يبدوا أن إتجاه الحكومة المصرية نحو بيع بعض أصول الدولة لم يعد مجرد تكهنات تداعب خيالات الإقتصاديين، وقراءة في فنجان توقعات خبراء المال والإستثمار، بل بات واقعا ليس بينه وبين التنفيذ سوى الوقت وفقط، لتدخل مصر مرحلة جديدة من الخصخصة التي دفع ثمنها المصريون إرتفاعا في منسوب التضخم والبطالة والفجوة بين الفقراء والأغنياء.
المقال الذي نشرته وزيرة التعاون الدولي المصرية سحر نصر، بصحيفة “ذي وال ستريت جورنال” الأمريكية، ، تحت عنوان “مصر ترسم مسار اقتصادي جديد.. إطلاق طاقات البلاد للنمو من خلال القطاع الخاص الخالية من اليد الثقيلة للدولة”، جاء ليسدل الستار على مضمار التكهنات الخاصة ببيع القطاع العام، حيث أشارت الوزيرة إلى أن عمليات بيع جزئية لشركات وبنوك حكومية، لم يعد خيارا، بل ضرورة لعبور مصر أزمتها الإقتصادية الراهنة.
العديد من التساؤلات فرضت نفسها حول آليات تنفيذ مخطط بيع أصول الدولة المصرية، وما تحمله من مؤشرات إقتصادية قد تهدد مستقبل الملايين من المصريين، إضافة إلى إنعكاسات هذا التوجه على مايزيد عن 40 مليون مواطن تحت مستوى خط الفقر.
ليست الاولى
وزيرة التعاون الدولي في مقالها أشارت إلى أن المهمة الأساسية للحكومة هي استعادة الاستقرار الاقتصادي، واستمرار التنمية المستدامة والشاملة، بعد الوضع الذي عانى منه منذ ثورة 25 من يناير، وأن الهدف من اللجوء إلى خيار بيع بعض أصول الدولة هو رفع النمو ليصل إلى 6%، وتخفيض عجز الميزانية إلى 10%، والدين العام لأقل من 88% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2018.
من الواضح أن تصريحات وزيرة التعاون الدولي ليست الأولى في هذا المضمار في عهد عبدالفتاح السيسي، فقد سبقها منذ أشهر قليلة تصريح أخر لوزيرة الإستثمار، داليا خورشيد، والتي كشفت عن وجود خطة لبيع حصص من شركات القطاع العام، مشيرة أن هناك ترتيبات تجري حاليا لاختيار بنوك الاستثمار التي ستدير هذه الطروحات، وإن برنامج الدولة لطرح الشركات سيستغرق فترة زمنية تتراوح ما بين 3 و5 سنوات.
تصريحات وزيرة التعاون الدولي ليست الأولى في هذا المضمار في عهد عبدالفتاح السيسي، فقد سبقها منذ أشهر قليلة تصريح أخر لوزيرة الإستثمار، داليا خورشيد، والتي كشفت عن وجود خطة لبيع حصص من شركات القطاع العام
خورشيد في تصريحاتها أشارت إلى أن قيمة الأسهم التي سيتم طرحها سيصل إلى 10 مليارات دولار، وأن القطاعات التي ستطرح جزئيا في البورصة ستكون في مجالات مثل الطاقة والبترول والقطاع المصرفي، دون توضيح شروط طرح الأسهم، هل قاصرة على المصريين أم متاحة لغيرهم، وهل للشركات المتوقفة أم التي تعمل؟
واستنادا إلى هذا التوجه، فقد عكفت وزارة الاستثمار، بالتعاون مع وزارة المالية والبنك المركزى المصرى، على وضع برنامج متكامل لطرح شركات القطاع العام فى البورصة، يبدأ بعدد من شركات البترول وبعض البنوك، وذلك من خلال عدة مراحل.
المرحلة الأولى تبدأ نهاية العام الحالى، وبحد أقصى يناير 2017 ، يعقبها طرح إعادة هيكلة بعض شركات قطاع الأعمال، خلال فترة زمنية تتراوح بين 3و5 سنوات، تستهدف جمع 10 مليارات دولار، وذلك بهدف إيجاد وسيلة مضمونة للمستثمر الأجنبى لتحويل واستغلال أرباحه لمشروعات قائمة أو مستقبلية بما يسهم فى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التى تأثرت بشكل كبير الفترة الماضية .
أما عن مستويات عمليات الطرح فكما تشير الوزيرة فهي ثلاث: الأول يستهدف المواطن العادى بهدف تعزيز مشاركته وتوفير وسيلة للفرد للاستثمار بدلاً من إيداع أمواله فى البنوك أو شراء عقارات، أما المستوى الثانى فيستهدف المستثمر المحلى، والثالث يشمل الطرح الدولى الذى يستهدف جمع دولارات من الخارج بسرعة .
