“لا يتحكم الناس في قدرهم، بل يقوم القدر بإنتاج من يصلحون للساعة.. ليست الثورة طريقًا مفروشًا بالورود، بل هي صراع بين المستقبل والماضي.. سوف أخون ضميري إن أنا قبلت تحمل مسؤولية تتطلب الحركة والتفرغ والتفاني بشكل كامل، فأنا لست في حالة صحية تمكنني من بذل هذا العطاء…” بهذه الأقوال الخالدة حفر المناضل الكوبي فيدل كاسترو اسمه في سجلات التاريخ الثوري ناصع البياض، وتوج ملكًا على عرش قلوب الملايين ممن تسري بعروقهم دماء الكرامة والعزة والوطنية.
تسعون عامًا قضاها المناضل والثوري الكوبي منذ ولادته وحتى وفاته في بحر متلاطم الأمواج ما بين الفساد والمؤامرة والخيانة، تعرض خلالها لاختبارات قاسية صنعت منه زعيمًا وقائدًا استطاع قيادة السفينة بمفرده لعقود طويلة خاض خلالها العديد من الحروب والمواجهات دفاعًا عن استقلال أرضه وكرامة شعبه.
نصف قرن من النضال قضاها أب الثورة الكوبية ضد الهيمنة الأمريكية، قبل أن يفارق الحياة في صمت الكبار وهدوء العظام وثبات الأقوياء، مودعًا عشاقه ومريديه في مشارق الأرض ومغاربها، وملهمًا للشعوب المتعطشة للثورة والباحثة عن نيل كرامتها وشرفها، والذود عن عرضها وأرضها ومالها.
تاريخ من التمرد
لم تكن حياة المناضل الثوري فيدل كاسترو تقليدية كغيرها من حياة الزعماء والقادة أصحاب الكلمة العليا في مسيرة التاريخ الحديث، بل كانت استثنائية في كثير من مراحلها، لكنها في النهاية أفرزت منه هذا الكيان المتوهج ثورة، وكما يقول المؤرخون لولا ما تعرض له فيدل في حياته ما كان ولا كانت كوبا.
ولد كاسترو في الـ13 من أغسطس 1926، لأبوين ريفيين من أصل إسباني، في مقاطعة أورينت (جنوب شرق كوبا)، وتلقى تعليمه الأولي بمدارس داخلية يسوعية في سانتياغو، ثم انتقل للمدرسة الثانوية الكاثوليكية بيلين في مدينة هافانا، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة المدينة نفسها عام 1945.
بعد التخرج بدأ كاسترو بممارسة المحاماة لمدة عامين، ثم انضم إلى حزب “أورتدوكسو” الشيوعي المناهض للفساد الحكومي في كوبا، والمنادي بالاستقلال الاقتصادي والإصلاحات الاجتماعية، وبنى كاسترو الفكر الماركسي اللينيني، ومارسه في الإصلاح الزراعي وملكية الأراضي الفلاحية وتأميم المؤسسات الصناعية والثروات المعدنية، كان حينها ينوي الترشح في الانتخابات البرلمانية القادمة، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فتم إلغاء الانتخابات بعد قيام فولفنيسو باتيستا بانقلاب عسكري أطاح بنظام كارلوس بريو ساكاراس عام 1952.
عقب الإفراج عنه أيقن كاسترو أن البقاء في كوبا بات صعبًا، خاصة في ظل الملاحقة الأمنية لكل المعارضين، ففر هاربًا إلى المكسيك، ومن هناك بدأ في الإعداد للحرب على نظام باتيستا مع أخيه راؤول، والزعيم الأرجنتيني تشي جيفارا
ومنذ الانقلاب العسكري لباتيستا والمدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت الحياة السياسية في كوبا تتخذ مجرى آخر، حيث تم تقييد حرية الصحافة والإعلام، وملاحقة المعارضين للنظام الحاكم، ما كان له أبلغ الأثر في ولادة جينات الثورة في جسد كاسترو ومن هنا كانت البداية.
بدأ فيدل بمساعدة بعض رفاقه في تشكيل قوة ثورية لمهاجمة إحدى الثكنات العسكرية، إعلانًا لرفض سياسة باتيستا القمعية، لكنها باءت بالفشل بعد سقوط 80 من أتباعه قتلى، إضافة إلى إلقاء القبض عليه وبعض رفاقه، وحكم عليهم بالسجن لمدة 15 عامًا، لكن تم الإفراج عنهم بعد عامين فقط من السجن، وذلك في مايو 1955 بموجب عفو سعى لتخفيف التوتر داخل البلاد.
