وقف العالم أمام حدث جلل جديد، وهو رحيل فيدل كاسترو، زعيم الثورة الكوبية، وأحد أبرز خصوم الولايات المتحدة والرأسمالية العالمية، وأحد الرموز النادرة الباقية على قيد الحياة من عصر الحرب الباردة.
وكما كان مثيرًا للجدل في حياته؛ فهو كذلك في موته؛ فبينما بكاه الملايين، وأشاد به الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ورموز دولية أخرى؛ خرجت مظاهرات فرح ابتهاجًا بوفاته، من الكوبيين المنفيين في الولايات المتحدة، وخصوصًا في عاصمة الهيسبانك الملونين في الولايات المتحدة، ميامي، عاصمة ولاية فلوريدا، التي تقف على مرمى حجر من كوبا وخليجها الشهير؛ خليج الخنازير، الذي شهد أكبر فشل علني للولايات المتحدة في الحرب الباردة، عندما فشلت عملية الإنزال الشهيرة في أبريل 1961م، التي كان مخطط لها إسقاط كاسترو ونظامه.
وحتى عدوته اللدود، الولايات المتحدة؛ كان الموقف الرسمي من وفاته مُتابينًا؛ فبينما نعاه الرئيس المنصرف، باراك أوباما؛ لعنه الرئيس الآتي، دونالد ترامب، ووصفه بالديكتاتور الوحشي.
والمذهل – بالفعل – في وصف ترامب له بالديكتاتور الوحشي؛ هو أن الولايات المتحدة التي يترأسها، عندما خططت لعملية عُرِفت باسم “عملية المانجوست” لاغتيال كاسترو وإسقاط نظامه؛ كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي. آي. إيه” قد وضعت ضمن خططها فيه، تدمير حقول زراعة قصب السكر، المورد الأهم وربما الوحيد للاقتصاد الكوبي، وتخريب موانئ التصدير، وهو ما يعني اغتيال الشعب الكوبي بالكامل!
في هذا الإطار، لسنا في معرِض تناول سيرة كاسترو الذاتية، ولا تاريخ صراعه مع قوى الإمبرالية العالمية، التي صارت الآن من أصدقاء بلاده، ولا الدور الذي لعبه في ثورات العالم الثالث، ولا علاقته بالاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، أو أيًّا من ذلك، مما غطته المواقع ومراكز البحوث ألف مرة قبل وفاته وبعدها.
إنما ما يعنينا في هذا الصدد، قضية عمرانية تندرج تحت بند الاجتماع السياسي، وتعنينا هنا في العالم العربي، أكثر ما تعني أي طرف آخر في هذا العالم من تجربة كاسترو، وترتبط بملابسات ثورات الربيع العربي، أو بمعنىً أدق بالكيفية التي تم بها إدارة مرحلة ما بعد الثورات الشعبية التي وقعت، في البلدان التي تنحى فيها قادتها، أو سقطوا بالقوة، في مصر وتونس واليمن وليبيا.
وتعني هذه القضية أكثر ما تعني بفهم الطبيعة المختلفة لمرحلة ما بعد الثورات، عن مرحلة الإعداد لها، ومرحلة الثورة ذاتها.
قواعد عمرانية
من حيث المبتدأ، هناك بديهة لغوية وسلوكية تقول: “لكل مقام مقال”، وهو ما يعني ببساطة أن كل موقف له ما يناسبه من القول، ولو قيل ما هو مناسب لموقف آخر؛ فهذا معناه إما عدم فهم أو عدم اتساق، وكلاهما يطعن في فهم وعقل صاحبه.
وبتطبيق هذه القاعدة على الثورات التي تنجح في اقتلاع رؤوس الأنظمة الحاكمة؛ فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن مرحلة الإعداد للثورة، ومرحلة الثورة ذاتها، تختلف تمام الاختلاف عن مرحلة ما بعد نجاح هذه الثورات في تغيير رأس النظام، سواء في شخوصها أو في سياساتها.
فالمهام المطلوبة قبل أية ثورة، تتمحور في ثلاثة أمور؛ الأول هو صناعة الوعي الثوري لدى الناس، الأمر الثاني، صناعة وحشد الطليعة الثورية التي سوف تقود العمل الثوري، والثالث، هو دعوة وحشد الجماهير في الشوارع خلف الثورة، سواء أكانت سلمية أم مسلحة.
