يشقى كثيرٌ من الأبناء بأفعال الآباء، وإن أخطأ الأخيرون أمامهم وتمادوا في الخطأ، ولكن بعض الأبناء بالفعل يشقون بفعل آبائهم على نحو غير مسبوق، وهذه المشكلات الأسرية المُفترض أنها ضيقة تتعاظم لما يعاني الوطن الشقاق والخلاف السياسي ومن ثمَّ الاجتماعي الهائل.
في الكنانة اليوم مشكلات سياسية وبالتالي أمنية يقف المرء أمامها متعجبًا غير مُصدق أن البشرية الإنسانية تتلاشى من القلوب إلى هذا الحجم، وإن كانت الحياة تعلمنا دائمًا أن النفس البشرية مليئة بعجائب الأمور وغرائب الأفعال التي يقف المنطق والتفسير أمامها مقيدًا، إلا أنّ المآسي تتعاظم حينما تصير اجتماعية أسرية، ولمّا تأتي من قبل “كبار” هما الوالدان أو طرف منهما ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي لما قال في مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم:
وإذا رحمت فأنت أم أو أب .. هذان في الدنيا هما الرحماء!
تذكرتُ كل هذا وأكثر في أثناء اطلاعي على تفاصيل مصرع المُصارعة ريم مجدي، رحمة الله عليها، السبت 19 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، والأمر يتعدى “خاص” تفاصيل لقائها الله إلى عام دروس التعلم من تصرفات الصغار التي “يعز” على بعض الكبار حسن قراءتها والتعلم منها، ولله در بلادنا إذ تتخلف عن ركب الحضارة، بل تفتقد الإنسانية داخل جدران بيوت من المفترض أنها قامت على المودة والحب، على الأقل.
نتوقف، هنا، للنظر في حدث قاسٍ صدر عن مسؤول أسري حيال ابنته، ومع عدم تناولنا الأول إلا بالدعاء أن يُعينه الله، إلا أن الأمر يستحق الدراسة المتأنية المُحايدة بشأن طبيعة ما يُسمى “صراع الأجيال”، ومن فئات اجتماعية مماثلة في غناها المادي، منبهين علماءنا إلى أن مجتمعنا ينتابه شىء من التغيير غير قليل في صفحة خطيرة من تاريخ وأقدار مصر والأمة، لا ينبغي أن تمر دون دراسة وتحليل ومحاولة الخروج بنتيجة.
السبت الماضي قيل إن المُصارعة بطلة مصر وإفريقيا في البطولة النسائية، الفتاة ذات الملامح البالغة البراءة الأقرب إلى الطفولة، التي لم تتعد زهرة العقد الثاني من العمر، وتدور في فلك الثامنة عشر عامًا، لقيت مصرعها بعد اصطدام سيارة بها بطريق الإسماعيلية ـ القاهرة فيما هي تعبر الطريق، بحسب وكالة أنباء “الشرق الأوسط”.
ولكن الأسرة المكلومة التي تعاني مرارة الفقد مع حسرة عدم القدرة على تحمل ما تضيق عنه الجبال الرواسي لم تكن تستطيع الصمت، ليصل بلاغ إلى النيابة في نفس يوم الدفن ليتم استخراج الجثة وتشريحها، ويُوجه اتهام إلى الأب بطل مصر في المصارعة ومدرب ابنته بضربها في سيارته ضربًا أفضى إلى الموت بإلقائها من سيارته، ويتم سجنه الثلاثاء التالي للوفاة، ثم يعلن بيان لوزارة الداخلية على “الفيس بوك” أن الأب عنّف الابنة يوم مصرعها لهبوط مستواها في التدريب، وأهانها واعتدى عليها أمام زميلاتها، وأعاد الكَرَّة في سيارته في أثناء العودة إلى المنزل برفقة شقيقتها، فما كان منها إلا أن فتحت باب السيارة ملقية نفسها إلى الطريق العام لتصدمها سيارة من الخلف وتلفظ أنفاسها، بحسب وكالة “الأناضول” الأربعاء 23 من نوفمبر/ تشرين الثاني.
ومع هذا فإن النيابة اتخذت إجراءً ضد الأب لم تعلن الداخلية عنه، ليستمر حبسه، بما قد يعني وجود بقية لتفاصيل الحدث غير مُعلنة!
