تشكل الحشد الشعبي بفتوى المرجع الشيعي علي السيستاني في 13 من يونيو/ حزيران 2014 بحجة التصدي لتنظيم داعش الذي سيطر حينها على مساحات واسعة من العراق، وتم تشكيله من قبل مليشيات شيعية معروفة بولائها الإيراني وصل عددها إلى 67 مليشيا، بالإضافة إلى انضمام عدد كبير من المتطوعين من الطائفة الشيعة، ودعمهم بالسلاح ليصبح قوة موازية للجيش العراقي الرسمي أو أفضل منه في مفاصل عديدة.
إصدار قانون للحشد ومنع قانون للحرس الوطني
وفي الوقت الذي لم يستغرق إقرار قانون الحشد الشعبي وقتًا طويلًا لكي يُقر من قبل مجلس النواب العراقي نرى أن قانون الحرس الوطني الذي كان أحد أهم مطالب الكتل السياسية السنيَّة لغرض حماية المحافظات السنية من تنظيم داعش واعتداءات المليشيات الشيعية والجيش الطائفي، ونتيجة إصرار الكتل الشيعية على رفضه والمماطلة بإقراره، جعل إقراره مستحيلًا، على الرغم من أن الحرس الوطني يشمل كل المحافظات العراقية من ضمنها المحافظات الجنوبية والتي لا تعاني اختراقات أمنية كما هو الحال في المحافظات التي يسكنها أغلبية سنية، بسبب ضغوط الكتل الشيعية على هذا، وافق السنَّة على هذا التعديل ووافقت الحكومة العراقية على مشروع القرار لتلك القوة في 3 من فبراير/ شباط 2015، ولكن لم يتم إقراره في البرلمان نظرًا لتخوف الكتل الشيعية التي تعبر عن وجهة النظر الإيرانية، من أن يكون للسنَّة قوة عسكرية يمكنها حماية أراضيهم.
إلا أن الأمر مختلف جدًا عن موضوع الحشد الشعبي الشيعي فلم يستغرق ذلك الوقت بالنقاشات والمباحثات والتي سرعان ما أفضت إلى إقرار قانون الحشد الشعبي وتحويله إلى قوة رسمية معترف بها باسم القانون.
الحشد الشعبي من طائفة واحدة
على الرغم من ادعاءات الحكومة العراقية على لسان رئيس وزرائها حيدر العبادي وأبواقه الإعلامية، بعدم ميولهم الطائفية وبأنهم ليسوا طائفيين وأن قراراتهم ليست طائفية، نرى أن تشكيلات الحشد الشعبي في غالبيتها العظمى من الطائفة الشيعية، أما ما يتم الحديث عنه من إشراك السنَّة في قانون الحشد، ما هو إلا ديكور تكميلي للمشهد يريدون من خلاله ذر الرماد في العيون للإيهام بعدم طائفية الحشد الشعبي.
وأولئك السنَّة الذين يشيرون لشراكتهم في الحشد الشعبي، ما هم إلا بضعة آلاف من عشائر سنية وجدت نفسها مع صف الحكومة إما طمعًا بمكاسب قصيرة المدى وإما رغمًا عنها لكي تستعيد أراضيها التي سلبتها منها داعش، ولم يتم قبولهم إلا بالشروط وبالإملاءات المليشياوية لتلك الحكومة الطائفية، وهم بالنهاية لا يشكلون شيئًا أمام عديد من العناصر الشيعية في الحشد والتي تصل إلى ما يقارب الـ80 ألف.
تهميش دور الجيش العراقي
وعلى الرغم من أن مؤسسة الجيش العراقي الحالية هي الأخرى تم تشكيلها من المليشيات التي جاءت من إيران مع قدوم الاحتلال الأمريكي للعراق عبر قانون دمج المليشيات، فإن البعض يعتبره مؤسسة لها ممارسات مهنية، وكذلك لوجود بعض الضباط السنَّة فيه، تم ضمهم للجيش بضغوط الأمريكان، وبالرغم من عدم اختلاف مؤسسة الجيش عن مليشيات الحشد الشعبي كثيرًا، إلا إنها تبقى كمؤسسة لا تطمئن لها إيران، ومن الضروري أن يكون لمليشيات الحشد الشعبي والتي تحمل عقيدة طائفية بحتة الدور الأبرز على حساب الجيش.