وخلال الثورة، لا تختلف هذه المهام كثيرًا؛ فقط تزداد حدتها من أجل الحفاظ على الشعلة الثورية، لحين تحقيق الهدف الأساسي لها، وهو تسليم النظام المراد خلعه للسلطة، قهرًا أو طواعيةً؛ حيث يتطلب ذلك الحفاظ على وتيرة الحراك الجماهيري في الشارع، ويقظة الطليعة الثورية لمحاولات كسر الصف، وتهدئة الجموع الثائرة.
وهنا تبرز قيمة وأهمية القيادة الكاريزمية في هاتَيْن المرحلتَيْن؛ حيث ينبغي أن تكون هناك في النهاية قيادة موحَّدة تؤمن بها الجماهير، وتطيعها في كل ما تقول، وهو ما لم يتحقق من دون توافر قبول عام لها، بناء على مواصفات معينة لهذه القيادة.
ولا تصلح القيادات الجماعية في أوقات الثورات؛ فقط الطليعة ينبغي لها أن تسير ككلٍّ موحَّد، ويتم تصوير ذلك للجماهير، بأنه يتم تحت سيطرة هذا القائد، ووفق أوامره للحفاظ على وهجه لدى الجماهير، حتى ولو كانت القيادة في حقيقة الأمر جماعية.
وهو أمرٌ شديد الوضوح حتى في ثورة يوليو 1952م في مصر، فمجلس قيادة الثورة، كان كل أعضائه على ذات المستوى في الرُّتَب والتأثير باستثناء جمال عبد الناصر، صاحب الكاريزما والسطوة، ولكن كل شيء كان يتم باسم اللواء محمد نجيب، حتى حانت المرحلة التالية من المشروع السياسي لعبد الناصر ومجموعته، فتم التخلص من محمد نجيب.
ومن قبل ذلك بعقود طوال، كانت الثورة البلشفية في روسيا جماعية، وكانت هناك ترويكا تقودها مكونة من تروتسكي ولينين وجوزيف ستالين، بالإضافة إلى شخصيات أخرى مهمة، منها بوخارين وبوتمكين، ولكن كان الكل يسير أمام الجموع الثائرة في المدن الروسية، خلف قيادة لينين.
وهناك سمة مشتركة بين الثورتَيْن بالمناسبة، فكما تخلص ستالين من ليون تروتسكي، الذي كان يراه البعض أجدر من لينين نفسه لقيادة الاتحاد السوفييتي الوليد؛ تخلص عبد الناصر من محمد نجيب، بعد إعلان الجمهورية.
تروتسكي ورفقة الشيوعية الأولى التي فرقتها المطامع الستالينية
ولكن، كما في الثورتَيْن الصينية والإيرانية، كانت القيادة الكاريزمية حقيقية، وكانت تقف وحدها في الواجهة والخلفية معًا، وكان ماو تسي تونج هو الزعيم المُلهَم في الثورة الصينية، وآية الله الموسوي الخوميني هو ذاك الشخص في حالة الثورة الإيرانية.
المهم، أن الثورات الناجحة التي استطاعت أن تؤسس لنفسها نظامًا جديدًا، كانت تسير على قانون شديد الأهمية في التغيير، وهو التجديد، الذي هو في حد ذاته صنو التغيير.
ونعني بالتغيير ها هنا، تغيير كل شيء، عدا المبادئ التي قامت عليها الثورة، لأنها هي بمثابة الدستور الذي بناء عليه خرج الناس، ويتضمن ما وافقوا عليه لتغيير النظام القائم إلى آخر جديد.
ويشمل ذلك التجديد الذي هو صنو التغيير، الوجوه والسياسات.
ويعود ذلك – كما تقدم – إلى أن المتطلبات في مرحلة ما بعد الثورات متغيرة ومختلفة تمامًا.
فما بعد الثورات بحاجة إلى جهد ضخم طويل الأمد في أكثر من اتجاه، وفي مجالات متنوعة، سياسية واجتماعية واقتصادية، وتنموية.