هذه الأقرب إلى الطفلة التي تواصل دراستها وتحقيق مستوى رياضي غير مسبوق لبلدها والقارة أكان ينقصها “التعنيف”، وأمام صديقاتها المفترض أنهن يدرين بتميزها واعتزازها بنفسها، ومن ناحية الأب، ويتم دفع الأمور حتى تستحيل الحياة في ذهن الصغيرة “جحيمًا” الموت أفضل منه، وترى من خلال نفسية بالغة الإظلام أن الموت خير حل لها، وتفعلها في ثانية، كيف يمكن لعلماء النفس والاجتماع تفسير مثل هذا الحدث في بلد الأزهر الشريف، إن لم يكن شيء ما يتم تغييره بل قتله في نفوس المصريين؟
وكيف يمكن أن يمر هذا الحادث البالغ الدموية على مسؤولين وعلماء دين وباحثين دون دراسة وافية لما يحدث للأسرة المصرية، وهذه أسرة لا تفتقد المال ولا حسن التعليم ولا حتى المكانة العالمية التي يُشار إليها بالبنان داخل مصر وخارجها، وإن لم تكن مصر تسقط من عالٍ بالفعل كما يدعي النظام اللص الانقلابي الدَّعي وعلى رأسه رئيسه عبد الفتاح السيسي، فكيف يمكن لأسرة ربها بطل عالمي أن يتسبب في مقتل بطلة مماثلة في ريعان العمر وسنّي التفتح؟ ويمر الحادث مرور الكرام على مصر كلها ويتم الاكتفاء بحبس الأب؟
أين التعلم من دروس الحياة وعجيب وغريب الأفعال والأحداث الاجتماعية لدى “علية القوم” التي ينبغي ألا تمر بسهولة، كدلالة على تغيير شديد داخل بنية المجتمع في نواته الأولى الأهم “الأسرة”؟
ومن نافلة القول إنه لو حدث هذا الحدث المأساوي في عهد الرئيس محمد مرسي لأقام العلمانيون ومَنْ دب دبيبهم ولف لفهم الدنيا ولم يقعدوها في مصر، ولله در الحقيقة إذ تضيع بين مآسي الشرفاء من القوم وخداع الآخرين!
وفي نفس السياق، ومع أسر يُشار إليها بالبنان، لعلمها ومالها ومكانتها، أيضًا، رحم الله أيامًا كنا نرى فيها النقيض تمامًا حتى إن الراحل أديب الإنسانية عبد الوهاب مطاوع صاحب “بريد الأهرام” السابق المعروف كان يقول في كتابه “عاشوا في خيالي” إنه لو نشأ لك ابن موهوب فخذ حذرك لأنه لن يصمت عن أخطائك حتى بعد وفاتك فلسوف ينقلها إلى الأجيال، وهو يقصد ما قام به الأديب الراحل لويس عوض من قص تفاصيل عجيبة عن أخيه وأبيه بل شقيقته، وهو الأمر الذي منع الراحل سمير سرحان، الرئيس الأسبق للهيئة المصرية العامة للكتاب، من نشر “الطبعة الثانية” من مذكرات عوض “أوراق العمر” ضمن مشروع “مكتبة الأسرة” الأضخم الخاص بطباعة عيون الكتب بسعر زهيد، ووصل الحد بشقيق عوض إلى تهديد سرحان بالسجن إن فعل لما في المذكرات من إساءة بالغة للدكتور رمسيس عوض، أستاذ الأدب الإنجليزي في كلية الألسن جامعة القاهرة، شقيق لويس عوض، وهو ما رواه الصحفي المصري صلاح عيسى في جريدة “الأيام” البحرينية في 19 من سبتمبر/ أيلول الماضي تحت عنوان “نجيب محفوظ ولويس عوض في مكمة الأسرة”، قائلًا بوضوح إنه توسط لنشر الكتاب حتى قال له الدكتور رمسيس: “فذكرني بما كتبه لويس عوض فيه عن أبيه وإخوته بمن فيهم رمسيس نفسه من وقائع تنتقص من قدرهم وتسيء إليهم أثارت ضجة واسعة حتى نُشرتْ الطبعة الأولى والأخيرة منه”.
وهو الأمر نفسه الذي عابه الأديب الراحل نجيب محفوظ على الراحل “لويس عوض” في كتاب “أنا نجيب محفوظ” لإبراهيم عبد العزيز.
وغير بعيد عن الأذهان في هذا السياق ما قام به الراحل أحمد فؤاد نجم في كتابه “الفاجومي” من سرد وقائع تخص والده ضابط الشرطة، ووالدته الفلاحة التي كانت تتفنن في رده إلى أسرته وبيته، ولو اقتضى الأمر أن تعوضه عن رفقة السهر باحتراف الألعاب التي يحبها الزوج، وهو الأمر غير المعيب لكن الذي حرص نجم على نقله بدقة مع أمور أخرى أشد حتى بعد وفاة الوالدين، وبما في الأمر اتهامها له بقتل شقيقه التوأم في بطن الأم، إذ وُلِدَ الأخير ميتًا، وكان يحلو للأسرة معايرة الراحل بما لم يقترف، ونقله نجم على سبيل الدعابة مع عشرات الوقائع الأخرى.
رحم الله زمانًا كانت مصر تسع الجميع، وتستمر الحياة رغم المنغصات الأسرية والسياسية، فلا يضيق ابن بأبيه، ولا يدفع الأخير الأول إلى الموت مهما فعل بل يراعي معه مقتضيات الأبوة والشفقة، أعاد الله إلينا مصر كما نتمنى وأوطاننا العربية الإسلامية.