتقديم الدعوة له لزيارة السعودية وقد رحب الرئيس بقبول الدعوة
وعلى الجانب الآخر، أعرب الفيصل عن سعادته بلقاء قيادات لبنان السياسية والفكرية والاقتصادية، حاملاً تحية الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز الذي يتمنى للأشقاء في لبنان عيدًا مبارك بمناسبة الاستقلال وفاتحة خير إلى مستقبل يستحق من البلد الشقيق بعد هذا الكفاح العظيم من يوم استقلاله إلى هذا اليوم.
وأضاف: “لقد وصلت اليوم لأنقل رسالتين من الملك السعودي إلى رئيس الجمهورية ميشال عون بتهنئته لاختياره وانتخابه كرئيس لجمهورية لبنان، ورسالة ثانية لتقديم الدعوة له لزيارة السعودية وقد رحب الرئيس بقبول الدعوة”، معربًا عن فخره بلبنان وأهله “لأنهم دائمًا كما عودونا يهبون لنصرة بلدهم العظيم متجاوزين كل المصاعب وكل العقبات، ليبرهنوا للعالم أجمع أنه لا حدود لعزيمة وقدرة لبنان وأهل لبنان على صنع المستحيل”.
واختتم خالد الفيصل حديثه مع الحريري على هامش العشاء المقام على شرفه، أنه ينقل تحية كل مواطن سعودي وتقديره واعتزازه بالأشقاء اللبنانيين، قائلاً: “لا نريد لبنان ساحة خلاف عربي بل ملتقى وفاق عربي”.
رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري وموفد العاهل السعودي
بيروت والرياض.. مد وجذر
لا شك أن العلاقات السعودية – اللبنانية في مجملها علاقات تاريخية متميزة، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، ففي قراءة سريعة لأبرز المحطات في تاريخ العلاقات بين البلدين، نجد أن الرياض كانت دومًا الداعم الأول للشقيقة بيروت في جميع المحطات السياسية والأمنية والاقتصادية التي واجهتها خلال الآونة الأخيرة، إلى الحد الذي دفع بعض المحللين للقول إن القرار اللبناني يصاغ داخل أروقة الديوان الملكي في الرياض.
وظلت العلاقات بين البلدين تحيا حالة من التناغم والتوافق، فعلى الرغم من الأزمات التي واجهتها لبنان في الآونة الأخيرة من حروب أهلية وهزات اقتصادية طاحنة وتوتر في العلاقات مع بعض دول الجوار، فالعلاقات مع السعودية كانت تسير في طريق التلاحم والقوة ومزيد من التعاون.
إلا أن الشعب اللبناني فوجئ مساء الجمعة 19 من فبراير من العام 2016 بقرار غير متوقع من الرياض بفرض بعض العقوبات على لبنان، بسبب سياسات حزب الله العدائية ضد بلاد الحرمين، حيث اتخذ الديوان الملكي السعودي بعد مراجعة شاملة لعلاقاته مع الجمهورية اللبنانية بما يحمي مصالح المملكة عدة قرارات منها إيقاف المساعدات المقررة من المملكة لتسليح الجيش اللبناني عن طريق الجمهورية الفرنسية وقدرها ثلاثة مليارات دولار أمريكي، كذلك إيقاف ما تبقى من مساعدات المملكة المقررة بمليار دولار أمريكي المخصصة لقوى الأمن الداخلي اللبناني، إضافة إلى منع السعوديين والخليجيين من السفر للبنان.
على عكس اللغة التصعيدية التي خاطبت بها السعودية الحكومة اللبنانية، حرصت بيروت على الإبقاء على شعرة معاوية مع الجانب السعودي، واستقبلت القرار بلهجة هادئة، آملة في إعادة النظر في هذا القرار
وحسب الرواية الرسمية السعودية عن الأسباب الحقيقية وراء اتخاذ هذا القرار، فقد تمحورت في توتر العلاقة بين المملكة من جانب، وإيران وحزب الله اللبناني من جانب آخر، مما دفع إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران على خلفية الاعتداء على القنصلية السعودية بإيران، ومن ثم وقف المساعدات المقدمة للبنان.