وعن أولى خطوات هذا التوجه، أكدت وزيرة الإستثمار المصرية أنها بحثت مع بورصة الإمارات «ناسداك» إتاحة الفرصة لطرح الشركات الحكومية من خلالها بالتزامن مع طرحها فى مصر، بحيث يتم التداول بشكل ثنائى فى نفس الوقت، وجارٍ إعداد اتفاقيات مماثلة مع باقى البورصات العالمية
الوزيرة بررت سرعة اللجوء إلى هذا الخيار المثير للجدل إلى أن مصر بحاجة كبيرة للاستثمارات الأجنبية المباشرة خاصة فى الفترة المقبلة، ولكن تلك النوعية من الاستثمارات تحتاج لفترة زمنية طويلة، كما تحتاج لبيئة تشريعية مهيأة، وكل هذه الأمور تستغرق وقتاً زمنياً، لافتةً إلى أن الطروحات فى البورصة، كاستثمار أجنبى غير مباشر، ستشجع الاستثمار الأجنبى المباشر إذ يتمكن المستثمر من استغلال عوائد مشروعاته وتحويلها للخارج، معربة عن تفاؤلها بنجاح هذه الطروحات الجديدة، خاصة أن عوائد الاستثمارات فى مصر عالية جداً مقارنة بدول أوروبا وأمريكا .
داليا خورشيد خلال إجتماع الهيئة العامة للإستثمار
الحكومة تناقض نفسها
كعادتها منذ توليها مقاليد الأمور، تقع حكومة شريف إسماعيل في سلسلة من التناقضات التي تعكس قصر رؤيتها وإفتقادها للتخطيط المسبق، ففي الوقت الذي خرجت فيه وزيرتا التعاون الدولي والإستثمار تعزفان على وتر بيع أصول الدولة لحل سريع للخروج من المأزق الحالي، يخرج علينا مسئول حكومي آخر ليؤكد دعم الحكومة لشركات القطاع العام، مايكشف عن إزدواجية غير مفهومة لرجال حكومة إسماعيل.
الدكتور أشرف الشرقاوي، وزير قطاع الإعمال في تصريحات له منذ فترة أشار إلى ان الحكومة تعمل جاهدة على إحياء دور شركات القطاع العام، والعمل على إستعادة هيبتها من جديد، مؤكدا ان الوزارة تسعى لإعادة هيكلة القطاع العام من خلال خطط مدروسة وواضحة، وإن أهم خطوات تطوير القطاع الاستفادة من الأصول غير المستغلة، بعد أن استعرض خطة تطوير أداء الشركات القابضة للغزل والنسيج والملابس وشركاتها التابعة، خلال اجتماع لجنة الصناعة.
هذا التناقض الواضح والتخبط الملحوظ في سياسات الحكومة نحو القطاع العام، يفضح إدعاءاتها بشأن دراسة المسألة بشكل مفصل كما أكدت وزيرة الإستثمار، كما أنه في نفس الوقت يؤكد فشل قراءة الحكومة للتاريخ جيدا، إضافة إلى عدم وعي الدروس المستفادة سابقًا والتي بسبب هذا التوجه تعرضت الدولة إلى تصفية الشركات وخسارة أصولها إضافة إلى تشريد العمال.
البيع هو الحل..سياسة الأنظمة المتعاقبة
” كل ماتتزنق اقلع”.. تلك الجملة الشهيرة التي خرجت للنور لأول مرة في مسرحية “مدرسة المشاغبين” بدايات سبعينات القرن الماضي، تنطبق بصورة كاملة على حكومات الأنظمة المصرية المتعاقبة خلال العقود الأخيرة، مع بعض التغيرات الطفيفة على سياقها اللفظي، لتصبح ” كل ماتتزنق بيع”، علامة مسجلة للحكومات المتعاقبة.
البدايات كانت في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ففي عام 1991 طبقت الحكومة سياسة الخصخصة بناء على توجيهات صندوق النقد الدولي، بعدما تفاقمت مشكلة الديون الخارجية لمصر وزاد عجز الميزانية وارتفعت معدلات التضخم، بحسب تقرير صادر عن مركز دعم واتخاذ القرار التابع لرئاسة الوزراء، ومن هنا كان “بيع شركات القطاع العام” للمستثمرين .
وفي عهد الرئيس المعزول محمد مرسي أعاد إحياء مشروع تنمية القناة تحت مسمى “محور تنمية أقليم قناة السويس”، إلا أنه تعرض لهجوم كبير من سياسيين واقتصاديين الذين رأوا أنه “بيع القناة” لقطر، وهو ما تسبب في عرقلة تنفيذه، فضلا عن الإطاحة به قبل أن يبت النظر في أي من تلك المشروعات.