فهناك أولاً متطلبات تحديث المجتمع، وتغيير ثقافته السياسية والمجتمعية، ونظرته لنفسه وللدولة وللنظام الجديد، ولن يبدأ ذلك من دون إطلاق حملات كبرى في أكثر من اتجاه، ولكنها جميعًا تبدأ من نقطة تحسين المستوى المعيشي للمواطنين وإشعارهم بوجود تغيير، وبأن الثورة ما قامت إلا لأجلهم ولأجل صالحهم، وهنا ربما النقطة الوحيدة التي تتشابه فيها البدايات مع ما بعد انتهاء الثورات في الشوارع، وبدء تشكيل نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي جديد، وهي نقطة الوعي.
كما لن يتم ذلك من دون حملة تطهير واسعة لمفاصل الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك الدستور نفسه، واستبدال مؤيدي النظام القديم بآخرين من المؤيدين للثورة ومشروعها الشامل للإصلاح والتغيير، مع الصبر عليها، وهي سمة لا تتوافر للكوادر الثورية التي غالبًا ما تكون عصبية مندفعة بطبيعة الحال.
ومع كون الثورة للجماهير في الأصل، وقامت لأجلهم؛ فإنه لابد من نهوض عملية تنموية ضخمة تشمل مشروعات قومية يلتف حولها الناس، وتسحب من رصيد بطالتهم، وترفع من معنوياتهم.
وبطبيعة الحال؛ فإن لكل ثورة أعداء، وهنا سوف يكون على النظام الجديد أن يعمل على مواجهة أعدائه في الداخل والخارج، ولاسيما من أصحاب المصالح وذوي النفوذ والثروة الذين صنعوا نفوذهم وثرواتهم من خلال اتصالهم وعلاقاتهم مع النظام القديم.
وهذه النوعية من الأنظمة؛ غالبًا ما تكون أنظمة فاسدة ومستبدة وقاتلة لشعبها، وبالتالي؛ فإن المرحلة التالية لأية ثورة ينبغي أن يعكس نظامها قيم الحرية والديمقراطية والتعددية، وأن تفهم الأنظمة الجديدة أن القديم ما بقي إلا لأنه ضارب بجذوره في أرجاء الدولة والمجتمع، وبالتالي؛ فلن تكون معركة اقتلاعه سهلة أو بسيطة.
كل هذا، من دون الاستفاضة فيه؛ يتطلب سياسات وشخصيات جديدة للتعامل معه، ولا يمكن بحال إقناع الطليعة الثورية بأن تقوم بهذه المهام التي تتطلب مواصفات فريدة من نوعها في شخوصها، فهي تتطلب مقاتلين في صورة تكنوقراط وسياسة معًا!.
وهنا ربما كان جيفارا أو الـ”تشي”، رفيق درب كاسترو، أكثر صدقًا مع نفسه، عندما استقال من كل مناصبه الرسمية التي عينه فيها كاسترو بعد نجاح الثورة الكوبية، وراح يطوف العالم بحثًا عن شعبٍ يحرره.
وجيفارا نفسه قال ذلك؛ قال بأنه لم يخلق للمهام النمطية التي يفرضها المنصب الرسمي، وإنما خُلِق ثائرًا.
كاسترو والـ”تشي”.. رفقة الميدان فرقتها السياسة، ولكنهما افترقا أصدقاء
وهو درس وعته الثورة الإيرانية، فالخوميني لم يحكم رسميًّا، حتى ولو كان الحاكم الفعلي للبلاد؛ حيث أوكل الأمور إلى حكومة وقيادة هي مزيج من التكنوقراط والقادة السياسيين، تكون مسؤولة عن كل هذه المهام الجسيمة، واكتفى هو بدور الموجِّه والفيصل في الأمور التي يكون عليها خلاف، أو في الأوقات التي يستشعر فيها خطرًا على النظام الثوري الوليد.
وحتى في غير الثورات، في الأوقات التي تلي الأزمات الكبرى؛ فإن الشعوب الواعية، التي تعيش في بيئة ديمقراطية سليمة، تعمل على تغيير الوجوه التي صنعت أكبر الانتصارات في أوقات الأزمات.
فالشعب البريطاني، ببساطة، لم ينتخِب تشرشل، الذي هزم ألمانيا النازية، وظل في الميدان وحده يحارب في وقت ظن فيه العالم بالكامل، أن الصليب النازي الألماني سوف يُرفع على الكرة الأرضية بكاملها.