أضف إلى ذلك أن الحديث الذي يدور بشأن تطبيق الخدمة الإلزامية في الجيش العراقي سيجعل الشيعة أقلية في ذلك الجيش، فجاء إقرار قانون الحشد الشعبي ليكون قوة بديلة عن الجيش العراقي لحماية النظام الحالي الحاكم في العراق.
ويلاحظ على هذا القانون أن تبعيته ليست للجيش العراقي، بل تم ربطه برئيس الوزراء بشكل مباشر، دون أن تكون لديه طاعة لوزير الدفاع الذي هو من السنَّة أو رئاسة أركان الجيش والذي هو من الأكراد، ومعنى هذا أن قوة الحشد الشعبي ستكون تحت قيادة شيعية بحتة ولا تمتلك الدولة السيطرة عليه، إن أهم تداعيات إقرار هذا القانون هو تهميش دور الجيش العراقي الذي يتخوف من أن يكون ذا أغلبية سنية مستقبلاً.
قانون الحشد يحول دون تصادم المليشيات مع بعضها
جاء هذا القانون أيضًا للحيلولة دون تصادم تلك المليشيات المكونة للحشد الشعبي فيما بينها، والتي لاحت بوادرها بدءًا من اقتحامات أنصار الصدر للمنطقة الخضراء والتي جعلت مسألة تصادم المليشيات الموالية لإيران مع التيار الصدري قاب قوسين أو أدنى، ولكن تم تلافيها بشن الهجوم على الفلوجة، كما أن كثيرًا من الحوادث حصلت في الأيام الأخيرة بين المليشيات لتصفية الحسابات بينهم، وجميعهم ينتظرون حسم معركة الموصل لكي تستأنف صراع السيطرة على الأرض فيما بينهم، على خلفية الفساد المستشري فيها.
فتلك المليشيات تقوم الآن بأخذ الإتاوات من الناس إضافة إلى الخطف مقابل الحصول على الأموال، ووصل أمر التنافس بين تلك المليشيات إلى درجة القيام بالاغتيالات بين تلك المليشيات على مستوى القادة الميدانيين والأفراد، وقامت القيادات الكبرى لتلك المليشيات بإجراءات لتخفيف حالة الاحتقان بينهم، مثل عمليات نقل لهذه المليشيات إلى مناطق أخرى، إلا أن تلك الحلول تعتبر مؤقتة والحل الأمثل هو دمج كل تلك المليشيات في مؤسسة واحدة مشابهة للحرس الثوري الإيراني تكون قيادتها بيد رئيس الوزراء الذي هو من الطائفة الشيعية حسب المحاصصة الطائفية.
حرس ثوري عراقي
عند النظر بقانون الحشد الشعبي الذي أُقر من قِبل البرلمان العراقي نجده مشابهًا للحرس الثوري الإيراني بل مطابقًا له ولا يختلف عنه إلا بالمسمى، فالحشد سيكون هيئة عسكرية مستقلة ترتبط برئيس الوزراء فقط وهو الوحيد الذي يتحكم في نشر وتوزيع القوات التابعة للحشد، ولها إدارة مستقلة وموازنة مالية مستقلة، بمعنى أنه لا يخضع لقوانين الجيش العراقي ولا يؤتمر بأمر وزير الدفاع أو رئاسة أركان الجيش العراقي.
وبدأت منافسته للجيش منذ الآن، ففي نص القانون يقول إن إقرار القانون تم بسبب التضحيات التي قدمها والتي كانت السبب الرئيسي لتحرير المناطق التي احتلتها داعش وعدم سقوط بغداد، بإشارة خفية أن الحشد الشعبي استرجاع الأراضي التي فرط بها الجيش، ووصل الأمر أن الكثير من الجنود في الجيش العراقي يتركون أماكنهم ليلتحقوا بمليشيات الحشد بسبب الامتيازات المالية التي يمنحها الحشد الشعبي.
هذا ما حصل في إيران حينما جاء الخميني للسلطة سنة 1979 حينها همَّش الجيش بشدة ودعم الحرس الثوري إلى الحد الذي يُمثل الآن أكبر مؤسسة عسكرية واقتصادية في إيران، لها سياستها المستقلة وتجارتها المستقلة وخططها داخل وخارج إيران.