ورغم الهجوم والإنتقاذ اللاذع الذي تعرضت له سياسة البيع والتنازل عن مقدرات الدولة، إلا أن حكومة شريف إسماعيل أصرت في أن تسير بنفس الخطى
ومع قدوم السيسي بات هذا الشعار منهج حياة متكامل، وهو مايجسده اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية، التي وقعتها الحكومة مع العاهل السعودي الملك سالمان بن عبد العزيز، أثناء زيارته للقاهرة مطلع إبريل المنصرم، والتي قضت بنقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين في البحر الأحمر للملكة.
ورغم الهجوم والإنتقاذ اللاذع الذي تعرضت له سياسة البيع والتنازل عن مقدرات الدولة، إلا أن حكومة شريف إسماعيل أصرت في أن تسير بنفس الخطى، وهو ماجاء على لسان وزيرة الإستثمار ومن بعدها التعاون الدولين بشأن عزم الدولة على بيع بعض أصول القطاع العام للمستثمرين، وهو ما أثار ضجة وجدل كبير في الشارع السياسي خلال الفترة الماضية إلا أنه بات من الواضح أن الحكومة بمشروعاتها واستراتيجياتها في واد، والشعب وهمومه وآلامه في واد آخر.
جزيرة تيران التي تنازلت عنها مصر لصالح السعودية
الرضوخ لصندوق النقد الدولي
في قراءة سريعة لقرارات وتوجهات الحكومة الحالية نجد أن معظمها يسير في إطار الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي، وهو ما أعلنت عنه وزيرة التعاون الدولي في مقالها سالف الذكر، من أن خطة الحكومة نحو تحقيق أهدافها ينطلق من خلال بعض القرارات المتخذة منها، تحرير سياسة الصرف العملة الأجنبية وتعويم الجنية المصري، وتخفيض دعم الطاقة وقانون الخدمة المدني، وفرض المزيد من الضرائب، وتخفيض عدد العمالة.
وتتلخص شروط الصندوق في خمسة محاور أساسية، أولها: تحرير سعر صرف الجنيه وهو ما أفقده ضعف قيمته السوقية، في الوقت الذي تعاني في الرواتب من مشاكل في الحركة والنمو، ثانيًا: رفع الدعم تدريجيًا عن المحروقات والطاقة، وهو ما تسبب في زيادة أسعار السلع والخدمات وفي مقدمتها السلع الاستهلاكية والمواصلات والأدوية، ثالثًا: تقليص الجهاز الإداري للدولة عبر قانون الخدمة المدنية، وهو ما يلقي بالملايين في الشارع دون وظيفة أو عمل، رابعًا: سد العجز في موازنة الدولة، وذلك من خلال فرض المزيد من الضرائب والرسوم، في مقدمتها قانون القيمة المضافة، وتوفير المليارات المقدمة للدعم السلعي، خامسًا: التخلي عن شركات القطاع العام واللجوء نحو الخصخصة وفتح الباب أمام الإستثمار الأجنبي.
تتلخص شروط الصندوق في خمسة محاور أساسية، أولها: تحرير سعر صرف الجنيه، ثانيًا: رفع الدعم تدريجيًا عن المحروقات والطاقة، ثالثًا: تقليص الجهاز الإداري للدولة، رابعًا: سد العجز في موازنة الدولة، خامسًا: التخلي عن شركات القطاع العام واللجوء نحو الخصخصة
وبالفعل نجحت الحكومة في تحقيق كل هذه الشروط دون إستثناء، مؤكدة عزمها على مواصلة هذا النهج مستقبلا، وهو ما أكد عليه وزير البترول طارق الملا والذي أكد في تصريحات له أمس، أن الدولة مستمرة في خطتها الاستراتيجية للإصلاح الاقتصادي، حتى يتم رفع الدعم عن الوقود نهائيا على أن يتم توجيه قيمته إلى مستحقيه فقط، ويوزع في قطاعات أخرى مثل الصحة والتعليم، من خلال التوسع في برامج الحماية الاجتماعية، ومن ثم جاءت توجهات الحكومة نحو الخصخصة استجابة للصندوق بهدف الحصول على القرض وهو ماتم بالفعل، حيث حصلت مصر على الدفعة الأولى من القرض والتي تبلغ قيمتها 2.7 مليار دولار.
السيسي خلال لقاءه مديرة صندوق النقد الدولي
التحايل على الشعب
من الواضح أن هناك إصرار من قبل الدولة على المضي قدما في طريق الخصخصة مهما كانت العواقب، وسواء كان الطرح لبعض الأسهم فقط أو للبيع، فإنه في كل الأحوال ستذهب قيمة تلك الأسهم المطروحة في جيوب المستثمرين ورجال الأعمال الكبار ولا عزاء للمواطنين.
