بالرغم من تقليل الكثير من شأنها إلا أن الابتكارات والاختراعات ستصبح المحرك الأساسي لقياس مكانة الدول في سلم التنمية الاقتصادية، فهي إحدى أبرز المؤشرات التي ترسم ملامح خارطة مستقبل الدول وموقعها من قطار التقدم العالمي، لما لا وأكثر الدول تقدمًا تلك التي تحتل المراكز الأولى في عدد براءات الاختراع، مما يعزز واقعية هذه الفرضية التي طالما عزف المتأخرون على أوتارها ليل نهار.
وفي قراءة مفصلًة لموقع العرب داخل هذه القائمة تتكشف العديد من الحقائق والدلالات التي قد تغير نظرة الكثيرين حيال الكيان العربي ككل متكامل، خاصة فيما يتعلق بحجم التناقض الواضح بين ما تدعيه بعض النظم العربية من تخطيط للمستقبل وتبني الرؤى القادرة على النهوض بقطار التنمية العربية وما تحياه من واقع يفند تلك الادعاءات وينسفها من جذورها.
الابتكار لغة العصر
بداية هناك تعريفات عدة لمفهوم الابتكار، لكن أقربها للواقع بشهادة خبراء التكنولوجيا والمعلومات تعريف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، والذي جاء فيه أن الابتكار هو “إيجاد منتج جديد أو محسن (سلع أو خدمات) أو عملية إنتاجية جديدة أو طريقة تسويق جديدة أو طريقة جديدة لتنظيم إدارة الأعمال أو تنظيم بيئة العمل أو تحسين العلاقات الخارجية”.
وقد أولت الدول المتقدمة اهتمامًا غير مسبوق بمنظومة الاختراعات والابتكارات في الأونة الأخيرة، في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة التي دفعت الجميع إلى التفكير والبحث عما هو جديد في مسيرة التقدم الاقتصادي الذي وضع جميع الدول الراغبة في المنافسة في خندق واحد وعلى كل دولة أن تنجو بنفسها من مغبة السقوط الذي ينتظرها حال بقائها في موقعها دون إبداع أو تطوير.
لذا نجد التنافس المحموم بين المعسكر الشرقي بقيادة روسيا والصين في مواجهة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في ظل قناعة كلا المعسكرين بأهمية المعرفة والتكنولوجيا في مجال النمو الاقتصادي، وهو ما دفع إلى بزوغ نجم جديد في المجال الاقتصادي ألا وهو اقتصاد المعرفة.
أولت الدول المتقدمة اهتمامًا غير مسبوق بمنظومة الاختراعات والابتكارات في الأونة الأخيرة، في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة التي دفعت الجميع إلى التفكير والبحث عما هو جديد في مسيرة التقدم الاقتصادي
وقد أشارت العديد من الدراسات الاقتصادية المعاصرة إلى أن أنشطة البحث العلمي والتطوير أحد الوسائل التي تعزِز من القدرة الابتكارية، حيث أشار خبراء الاقتصاد المعرفي إلى الأهمية الكبيرة لكلٍ من البحث والتطوير على النهوض بالابتكار والتقدم الاقتصادي، وذلك من خلال تحسين الآلات والاختراعات حيث يرجِع العديد من الاقتصاديِين الريادةَ في الإنتاجية التي ترفع من معدلات النمو الاقتصادي إلى عدة عوامل ولعل من أهمها زيادة الإنفاق على أنشطة البحث والتطوير.
لذلك فإن التقدم التكنولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية يساهم بنسبة 90% من الزيادة في معدلات النمو الاقتصادي، وكان لسيطرة اليابان على التكنولوجيا الحديثة دورًا كبيرًا في خلق وتطوير التكنولوجيا الموجهة لمعالجة المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الياباني وزيادة القدرة التنافسية، وتدني مستوى الإنفاق على أنشطة البحث والتطوير يؤدي إلى ضعف القدرة على الابتكار وبالتالي زيادة الإنتاجية وتضاؤل الفرص نحو تحقيق التنمية المطلوبة.
تنافس محموم بين الدول المتقدمة في مجال التكنولوجيا والبحث العلمي
الصين تقود قاطرة العالم
في تقرير للمنظمة العالمية للملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة أشار إلى أن الصين تقود نمو الابتكار على مستوى العالم لتصبح أول دولة تقدم مليون طلب براءة اختراع في عام واحد، مشيرًا إلى أن المخترعين الصينيين تقدموا خلال عام 2015 بما يقرب من 1.01 مليون طلب اختراع معظمها في مجال الهندسة الكهربائية التي تشمل الاتصالات تليها تكنولوجيا الكمبيوتر وأشباه الموصلات وأدوات القياس بما في ذلك التكنولوجيا الطبية.