الحشد الشعبي وحزب الله اللبناني
مليشيا الحشد الشعبي تشبه مليشيا حزب الله اللبناني، بسبب أن المرجعية واحدة والموجه لهما واحد نجد إن خطواتهما متشابهة، فحزب الله هو المليشيا الوحيدة التي لم يُنزع سلاحها وفق اتفاق الطائف سنة 1989 بحجة محاربتها للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، وفي العراق يتم تحصين مليشيا الحشد الشعبي بحجة محاربة داعش وجعلها قوة رسمية ومحصنة باسم القانون من أية ملاحقات قانونية.
وبنفس الطريقة التي يقوم بها حزب الله بالقتال خارج الأراضي اللبنانية ويدخل إلى سوريا لقمع الثورة السورية، يُراد للحشد الشعبي أن يكون قوة عسكرية غير خاضعة لإرادة الدولة العراقية، له الحرية بالقتال في سوريا كما يصرح بذلك هادي العامري وغيره من قادة مليشيا الحشد، وربما يتدخل مستقبلًا في الصراع اليمني أو البحريني أو حتى في السعودية، فإذا ما حصل هذا، كيف ستبرر الحكومة العراقية موقفها حينها؟ في الوقت الذي يقول العبادي مناقضًا نفسه بأنه لا يتدخل بشؤون البلدان الأخرى.
قانون الحشد والتسوية السياسية
يروج عمار الحكيم رئيس المجلس الأعلى الإسلامي ورئيس التحالف الوطني (الشيعي) لمبادرة التسوية السياسية التي ستنهي الخلافات الطائفية التي تعصف بالبلد كما يدعي، ونجده يبارك خطوة إقرار قانون الحشد الشعبي والتي تمثل أبرز مثال لتكريس الطائفية وقيادة العراق من قبل طائفة واحدة وإلغاء أي دور للطوائف الأخرى لا سيما العرب السنَّة منهم، فيقول معلقًا على هذا القانون: “إنها خطوة وطنية ومهمة تمهيدًا للتسوية الوطنية” وهو يريد بهذا أن يضحك على ذقون السنَّة ولا يدري أنه يضحك على نفسه وعلى السنَّة الذين معه بالعملية السياسية فقط.
موقف السياسيين السنَّة
كان موقف الكتل السياسية السنيَّة معارضًا لهذا القانون ممثلًا بموقف تحالف القوة الذي يتزعمه أسامة النجيفي، وحينما ترى موقفهم هذا تظن أن هذه الكتل السنيَّة لديها فعلًا مواقف وطنية لا تسمح بتمرير قانون يتعارض مع المصالح الوطنية للبلد، ولكن عند التدقيق في مواقفهم يتبين لنا أن هؤلاء ليسوا ضد القانون برمته وإنما خلافهم على تفاصيل القانون، ونتوقع أن يتم استرضائهم لاحقًا لكي يوافقوا عليه، ليس لغرض إقراره لأنه أُقرَّ فعلًا، ولكن لغرض الظهور للعالم بمظهر الوطنيين وغير الطائفيين.
ونسى هؤلاء السياسيون السنَّة عويلهم الطويل قبل سنتين من أجل إقرار قانون “الحرس الوطني” الذي لفه النسيان، وسيبقى السياسيون السنَّة في داخل هذه العملية السياسية يبررون الجرائم التي ترتكب بحق السنَّة وبحق هذا البلد الجريح، وعندما تستنفد أغراض إيران منهم سيتم طردهم من تلك العملية السياسية ليتم استبدالهم بسياسيين آخرين ووجوه جديدة أكثر استعدادًا لقول نعم لكل القرارات الطائفية الصادرة عن الحكومة العراقية بدفع إيراني.