ثم أن هناك استفسارا آخر يتعلق بمدى ملائمة هذا الطرح مع عمل البورصة، فليس من المنطقي أن تطرح الحكومة أسهم الشركات الرابحة للبيع، بل ستلجأ إلى الأخرى الخاسرة، وهو مايتنافى مع عمل أسواق المال التي تعتمد في حركة البيع والشراء من قبل رجال الأعمال على الأسهم الرابحة وليس الخاسرة، أما إن كانت الحكومة تفكر في طرح أسهم شركات رابحة للبيع فتلك جريمة أخرى.
ولنفترض أن الدولة ستعرض أسهم الشركات الرابحة للبيع داخل البورصة، فهناك العديد من التساؤلات غير المفهومة حتى الآن فيما، منها، ما الشروط من حيث الملكية، هل قاصرة على المصريين فقط أم متاحة للأجانب، وهل سيتم طرح أسهم الشركات المتوقفة أم الشركات التي تعمل؟ مايجعل عملية طرح بيع مثل هذه الأسهم غير مكتملة الآركان.
الدكتور شريف فياض، الخبير الاقتصادي، حذر من هذه الخطوة، مرجحا إصرار الحكومة على السير نحو طريق الخصخصة، وذلك بعدما عجزت عن إدارة القطاع العام، ما يتسبب في تشريد العمال أو تخفيض رواتبهم، الأمر الذي يزيد الفجوة الاجتماعية ويؤدي إلى إفقار هذه الطبقة أكثر مما عليه.
ارتفاع الأسعار شبح يغتال أحلام المصريين
وتساءل فياض عن القيمة التي تحدثت عنها الوزيرة من بيع حصص الشركات والمقدرة بـ10 مليارات دولار، من الذي حددها، هل مؤسسات الدولة أم الشركات الأجنبية أم البنوك التي ستدير الحصص، وعلى أي أساس تم تحديدها؟ مضيفا أن عملية بيع حصص من القطاع العام تثبت تبني الحكومة لسياسات صندوق النقد الدولي، والعمل بتوجهات طبقية لصالح المستثمرين ورجال الأعمال على حساب الفقراء، ما اتضح في الموازنة الجديدة.
كما أن اللجوء إلى خصخصة شركات القطاع العام يتسبب في تعرية المواطن الفقير، الذي يعتمد بصورة كلية أو جزئية على موارد هذا القطاع الذي يحقق له نسبة ما من الضمان المجتمعي والإقتصادي، وفي حال إختفاء هذا القطاع أو خصخصته يجد المواطن نفسه عاريًا تمامًا من أي ضمان، ما يهدد بزيادة الفقراء فقرًا، والأغنياء غنًا.
وبالوقوف على معدلات زيادة نسبة الفقر فى مصر خلال العامين الماضيين فقط والتي وصلت إلى 27.8% من المصريين العام الماضى مقابل 26.3% فى 2013، بمعدل نمو 5.7%، أي بما يقرب من 14 مليون مواطن يعيشون تحت مستوى خط الفقر، فضلا عن 76 مليون معرضون للإنضمام لقائمة الفقراء خلال السنوات القادمة في ظل القفزات الجنونية في الأسعار والخدمات، إضافة إلى زيادة نسب التضخم والبطالة، نجد أن توجه الحكومة نحو الخصخصة وبيع القطاع العام سيلقي بظلاله القاتمة على مستقبل الفقراء في مصر، وهو مايهدد النسيج المجتمعي بصورة تلقي بمستقبل الملايين من المقهورين في هذا الوطن في ملعب رجال الأعمال والمستثمرين يتلاعبون بمصائرهم أينما شاءوا ووقتما شاءوا، دون حماية لهم من الدولة التي رفعت أيديها عنهم بصورة شبه كاملة.
خصخصة شركات القطاع العام يتسبب في تعرية المواطن الفقير، الذي يعتمد بصورة كلية أو جزئية على موارد هذا القطاع الذي يحقق له نسبة ما من الضمان المجتمعي والإقتصادي.
ويبقى السؤال: ماذا لو أٌدمت الحكومة على تنفيذ برنامجها المزعوم بـ” الإصلاحي” من خلال ماتطرقت إليه من خطوات وآليات تنفيذ؟ أين سيكون موقع المواطن الفقير من أولويات الدولة حينها؟ وهل تشهد مصر موجة جديدة من المجاعة تطيح بالأخضر واليابس؟ هذا ماسيتكشف عنه الستار خلال الأيام القادمة.