وفي المقابل وعلى عكس اللغة التصعيدية التي خاطبت بها السعودية الحكومة اللبنانية، حرصت بيروت على الإبقاء على شعرة معاوية مع الجانب السعودي، واستقبلت القرار بلهجة هادئة، آملة في إعادة النظر في هذا القرار، إذ أصدر رئيس الوزراء اللبناني السابق تمام سلام بيانًا قال فيه: “تلقينا بكثير من الأسف قرار المملكة العربية السعودية المفاجئ القاضي بإيقاف المساعدات المخصصة لتسليح وتجهيز الجيش وقوى الأمن الداخلي”.
كما عبر عن احترامه للرؤية السعودية بقوله: “إننا ننظر إلى هذه الخطوة باعتبارها أولاً وأخيرًا شأنًا سياديًا تقرره المملكة العربية السعودية وفق ما تراه مناسبًا، على الرغم من أننا ما كنا نريد أن تصل الأمور إلى ما يخالف طبيعة العلاقات التاريخية بين لبنان وبلاد الحرمين، التي نحرص على إبقائها علاقات أخوة وصداقة ومصالح مشتركة ونسعى دائمًا لتنزيهها عن الشوائب”، مختتمًا بيانه بـ: “إننا إذ نعبر عن أسمى آيات التقدير لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وإخوانه في القيادة السعودية وأبناء الشعب السعودي الكريم، نتمنى إعادة النظر بالقرار الخاص بوقف المساعدات عن جيشنا وقواتنا الأمنية”.
ومنذ هذا التوقيت دخلت العلاقات بين الرياض وبيروت إلى نفق شبه مسدود، وهو ما دفع رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري إلى إعادة النظر في مواقفه السياسية الداخلية تجاه مرشحي الرئاسة بعد تخلي الرياض عنه، إضافة إلى الأزمة التي تعرضت لها شركة “سعودي أوجيه” العصب الأول للحريري وتياره السياسي، كما سيرد ذكره لاحقًا.
الجيش اللبناني المتعثر منذ وقف الدعم السعودي
الرياض تفقد نفوذها
القطيعة السعودية للبنان والعقوبات التي فرضتها عليه، كان لها أسوأ الأثر على نفوذ الرياض داخل بيروت، ففي الوقت الذي طالما عارض فيه الحريري ترشيح العماد ميشيل عون المعروف قربه من حزب الله وإيران لمنصب الرئيس، رفعت الرياض يدها عن حليفها، وساعد على ذلك المشكلات التي واجهتها شركته “سعودي أوجيه”، ومقرها السعودية، وهي العمود الفقري لشبكته السياسية في لبنان.
فوز العماد عون بمنصب الرئيس اعتراف واضح بتراجع الدور السعودي في لبنان، وانحصار نفوذه بشكل أقلق الرياض قبل أن يطمئن إيران وحليفها السياسي داخل بيروت
الخبراء أشاروا إلى أنه انطلاقًا من مبدأ البحث عن المصالح الخاصة تحرك الحريري وأعلن دعمه لعون رئيسًا للبلاد، أضف إلى ذلك تشتت واتساع رقعة المواجهات السعودية في سوريا واليمن والعراق، ساهم بشكل كبير في إخراج لبنان من أولويات السعودية، وهو ما أكده المحلل السياسي بجريدة النهار اللبنانية الكاتب الصحفي نبيل أو منصف بقوله: لبنان لم يعد أولوية لدى السعودية، والسعودية لم تعد تدعم حلفاءها في لبنان، وبالتالي أصبح حليفها سعد الحريري في موقف ضعيف، ويضيف: قبول ميشال عون يعد هزيمة لمعسكر الحريري، فهناك منتصر مهزوم، وهذا الشيء الذي دومًا يجلب العواقب الوخيمة في لبنان.