عقب الإفراج عنه أيقن كاسترو أن البقاء في كوبا بات صعبًا، خاصة في ظل الملاحقة الأمنية لكل المعارضين، ففر هاربًا إلى المكسيك، ومن هناك بدأ في الإعداد للحرب على نظام باتيستا مع أخيه راؤول والزعيم الأرجنتيني تشي جيفارا، وبعد أقل من عام واحد، عاد مع أكثر من ثمانين مسلحًا بسفينة إلى كوبا في الثاني من ديسمبر 1956، لتتصدى لهم قوات باتيستا، وتقتل بعضهم، بينما فرّ كل من كاسترو وشقيقه وجيفارا إلى سلسلة جبال سييرا مايسترا على طول الساحل الجنوبي الشرقي لكوبا، ومن هناك كوّن مجموعة مسلحة، وباتت حرب العصابات هي الطريق الوحيد حينها للتصدي لديكتاتورية النظام الكوبي.
وبعد عامين فقط من حرب العصابات، نجح كاسترو ورفاقه في إحكام السيطرة على بعض المدن والقرى، ما دفعهم إلى تشكيل حكومة بديلة، بالتوازي مع تواصل الحملات العسكرية ضد باتيستا، ما أجبره على الفرار والهروب في الليلة الأخيرة من عام 1958 إلى جمهورية الدومينيكان، ليتولى كاسترو بعدها منصب القائد العام للقوات المسلحة في الجيش، بينما شكل خوسيه كاردونا حكومة جديدة، ليستقيل بعد أسابيع قليلة من أداء اليمين، ليصبح كاسترو بعدها رئيسًا للوزراء.
وفي أبريل 1961 أعلن كاسترو رسميًا أن كوبا أصبحت دولة اشتراكية، وباتت الشيوعية عقيدة الدولة ومنهجها الأول، ما أثار غضب وحفيظة الولايات المتحدة التي سارعت بشتى السبل إلى إجهاض حكم كاسترو والعمل على إسقاطه من خلال بعض المؤامرات ومحاولات الاغتيال كما سيرد ذكره، إضافة إلى أنه بات الملهم لكثير من الزعماء العرب المتطلعين إلى الاستقلال والتحرر من الاستعمار الأجنبي.
ا
لرفيقان كاسترو وجيفارا
الكاثوليكي الملحد
بالرغم من اعتناقه للمسيحية دينًا له، إلا أن كاسترو اعتبر نفسه ملحدًا، فلم يمارس الطقوس الدينية المسيحية منذ نعومة أظافره، وهو ما تسبب في إقصائه عن المذهب الكاثوليكي في 3 من يناير 1962 لارتداده عن الكاثوليكية.
وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، تحسنت علاقته بالبابوية، عندما انهار الاتحاد السوفيتي، وتخلى الغرب عن الفاتيكان، حيث سمح للبابا بزيارة كوبا بعد الإعلان البابوي عن تأييد المسيحية للاشتراكية، وفعلًا دخل البابا إلى كوبا وأصبح صديقًا بعد عداء دام عقود، وقال كاستروا عن البابا: “نحن اليوم نتفق معه فقد كاد يقول يا عمال العالم اتحدوا!، ويعتبر هذا الشعار شعار الأحزاب الشيوعية”.
نصف قرن من العداء لأمريكا
عاصر كاسترو 10 رؤساء أمريكيين، دخل معهم في صراعات ومواجهات قرابة الـ50 عامًا هي فترة حكمه لكوبا، جميعهم حملوا البغض والكره والعداء له، بدءًا من أيزنهاور مرورًا بكنيدي وجونسون ونيكسون وكارتر وريجان وبوش الأب و وصولًا إلى بيل كلينتون.
سعت واشنطن إلى القضاء على كاسترو بشتى السبل، بدءًا بمحاولات اغتياله المتعددة كما سيرد ذكره، إضافة إلى حصاره اقتصاديًا لتضييق الخناق عليه، في محاولة لدفع الشعب الكوبي إلى الثورة عليه والمطالبة بالإطاحة به، لكنها باءت بالفشل هي الأخرى، وباتت الوسيلة الوحيدة للإطاحة بحكمه هي التدخل العسكري والصراع وجهًا لوجه، وذلك في معركة خليج الخنازير عام 1961 التي شنتها الولايات المتحدة للاستيلاء على الجزيرة.
