أولاً: صندوق النقد
لم يعد بخافٍ الانعكاسات الاقتصادية المدمرة لسيناريو الاقتراض من صندوق النقد الدولي، فهذا من الحقائق والمسلمات البدهية.
ومن الحقائق كذلك دور ووظيفة صندوق النقد وأخواته من المؤسسات المالية المشابهة كالبنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية وغيرهم، في إفقار وإخضاع الدول ووضعها تحت سيطرة وهيمنة الدول الاستعمارية الرأسمالية الكبرى المسيطرة على المجال العالمي، والمعروفة بدول المركز، خدمةً لشركات الكوربوريشن العابرة للمحيطات متعددة الجنسيات، ولا يخفى كذلك أن الذراع الطولى في هذه المؤسسات والشركات هي الذراع الأمريكية.
الغرض الرسمي المعلن لوظيفة الصندوق الأساسية هي العمل على استقرار النظام النقدي المالي العالمي، ومنع وقوع فوضى عالمية وأزمات اقتصادية كأزمة الكساد العالمي في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وكذلك مساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشاكل اقتصادية وتأخر في عملية التنمية، ونحو هذه الأهداف الحالمة.
ولكن في حقيقة الأمر فإن الدور الرئيس لسياسات صندوق النقد هو سرقة وتدمير عشرات الدول من مختلف قارات العالم، كما بين ذلك الباحث الألماني أرنست فولف في كتابه القيم “صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية”.
يقول فولف في افتتاحية الكتاب: “هذا الكتاب هدية لبني البشر في إفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا، الذين لا يستطيعون قراءته، لأن سياسة صندوق النقد الدولي قد حرمتهم من الالتحاق بالمدارس”.
كما يبين وولف تجاوز الأمر تلك الوظيفة المعلنة بصورة ساذجة حيث إن تدخلات صندوق النقد في الشؤون الداخلية للدول المقترضة تبدو في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش عسكرية حربية، حيث ينتهك سيادة هذه الدولة أو تلك، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى من المواطنين وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي، ويضيف “في كل هذه التدخلات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنودًا بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، وهي عمليات التمويل”.
ثانيًا: الاغتيال الاقتصادي بصور متعددة
ويأتي كتاب رجل اقتصادي مأجور أو الاغتيال الاقتصادي للأمم، “Economic Hit Man”، لرجل المخابرات الأمريكية جون بركنز ليشرح بصورة شبه مفصلة دور رجال المخابرات في تنفيذ مهام صندوق النقد وأمثاله من مؤسسات الإقراض الدولية من أجل السيطرة والهيمنة على مقدرات الدول وثرواتها وإخضاعها لرغبات وأوامر واحتياجات الدول الاستعمارية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وتبدأ العملية في قيام الدول الكبري – أمريكا تحديدًا -، بتوجيه الدول المراد استعمارها اقتصاديًا بالاقتراض من إحدى هذه المؤسسات وفي مقدمتها صندوق النقد، بهدف معلن مزيف وهو التنمية الاقتصادية لهذه الدول، وتطوير البنية الأساسية وإصلاح الاقتصاد، ولا سبيل لهذه الدول إلى الرفض، فكما يقول بركنز في حالة رفض دولة ما للخضوع للهيمنة الاقتصادية، فإن البدائل إما اغتيال الرئيس أو انقلاب عسكري أو حرب أهلية أو تدخل عسكري مباشر.
وكل ذلك قد حدث.
فمن اغتيال رؤساء: بنما والإكوادور كلاهما 1981م، وتشيلي في السبعينيات.
وانقلاب عسكري أو فوضى أهلية: كإيران مصدق وكذا جواتيمالا في الخمسينيات، ومصر مرسي 2013م، وكذلك تشيلي في السبعينيات حيث قام الجيش بدك القصر الرئاسي وبداخله الرئيس بالطائرات، وفي روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في التسعينيات، دك الجيش الروسي بقيادة يلتسين البرلمان الأبيض بالدبابات، لرفضه الخضوع للسياسات الغربية الرأسمالية.
أما التدخل العسكري المباشر: فالمثال الصارخ حالة العراق 2003م، وكذلك ليبيا استغلالاً للثورة ضد القذافي.
أما إذا اختارت الدولة الخضوع لسياسات النقد الدولي، فإنها تطبق وفقًا لأوامر صندوق النقد مجموعة من القرارات الاقتصادية الصادمة والمؤلمة، مثل رفع الدعم عن السع المختلفة وعن الطاقة والنفط وتحرير سعر الصرف وخصخصة الشركات المملوكة للدولة وتقليل الإنفاق الحكومي على قطاعات التعليم والصحة وخفض الضرائب وتقليل عدد موظفي الدولة والقطاع العام وغير هذا من القرارات الكارثية.
ونظرًا لأن هذه الدول في الأصل لا تمتلك قوة أو قدرة اقتصادية حقيقية، وإلا لما لجأت من الأساس لهذا الاتجاه، حيث إن اللجوء لصندوق النقد يمثل الخيار الأسوأ لحكومات ديكتاتورية، عمياء البصر والبصيرة، ترفض الإصلاح الحقيقي من أجل الحفاظ على السلطة والمكتسبات والمصالح الخاصة، فإن تطبيق هذه السياسات يعتبر تدمير وخراب يفوق التصور المبدئي الساذج لهذه الحكومات الغاشمة.
ثالثًا: اقتصاد الصدمة
الكتاب الثالث في ذات الصدد، وإن كان سابقًا على كتاب فولف، هو كتاب ناعومي كلاين “عقيدة الصدمة” أو “The Shock Doctrine” وهو يشرح العديد من الأمثلة للدول التي طبقت وخضعت بأوامر أمريكية لشروط الاقتراض الدولي، ويرصد الكتاب الخراب المدمر الناتج عن تطبيق هذه السياسات الصادمة المجحفة.