هذا المنتصِر والقائد العظيم، هُزِم وحزبه، “المحافظين”، في الانتخابات التالية للحرب مباشرة، لصالح كليمنت آتلي من حزب العمال.
تشرشل وسط أكبر قادة العالم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية فشل في الانتخابات التالية في بلاده بسبب ضرورات التجديد
وقتها البريطانيون أدركوا أنهم بحاجة إلى قيادة جديدة تفي بمتطلبات المرحلة، وتننمي إلى تيار يمكنه أن يقود اقتصاد البلاد في ظل ظروف شديدة الصعوبة، وكان حزب “العمال” أقدر على ذلك ببرنامجه الاجتماعي الأقرب إلى الاشتراكية من حزب “المحافظين”.
وفي تراثنا الإسلامي، نجد الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، يقول بعد فتح مكة المكرمة، ما معناه أن الآن قد بدأ الجهاد الأكبر، ولم يلبث رب العزة سبحانه وتعالى، أن طبَّق قوانينه بنفسه، فاختار المصطفى “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، إلى جواره، مسلِّمًا الراية لأقرب صحابته إليه، وهو أبي بكر الصديق “رَضِيَ اللهُ عنه”.
ما فات كاسترو وفاتنا من قوانين الثورات!
ما فات كاسترو، وقاد إلى أن يموت وهو مَن كان ذات يوم يهز العرش الأمريكي ذاته؛ أن يموت رئيسًا سابقًا لأحد أفقر وأسوأ بلدان العالم في السجل الحقوقي.
فهو بدأ عهده بنبذ معارضيه، تمامًا مثل سلفه الذي أطاح به، الجنرال باتسستا، بل إن كاسترو طرد أكثر من مائتي ألف كوبي أعلنوا عن رفضهم له ولثورته، ثم استمر في ذات النهج الذي كان عليه خلال حرب الإطاحة بنظام باتيستا، وأصر على خوض مواجهات ترضي زعامته، وتستجيب لمطالب داعميه الأساسيين، السوفييت، فلم يتمكن من تحقيق الجنة الموعودة للكوبيين، ولم يبقَ من ثورته غير نظام مستبد هشّ!
وهو ما جعل جيفارا الأمين مع نفسه أكثر شهرة وقيمة منه في عالم السياسة والثورة!
هذا الدرس كذلك، فات – كذلك – مَن قاموا بثورات الربيع العربي، ومن تولوا زمام الأمور بعد رحيل مبارك/ بن علي/ علي عبد الله صالح/ القذافي.
وبالرغم من أننا لا يمكننا أن نعفي خصوم الثورات في الداخل والخارج من مسؤولية فشلها؛ إلا أن الأمر المهم، هو أن الذين تصدروا المشهد بعد الثورات العربية، لم يفهموا أن المرحلة تتطلب سياسات ووجوه جديدة، وأن تضع على أجندتها أولويات المواطن قبل أية أولويات سياسية أخرى، مع الاستمرار في توحيد جبهة القوى الثورية.
وكما تقدم؛ فإنه لا يمكن توجيه كامل اللوم على قيادات المشهد في تلك الفترة، ولاسيما الإخوان المسلمين الذين تصدروا المشهد في مصر وفي تونس واليمن وليبيا، فهناك أولاً عقود طويلة من حكم العسكر المستبد الذي جرَّف الأوطان من أية كفاءات سياسية قادرة على فهم هذه الأمور وتطويع الجماهير وفق رؤية جديدة، وهناك ثانيًا، نقطة غياب الوعي الثوري عن الجماهير، ولا ننسى هنا أن نشير إلى أن الثورة الإيرانية التي وقعت في العام 1979م، كان يتم التحضير لها منذ أواخر الخمسينيات!
كان هذا بعض ما تقوله كتب العمران والاجتماع السياسي حول كاسترو وثوراتنا العربية، مقارنة مع نماذج أخرى نجحت واستمرت، ولئن كانت هناك دلالة في هذا كله، فهو أنه لا يزال أمامنا الكثير لكي تنجح ثوراتنا. أما كاسترو؛ فإن التاريخ فقط هو من سيحكم عليه.