فوز العماد عون بمنصب الرئيس اعتراف واضح بتراجع الدور السعودي في لبنان، وانحصار نفوذه بشكل أقلق الرياض قبل أن يطمئن إيران وحليفها السياسي داخل بيروت، فالرياض المنهكة في اليمن وسوريا، ليس بوسعها الالتزام بدعم حلفائها في لبنان، وهو ما أثر بصورة سلبية في نظرة اللبنانيين للسعودية، في الوقت الذي تسرع فيه إيران لسحب البساط من تحت أقدامها بعقد عديد من الصفقات السياسية والاقتصادية مع حلفاء الرياض السابقين.
حزب الله اللبناني صداع في رأس الحكومة السعودية
ما لا يدرك كله لا يترك جله
الآن بعد أن أصبح المرشح المرفوض من قِبل الرياض رئيسًا، مما يعني تمدد حزب الله وإيران أكثر وأكثر داخل المجتمع اللبناني، وبدلاً من أن يهيمن الذراع السياسي والعسكري لإيران في لبنان على الجنوب وفقط، بات الآن مهيأ لأن يبسط سيطرته على قطاع ليس بالقليل في الشمال، وهو ما يضع مستقبل المسلمين السنّة هناك في خطر.
ما تتعرض له الرياض في سوريا من هزات عنيفة جراء الدعم الروسي الإيراني القوي لجبهة بشار الأسد في الوقت الذي تراجع فيه الدور الأمريكي، إضافة إلى الخسائر التي تتكبدها على أيدي الحوثيين في اليمن، فضلاً عن السياسات المتطرفة التي أبداها ساكن البيض الأبيض الجديد دونالد ترامب تجاه المملكة والقضية السورية، أجبر القيادة السياسية في الرياض على إعادة النظر في توجهاتها الخارجية والإقليمية، فما كان مقبولاً بالأمس لم يعد مقبولاً اليوم.
السياسة الخارجية الجديدة للرياض لا شك أنها ستضع نصب أعينها محاولة تقليل حجم الخلافات بينها وبين حلفائها الإقليميين، فالجفاء مع بيروت وتوتر العلاقات مع القاهرة وتباين وجهات النظر مع الجزائر، لا بد أن تكون موضع دراسة واهتمام من قبل القيادة السعودية، خاصة في ظل سحب البساط من تحت أقدامها مؤخرًا لصالح تحالفات جديدة تأتي في مقدمتها التحالف الروسي الإيراني.
السياسة الخارجية الجديدة للرياض لا شك أنها ستضع نصب أعينها محاولة تقليل حجم الخلافات بينها وبين حلفائها الإقليميين، فالجفاء مع بيروت وتوتر العلاقات مع القاهرة وتباين وجهات النظر مع الجزائر، لا بد أن تكون موضع دراسة واهتمام من قبل القيادة السعودية
ومن ثم تأتي زيارة خالد الفيصل لبيروت في محاولة لإحياء التحالف القديم مع سعد الحريري وتياره السياسي، واستعادة الرياض نفوذها المفقود في مواجهة المد الشيعي هناك، وهو ما يفسر مساعي الرياض لحلحة أزمة الشركة المملوكة للحريري في السعودية، إضافة إلى إعادة نظر المملكة في العقوبات المفروضة على الجيش اللبناني، حسبما أشارت مصادر مقربة من دوائر صنع القرار السعودي.
ومن ثم هناك من يعول على هذه الزيارة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الرياض وبيروت، خاصة وأنها تأتي في وقت شديد الحساسية للجانبين، فلبنان بحاجة شديدة إلى الدعم السعودي سواء على مستوى التمويل العسكري أو الاقتصادي في ظل الأزمة الطاحنة التي يتعرض لها، وفي المقابل المملكة تبذل قصارى جهدها للملمة أوراقها المبعثرة على طاولة حلفائها القدماء، لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في مواجهة المد الصفوي الإيراني، فهل تؤتي زيارة اليوم الواحد ثمارها؟