في الـ17 من مارس 1960 أيد الرئيس الأمريكي حينها جون كيندي اقتراح وكالة الاستخبارات الأمريكية، بأن يكون خليج الخنازير ساحة المعركة مع الرئيس الكوبي والمعارضين له
بعد فشل محاولات الولايات المتحدة في التخلص من كاسترو، لجأت وكالة الاستخبارات الأمريكية الـ CIA للتخلص منه عن طريق استغلال المرتزقة المأجورين والكوبيين المنفيين الذين غادروا كوبا بعد وصول كاسترو للحكم رفضًا لحكمه وسياسته، وقامت بتدريبهم في جواتيمالا لاستخدامهم كقوة مضادة بوجه كاسترو والثورة الكوبية.
وفي الـ17من مارس 1960 أيد الرئيس الأمريكي حينها جون كيندي اقتراح وكالة الاستخبارات الأمريكية، بأن يكون خليج الخنازير ساحة المعركة مع الرئيس الكوبي والمعارضين له، وفي غضون عام تقريبًا من التدريبات المكثفة، بدأ الغزو البري بخليج الخنازير في الـ17من أبريل 1961، إلا أن كاسترو نجح في إجهاض هذه المحاولة عقب تسريب أخبار الهجوم عن طريق المخابرات السوفيتية وقتها.
العديد من الشواهد التاريخية تجسد حجم العداء والكراهية التي تكنها أمريكا وزعماؤها لكاسترو، ويمكن الوقوف على بعض ملامحها من خلال كلمات الرئيس الأمريكي الراحل جورج بوش الأب حينما أعلن صراحةً عن مشاعره تجاه الرئيس الكوبي عبر أمنيته القوية أن يختفي من الوجود، حيث قال ردًا على سؤال بعد أن ألقى كلمة في كلية الحرب البحرية “يومًا ما سيأخذ الرب فيدل كاسترو”، وردًا على سؤال “هل يتمنى بوش الموت لكاسترو؟” قال جوردون جوندرو المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض “الرئيس كان يعلق على أمر محتوم”.
كاسترو
وشقيقه راؤول الذي غير تاريخ العلاقات بين كوبا وأمريكا
638 محاولة اغتيال فاشلة
بحسب موقع “كوباديبايت” الإلكتروني الكوبي، كما نقلت “روسيا اليوم” فإن الزعيم كاسترو قد دخل موسوعة “جينيس” للأرقام القياسية من أوسع أبوابها، من خلال محاولات الاغتيال التي تعرض لها في أثناء حكمه.
وطبقًا لما نشره الموقع فإن كاسترو تعرض لـ638 محاولة اغتيال في الفترة التي سبقت عام 2006 عندما نقل صلاحياته الرئاسية لأخيه راؤول كاسترو، متهمًا وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي إيه” بالضلوع في هذه المحاولات، حيث تنوعت محاولات الاغتيال ما بين استخدام القناصة، مرورًا بالمتفجرات وسيجارة مسممة، إلى العبوة الناسفة التي وضعت في داخل كرة بيسبول، إلا أنها باءت جميعًا بالفشل.
ونستعرض هنا إحدى المحاولات التي لجأت إليها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لاغتيال كاسترو، عبر استخدام الحبوب السامة، عن طريق تجنيد إحدى حبيباته، إذ التقت ماريتا لورينز ، كاسترو، وعشقته بعد فترة وجيزة من الثورة في كوبا، حسبما كتبت في مذكراتها التي نُشرت عام 1993، بعنوان: “ماريتا: حكاية حب وتجسس امرأة واحدة من كاسترو إلى كينيدي”.
تعرض كاسترو لـ638 محاولة اغتيال في الفترة التي سبقت عام 2006 عندما نقل صلاحياته الرئاسية لأخيه راؤول
عاش كاسترو ولورينز علاقة غرامية قوية، ولكن بعد ذلك، كتبت لورينز، أنه تم تجنيدها من قبل وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) عندما زارت الولايات المتحدة.
وأُرسلت إلى كوبا مع حبوب السم، ولكن عندما وصلت إلى هافانا، وجدت أن الحبوب تحللت في جرة من كريم للوجه حيث خبأتها، والأسوأ من ذلك، كان كاسترو على علم بالمؤامرة.