من رفع الدعم نهائيًا عن السلع والطاقة، وارتفاع غير مسبوق للأسعار الدواء والغذاء والعقارات والنقل والمواصلات وكل شيء أضعافًا مضاعفة، وانهيار رهيب لسعر العملة أمام الدولار، وزيادة في التضخم والبطالة، وتسريح عشرات بل مئات الألوف من الموظفين، مع انخفاض في مرتبات المتبقين، وغلق مئات المصانع، وارتفاع معدلات الفقر والجهل والجريمة، وقل وتوقع أي شيء، ويصبح، كما حدث في بعض الدول، ما يقرب من 70% من الدخل ينفق في شراء رغيف العيش، وفي النهاية تتحول الدولة في أشهر معدودة إلى دولة مفلسة فاشلة، ألعوبة في يد صندوق النقد ليضعها على مائدة الدول الاستعمارية وأذرعها من الشركات متعددة الجنسيات، تفعل بها ما تشاء.
وفي نهاية الأمر يتم إفقار الملايين، وتظل الدولة فقيرة أبدًا، ولا تتقدم لا في تنمية أو إصلاح أو معدل نمو أو غيره، والصندوق هو الذي يحدد أين تنفق هذه الأموال التي يدفعها، ولا تكون أبدًا في تنمية حقيقية، فضلاً عن أن تعمل على تخفيض المديونية الخارجية للدولة، أو تعمل على علاج الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه المديونية التي تزداد بتوحش بفعل الانخفاض المستمر في قيمة العملة بسبب شروط الصندوق، فالهدف، وفقًا لبركنز، أن تظل في قبضة الدين أبدًا، لأنه كما هو معلوم أن صاحب الدين يكون في وضع السيطرة والهيمنة والتحكم.
وفي المقابل الأموال التي يدفعها صندوق النقد أو غيره من مؤسسات الإقراض الاستعمارية لا ينتفع منها البلد المدين، ولكن، كما يقول بركنز أيضًا، حقيقة الأمر أن الأموال لا تغادر الولايات المتحدة، حيث تتحول ببساطة من حسابات بنوك واشنطن، إلى حسابات شركات في نيويورك أو هيوستن أو سان فرانسيسكو.
وقد رأينا الدفعة الأولى التي تسلمتها مصر من الصندوق اشترط الصندوق أن تسدد للشركات الأجنبية الدائنة لمصر.
وفي الجملة نحن أمام عشرات الأمثلة، في هذه الكتب الثلاث وغيرها، للسياسات التي يتبعها الصندوق في نهب وسرقة وتدمير عشرات الدول على مستوى العالم بدءًا من الدول الإفريقية مرورًا بأمريكا اللاتينية وآسيا، من شيلي والبرازيل والأرجنتين وروسيا واليونان ونيجيريا، وصولًا لدول شرق أوروبا حيث تسببت سياسات الصندوق في تدمير دولة يوغسلافيا، كما تسببت في حدوث أكبر عملية حرب وتطهير عرقي شهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
وكما ذكر بركنز، تبين ناعومي أن أمريكا وشركاءها يتبعون ثلاثة أنواع من الصدمات: أولاً صدمة الحرب والرعب، ثانيًا صدمة الاقتصاد، ثالثًا صدمة القهر والتعذيب.
ومع هذه الاعتبارات وأخرى متعددة تصبح الحالة العراقية من أسوأ الأمثلة العربية الحديثة، وهو أقرب سيناريو المراد للحالة المصرية، بدا ذلك واضحًا منذ اللحظة الأولى لإعلان الانقلاب العسكري في 2013م.
رابعًا: النيوليبرالية
تبين ناعومي وفولف بمنتهى التوضيح، هذه السياسات لصندوق النقد، المبنية في الأساس على مبادئ مدرسة شيكاجو الاقتصادية، الذين اشتهر بتسميتهم “Chicago Boys” بقيادة الاقتصادي الحائز على نوبل ميلتون فريدمان، وهو صاحب هذا الفكر الاقتصادي المدمر.
وينبني هذا الفكر على مبدأ أو فكرة استخدام الصدمة في العلاج، واستخدم هذا الأسلوب أولاً في عالم الطب النفسي، ثم تلقفته المخابرات، ثم عالم الاقتصاد بقيادة ميلتون.
ويتضح من المسمى أن هذا الأمر منذ بدأ صار بمثابة العقيدة المتبعة أي لا محيد عنها، فالنظام العالمي الاستعماري يؤمن بها تمام الإيمان كالعقيدة المتبعة، وقد روج له كبار المفكرين السياسيين كفوكوياما، وغيره طبعًا من الاقتصاديين.
وتم تجريب هذا الأسلوب في السبعينيات في دول أمريكا اللاتينية، كشيلي والبرازيل والأرجنتين وغيرهم، ثم انتقل تطبيقه إلى إنجلترا وأمريكا على يد عرابي النيوليبرالية مارجريت تاتشر ورونالد ريجان، وذلك ترويجًا وتأكيدًا لهذه العقيدة، ثم تتابع التطبيق واتسع نطاقه خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وتم تطبيقه مع الروسي يلتسين ثم في دول شرق أوروبا وكذلك دول إفريقيا وآسيا وهكذا.
ويكفي مراجعة بعض هذه الحالات لندرك حجم المآسي المروعة التي صارت إليها هذه الدول وتلك المجتمعات، التي وقعت وخضعت فريسة لصندوق النقد وأخواته من المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة، ولدول المركز الإمبريالية وفي القيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
ولهذا حديث آخر.