بعد انتهاء كل حرب أو نزاع تلجأ الأطراف المتنازعة إلى اتفاقات ومعاهدات ترسم شكل العلاقات في المراحل اللاحقة، في العراق حرب أهلية وأزمة اقتصادية وفساد إداري ومالي، وكلها أمور تستوجب الاتفاق على مبادئ وتسويات للخصومات السياسية والنزاعات العسكرية لتوفير الأجواء المناسبة للوصول بالدولة إلى شاطئ الأمان.
خسرت ألمانيا الحرب العالمية الأولى، وتم توقيع معاهدة فرساي 1919 بين ألمانيا والحلفاء، وبطبيعة الحال تم معاقبة ألمانيا لمنعها من تشكيل أي تهديد مستقبلي، وبناءً على طلب انتقامي من فرنسا تم إقرار عقوبات اقتصادية وسياسية مجحفة، وفقدت ألمانيا 13% من أراضيها و10% من سكانها، فضلاً عن القيود التي فرضت على الآلة العسكرية الألمانية، بالإضافة إلى تحميل ألمانيا مسؤولية الحرب وتقديم التعويضات للأطراف المتضررة.
رأى الألمان أن المعاهدة كانت إهانة كبرى لهم، فضلاً عن الديون الثقيلة التي ألقيت على عاتق عجلة الاقتصاد، أدت هذه الأسباب إلى إشعال الحرب العالمية الثانية على يد المستشار الألماني أدولف هتلر، والذي كان جنديًا في الحرب العالمية الأولى، عندما احتل هتلر باريس ذهب إلى قصر فرساي وأمر بجلب العربة ذاتها التي تم توقيع معاهدة فرساي فيها لتوقيع اتفاقية جديدة مع الفرنسيين.
انفردت جريدة المدى العراقية في عددها الـ3771 الصادر بتاريخ 31 من تشرين الأول بنشر رؤية المكون الشيعي بشأن ما سمي وثيقة (التسوية الوطنية) والتي تحظى بشبه إجماع شيعي كما يقال، وأن رئاسة التحالف الشيعي الحالية المتمثلة بالسيد عمار الحكيم يقومون بوضع اللمسات الأخيرة للتسوية بالشراكة مع الأمم المتحدة.
القراءة الأولية تشير إلى اختيار من وضعها لكلمات ومصطلحات يراد لها أن تكون توافقية من أجل عدم استفزاز طرف ما، حالها كحال الوثائق السابقة كمؤتمر القاهرة عام 2005 ووثيقة مكة عام 2006 وورقة الإصلاح السياسي عام 2008 والتي لا تساوي تكلفة الحبر الذي كتبت به.
نصت الوثيقة على أن جميع الاتفاقات ستكون خاضعة لسقف الدستور العراقي لعام 2005 والذي رفضه أغلبية المكون العربي السني في وقت سابق.
تصفير المشاكل، مبدأ لا غالب ولامغلوب، التسوية الشاملة وليس التنازل أحادي الجانب، رفض استخدام العنف كورقة سياسية لتحقيق التسويات السياسية، هذه هي الأسس الأربع التي قامت عليها رؤية التحالف الوطني لوثيقة (التسوية الوطنية) .
تصفير المشاكل هو مصطلح مثالي دخيل على عالم السياسة، فلا يوجد تصفير للمشاكل وإنما يوجد إدارة للمشاكل أو احتواء، صاحب نظرية (صفر مشاكل) الأكاديمي الدكتور أحمد داوود أوغلو أخفق في تطبيق نظريته على الواقع حين تسلم رئاسة الوزراء، بل ترك تركيا غارقة بالمشاكل على الصعيدين الدولي والإقليمي، المعضلة مع الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة في العراق ليس التصفير ولكن (التفسير) والذي يأتي في مرحلة لاحقة، في ظل العقلية التي تحكم أداء الطبقة الحاكمة بعد 2003 الذي يتميز بالمماطلة والتسويف وترحيل المشاكل والنفس الطويل وارتهان القرار بيد اللاعب الإقليمي الأقوى.
“لا غالب ولا مغلوب” هو أساس مجافٍ للواقع، فنحن في حقيقة الأمر أمام نصر واضح المعالم للمكون الشيعي، وأمام هزيمة للمكون العربي السني بكل المقاييس، المنتصر سيفرض شروطه كما حدث مع ألمانيا وتركيا واليابان، والمكون الشيعي لن يفرط بهذا الإنجاز الذي تحقق بعد كل هذه التضحيات والخسائر.
الأمم المتحدة في العراق ستلعب دور الطرف الضامن لتنفيذ بنود هذه التسوية، لكن في بلد يتوفر فيه السلاح بكميات كبيرة فضلاً عن عشرات المليشيات وقناعة بعض الأطراف بأن السلاح هو الحل في كل النزاعات ورغبة البعض في تطبيق حكم الأغلبية في مرحلة ما بعد الموصل، تصبح مهمة الأمم المتحدة صعبة للغاية.
تعهدت بعثة الأمم المتحدة في العراق بتوفير دعم دولي وإقليمي للوثيقة في ظل تباين المصالح الحاد للدول المؤثرة في الشأن العراقي، فضلاً عن تعهدها بتقديم (جهة سياسية سنية موحدة) للتفاوض بشأن وثيقة التسوية، أزمة التمثيل السني هي مشكلة مستدامة لها أسبابها الموضوعية، ولا يعرف المكون العرب السني ماذا يريد!
“Iraq’s good sunni” (السني الجيد) تقرير نشرته مجلة foreign policy الأمريكية تناولت فيه شخصية يزن مشعان الجبوري الذي يقاتل تنظيم داعش مع الحشد الشعبي في ظل الغطاء الجوي الأمريكي، فهل هذا هو النموذج السني المطلوب توفيره لتمثيل السنة في مفاوضات وثيقة التسوية؟
“حرب تلد أخرى” عنوان لكتاب نشره في عمان عام 1992 صاحب مجموعة الشرقية للإعلام سعد البزاز، تناول فيه حرب الخليج الثانية عام 1991، أشار فيه أن الحروب تولّد حروبًا أخرى وتفتح أبوابًا لتوترات مستقبلية بين المتصارعين إن لم تصل لتسويات مرضية ونتائج واضحة أو إنهاء أحد أطراف النزاع وإخضاعه للطرف الآخر.
استمرار النهج الحاليّ في الأداء السياسي للطبقة السياسية العراقية، ستحول هذه التسوية هي مجرد إعلان استسلام للمكون السني، وكثير من الناس سيتداولون فكرة “حرب تلد أخرى” باعتباره حقيقة وقدرًا لا مفر منه.
لكن بلا شك قد تفتح بعض الحروب الباب أمام حلول مرحلية أو طويلة الأمد، المشكلة في العراق معقدة وتحتاج لحلول معقدة، فلا الحروب وحدها تحل المشاكل ولا المفاوضات وحدها.
إذا استطاعت التسوية رسم خطوط واضحة للمرحلة القادمة ووضع خطوات عملية يتم الالتزام بها من الأطراف المعنية كافة، وإثبات توقيتات زمنية محددة لتنفيذ الاتفاقات، فإنها لن تكون تسوية “وطنية” بل تسوية “تاريخية” بكل المقاييس، لكن هل ستكون هذه التسوية حربًا تلد حلولاً أم حرب تلد أخرى؟