من جهته قال فرانسيس غاري المدير العام للمنظمة خلال المؤتمر الصحفي للإعلان عن نشر تقريرها بعنوان مؤشرات الملكية الفكرية العالمية: “الأرقام الصينية مذهلة للغاية، هذا أول مكتب براءة اختراع في العالم يتلقى أكثر من مليون طلب”، مضيفًا أن هناك زيادة بطيئة وتدريجية في تطبيقات الصين لبراءات الاختراع العالمية، والصين بصدد تحويل الابتكار إلى نقطة محورية من استراتيجيتها الاقتصادية.
أما عن تفوق آسيا في مجال الابتكارات والاختراعات، أشار مدير المنظمة إلى أن العالم يشهد هيمنة متزايدة تقريبًا من آسيا كمصدر لأنشطة تقديم الطلبات لحقوق الملكية الفكرية، قائلاً: “لو نظرت إلى الأرقام فتجد أن 62 من أنشطة تقديم الطلبات على مستوى العالم مركزها آسيا و55% من طلبات العلامات التجارية على مستوى العالم من آسيا و68% من طلبات التصاميم هي من آسيا”.
مختبر صيني جديد لغزو الفضاء
تقدم أمريكي وتراجع أوروبي
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر سوق تزيد قيمته على ربع قيمة السوق الاستهلاكي العالمي، لذا تهرول الشركات المبتكرة والمخترعون إلى حماية اختراعاتهم في السوق الأمركية، بتسجيلها لدى مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكي (USPTO).
وبحسب البيانات الصادرة عن المكتب الأمريكي، فإنه منذ نشأته قد منح ما يقرب من 5.74 مليون براءة اختراع، إلا أنه في 2015 فقط تم منح 325 ألفًا و979 براءة اختراع لمختلف بلدان العالم، في مختلف المجالات التكنولوجية والحيوية، حيث جاءت أمريكا في المرتبة الأولى عالميًا من حيث براءات الاختراع الممنوحة من المكتب، لكنها جاءت في المرتبة الثانية استنادًا إلى تقرير المنظمة العالمية للملكية الفكرية، والذي أتى بالصين في المركز الأول.
بلغت عدد براءات الاختراع الأمريكية 155 ألفًا و982، بينما جاءت اليابان في المرتبة الثانية بعدد 54422 براءة، تليها كوريا الجنوبية بعدد 20201 براءة، ثم ألمانيا بإجمالي 17752 براءة اختراع
ففي عام 2015 بلغت عدد براءات الاختراع الأمريكية 155 ألفًا و982، بينما جاءت اليابان في المرتبة الثانية بعدد 54422 براءة، تليها كوريا الجنوبية بعدد 20201 براءة، ثم ألمانيا بإجمالي 17752 براءة اختراع، علمًا بأن الهدف من تسجيل براءات الاختراع لا يقتصر فقط على حماية الاختراع من النسخ والسرقة، بل يمتد ليشمل الترخيص القانوني لاستخدامه من قبل جهات أخرى، والحصول على عائدات من جراء ذلك.
وفي السياق نفسه فإن ميزانية تراخيص حقوق الملكية الفكرية تفوق كثير من ميزانيات الدول، وهو ما أشارت إليه مؤسسة “بروغريسيف إيكونومي” في تقريرها عام 2013، حيث بلغ إجمالي الإيرادات العالمية من الرسوم المتحصلة من تراخيص حقوق الملكية الفكرية 329 مليار دولار، نصيب الولايات المتحدة الأمريكية منها 39% أي نحو 128 مليار دولار، والاتحاد الأوروبي 122 مليار دولار، واليابان 32 مليار دولار، وسويسرا 21 مليار دولار، وكندا ستة مليارات دولار، وكوريا الجنوبية خمسة مليارات دولار، وسنغافورة ملياري دولار، والباقي لدول أخرى.
ابتكارات أمريكية خيالية في مجال التكنولوجيا العسكرية
نصف العرب “يبتكرون”
التقرير سالف الذكر والصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية، أشار إلى وجود ما يقرب من نصف الدول العربية تقريبًا في قائمة الدول المبتكرة، تتوزع بين 7 دول من آسيا: السعودية والإمارات وقطر ولبنان، والأردن والكويت واليمن، و4 دول من إفريقيا: تونس والمغرب ومصر والجزائر، بينما بقية الدول غائبة تمامًا عن هذا المضمار.
وجاءت المملكة العربية السعودية في المركز الأول عربيًا، والـ28عالميًا، إذ حصلت على 364 براءة اختراع عام 2015 وعلى 1513 براءة في جميع السنوات الموثقة، بينما جاءت الكويت في المركز الثاني عربيًا، والـ44 عالميًا، بفارق كبير مع 64 براءة عام 2015 و448 في مجموع السنوات، وجاءت الإمارات العربية المتحدة في المركز الثالثا عربيًا، والـ47 عالميًا، برصيد 56 براءة عام 2015 و254 في جميع السنوات.