فترى سليم الجبوري رئيس البرلمان العراقي والذي يعتبر أبرز مسؤول سني في هذه العملية السياسية، يدافع وبكل قوة عن هذا القانون بل يعتبره نصرًا يستحق أن يتفاخر به، ففي مؤتمره الصحفي بختام جلسة إقرار القانون، يصرح وبكل سذاجة بأن هذا الحشد السنَّة ممثلين فيه من خلال الحشد العشائري، والكل يعرف أن الحشد العشائري لا يتم معاملته ولو 10% من معاملة الحشد الشيعي، فتسليحه من عنده وطعامه من عنده ولا يتم دفع رواتب لهم، ومع ذلك فإن الحكومة غير راضية عنهم وسوف يكون مصيرهم مثل مصير الصحوات التي تشكلت سنة 2007، منهم من أصبح خلف القضبان ومنهم من تم اغتياله لإزاحته من المشهد.
وكم هي نسبة الحشد العشائري إلى الحشد الشيعي، فالحشد الشيعي يصل إلى 80 ألف بينما الحشد العشائري لا يتجاوز عدده بضعة آلاف، فهل يتوقع سليم الجبوري أن مسلحي العشائر سيحققون التوازن المطلوب والذي يدَّعي تحقيقه من خلالهم؟ لقد دافع سليم الجبوري عن هذا القانون أفضل مما يدافع عنه أصحاب القانون أنفسهم وانطبق عليه المثل القائل “ملكيًا أكثر من الملك نفسه”، فيقول إنَّ هذا القانون سيعتبر كل من يحمل السلاح خارج القوات المسلحة والحشد الشعبي هي مليشيا خارجة عن القانون ويجب محاسبتها، وهل بقيت مليشيا خارج إطار الدولة بعد أن تم ضم جميع المليشيات للدولة؟ وأصبحت دولة مليشيات، أم أن سليم الجبوري يقصد فصائل المقاومة الوطنية من السنَّة التي حاربت المحتل الأجنبي وأجبرته على الانسحاب؟
ستنتهي هذه الفترة الانتخابية وبعدها يلفظ سليم الجبوري كغيره ممن خانوا قضية شعبهم، ولكن بعد أن يحقق كل ما هو مطلوب منه إيرانيًا، ليعيش على ذكريات ما فعله الحشد الشيعي بحق أهلنا وأطفالنا ومدننا، ويذكّر نفسه بأن له نصيب بهذا الفعل، إنَّ حال سليم ينطبق على حال أكثر السياسيين السنَّة في هذه العملية السياسية العرجاء، إلا من صحا على نفسه مبكرًا ورفض أن يكون مطية للإيرانيين.
ما العمل؟
كان إقرار هذا القانون منعطفًا كبيرًا في تاريخ العراق الحديث وسوف يتم تكريس الطائفية في هذا البلد لأمد بعيد، وتكاد إيران أن تصل إلى أغلى أهدافها من خلال هذا القانون والقوانين التي ستلحقه تباعًا، فإيران قد كسبت بلدًا مكونًا مما يزيد على الثلاثين مليونًا، ستعتبره خزّانًا بشريًا تزجه في حروبها المختلفة المستقبلية في المنطقة، فهي تحارب بهم وتصرف عليهم أيضًا من أموالهم، ولا تفعل شيئًا غير توجيههم لتحقيق أهدافها بإقامة دولتها الفارسية المنشودة، في الأشهر والسنيين القادمة ستجد الإيرانيين يسوقون العراقيين لحتفهم في سوريا واليمن ومختلف دول المنطقة.
ولكن يا ترى هل هذا نهاية المطاف؟ وماذا على السنَّة أن يفعلوه للحيلولة دون خسارتهم لأرضهم وإذابتهم في المجتمع الذي تعيد صياغته إيران يومًا بعد يوم؟ لا بد من مرجعية شجاعة يلتجأ إليها السنَّة لتكون لهم عامل توحيد تذوب خلافاتهم عندها، فكما للشيعة هناك علي السيستاني فيجب أن يكون لنا مرجعية يتوحد عندها السنَّة، وأن تفتي لهم بوجوب الدفاع عن بيضة المسلمين في العراق قبل أن يغرق في السواد الذي أوشك أن يُطبق على بلدنا العزيز.
فوالله إن لم يتصد علماؤنا وكبراؤنا لتوحيد صفنا فإنهم سينتهون للتفرغ للفتوى في أحكام الحيض والنفاس، ولن نجدهم يختلفون عن معممي الأزهر الذي أعانوا الانقلابين على الحكم الشرعي، وسينتهي الأمر بأبنائنا أن يعطوهم ظهورهم ويتوجهون لغيرهم.