وتذكر لورينز سؤال كاسترو لها: “هل أنت هنا لتقتليني؟” قبل أن يعطيها مسدسه في أثناء لقاء غرامي في جناح في فندق، وعوضًا عن إطلاق النار عليه، رمت نفسها في أحضان الزعيم الكوبي، وفقا للورينز.
عشرات المحاولات لاغتيال كاسترو باءت جميعها بالفشل
الثورة الكوبية.. نموذج يحتذى
لا شك أن الثورة الكوبية التي قادها كاسترو لتخليص بلاده من الحكم الديكتاتوري والتبعية الأمريكية نموذجًا يدرس من قبل الشعوب الباحثة عن استقلال أراضيها وإرادتهم السياسية والاقتصادية والفكرية.
أول الدروس المستفادة من هذه الثورة الاعتماد على الشعب الكوبي وحده، الذي أمدّ هذه الثورة بجميع الإمكانيات المادية من أجل نيل الاستقلال، فلم تُقدِم أي دولة على تقديم المساعدات العسكرية أو المادية للثورة الكوبية قبل انتصارها، وهي اليوم تعتبر مثالًا نظرًا لأنها لا تسمح للتدخل الأجنبي أكان سياسيًا أم اقتصاديًا في شؤون كوبا الداخلية.
أول الدروس المستفادة من هذه الثورة الاعتماد على الشعب الكوبي وحده، الذي أمدّ هذه الثورة بجميع الإمكانيات المادية من أجل نيل الاستقلال
نجحت الثورة الكوبية في تحقيق عدد من الإنجازات على الصعيد الاجتماعي، فقد عمدت إلى مكافحة الأمية وقامت بإنشاء مدارس وجامعات وفرضت إلزامية التعليم، كذلك قامت بتقديم الخدمات الطبية، ولم يعد هناك تمييزًا بين مختلف فئات الشعب، وانتشرت حرية التعبير وحرية ممارسة الشعائر الدينية، كذلك قامت ببناء المساكن الشعبية ، وكانت الدولة تقدم هذه الخدمات كلها دون أي مقابل.
منذ انطلاقتها كانت الثورة فكريـة خالصة، شملت كل المياديــن، قوتها ونجاحها كان بسبب الجهود الجبارة التي اعتمدتها قيادتها، فلم تعتمد على القوة لكســر كلمة المعارضيـن، ولم تلمع صورتهـا بتبييض أموال الشعب وشراء ذمم ولوبيــات كي تقوم بهذا العمل، بل اعتمدت على العلم والقلم، فبنت المدارس وشيدت الجامعات، وأنشأت جيشًا من الأساتذة والمعلميــن والخبراء في كل التخصصات، حتى باتت قبلة للتقدم والتطور.
ا
الثورة الكوبية.. تاريخ من النضال ضد الديكتاتورية والفساد
التنحي
“إلى مواطني الأعزاء الذين شرفوني بانتخابي كعضو في البرلمان، أكتب إليكم لأقول إنني لا أتطلع ولن أقبل، وأكرر لا أتطلع ولن أقبل منصب رئاسة مجلس الدولة ورئاسة أركان الجيش…” على هذه الكلمات الممزوجة بالحسرة، استيقظ الشعب الكوبي صبيحة الـ18 من فبراير 2008، على إعلان الزعيم فيدل كاسترو استقالته من منصبه ورئاسة أركان الجيش، مبررًا ذلك بمرضه الذي دام 19 شهرًا، وأعلن ترك الحكم لأخيه – ووزير الدفاع آنذاك – راؤول كاسترو.
توج كاسترو خلال فترة حكمه بالعديد من الجوائز والأوسمة، منها وسام الوحدة اليمنية (2000)، جائزة لينين للسلام (1961)، جائزة القذافي لحقوق الإنسان، وسام ثورة أكتوبر، وسام الأسد الأبيض، وسام لينين، وسام نجمة رومانيا، بطل الاتحاد السوفيتي.
وهكذا بعد نصف قرن من الصراعات والمواجهات الصامدة أمام أمريكا من أجل استقلال وطنه وكرامة شعبه، غادر كاسترو الحياة تاركا خلفه جيشًا من الثوار المتعطشين للحرية والكرامة والعدالة، وبالرغم من تباين موقف الشعب الكوبي من زعيمهم، إلا أنه سيظل بطلًا وقائدًا في أعين الملايين داخل كوبا وخارجها.