ففي السعودية حصلت شركة أرامكو على 118 براءة اختراع، وهو أكبر عدد تحصل عليه شركة عربية في عام واحد، وحصلت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن على 91 براءة، وجامعة الملك سعود على 42 براءة، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية على 27 براءة.
جاءت المملكة العربية السعودية في المركز الأول عربيًا، والـ28عالميًا، إذ حصلت على 364 براءة اختراع عام 2015 وعلى 1513 براءة في جميع السنوات الموثقة
أما في الكويت، فقد نال الأفراد الحصة الكبرى من براءات الاختراع برصيد بلغ 57 براءة، بينما حصلت جامعة الكويت على أربع براءات، وفي الإمارات، نال الأفراد أيضًا الحصة الكبرى من براءات الاختراع برصيد بلغ عشر براءات، بينما حصلت جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا والبحوث على سبع براءات.
ووفقًا لتقرير صادر عن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، فإن السعودية تستحوذ على 66% من براءات الاختراع في العالم العربي، حيث استحوذت الجامعة السعودية نفسها على 7% من براءات الاختراع على الصعيد العربي بصورة عامة وما يقرب من 92% في براءات الاختراع المسجلة في الجامعات العربية العام الماضي 2015، بينما بقية الجامعات كان نصيبها 8% فقط.
شركة أرامكو السعودية الأولى عربيًا في عدد براءات الاختراع
قلة الدعم وغياب التشريعات
القراءة الدقيقة في المشهد السابق، والأرقام الورادة بين ثنايا التقارير الدولية، تكشف عن ضعف الثقافة المشجعة على الابتكار في البلدان العربية، لكن في الوقت نفسه يجب ألا نقلل من جهود بعض دول الخليج في السنوات الخمسة الماضية، والتي أبدت اهتمامًا ملفتًا للنظر بالابتكار والمبتكرين والتشجيع على ذلك من خلال عدد من الاستراتيجيات والخطوات التنفيذية المشجعة.
إلا أن خبراء التكنولوجيا والمعلومات أرجعوا ضعف الاهتمام العربي بقيمة الاختراعات والابتكارات إلى ثلاث عوامل أساسية، الأول: ضعف القدرات والإمكانيات المادية المطلوبة لمباشرة المبتكرين جهودهم وأبحاثهم العلمية، وهو ما يدفع الكثيرين منهم إلى التقاعس وفقدان الحماس حتى وإن كان يملك من المؤهلات اللازمة ما يسمح له بذلك، الثاني: غياب البنية القانونية والتشريعية التي تسهل عملية تسجيل براءات الاختراع، حتى باتت في بعض الدول وكأنها مأساة في ظل ما يعتريها من عراقيل، الثالث: افتقاد المبتكرين والشباب الطموح في الدول العربية إلى دعم وتشجيع ومؤازرة حكوماتهم ومجتمعاتهم المدنية الأهلية.
القراءة الدقيقة في المشهد السابق، والأرقام الورادة بين ثنايا التقارير الدولية، تكشف عن ضعف الثقافة المشجعة على الابتكار في البلدان العربية، لكن في الوقت نفسه يجب ألا نقلل من جهود بعض دول الخليج في السنوات الخمسة الماضية
وللوقوف على هذه المعضلة يكفي أن نشير إلى أن إنفاق إسرائيل على البحث العلمي لديها يتجاوز حاجز 4.7% من إجمالي دخلها القومي، وهو ما يساوي إجمالي ما تنفقه الدول العربية مجتمعة، فضلاً عن أن جزءًا كبيرًا من المخصصات المالية لمجال البحث والتطوير في العالم العربي تصرف فقط على شكل أجور للأساتذة الباحثين من دون تحقيق أي منتج علمي.
ضعف ميزانية البحث العلمي شبح يهدد مستقبل العرب
التنمية البشرية والإرادة السياسية
أما عن سبل النهوض بمنظومة البحث العلمي والابتكارات والاختراعات في العالم العربي، فلا بد من العمل على تحسين مستوى التنمية البشرية في الجانب المتعلق بالبحث، خلال بلورة وإبداع وسائل ومقاربات جديدة ومبتكرة، تكون قادرة على إعادة النظر في البيئة العلمية والمجتمعية الموجودة، بما يسمح لها بإعادة ترتيب أوراقها من جديد في صور حزمة التطورات التكنولوجية الهائلة التي تجتاح العالم في العقدين الأخيرين.
كما أنه قد آن الأوان أن تقتنع الحكومات والدول أن البحث العلمي، وما ينجم عنه من ابتكارات واختراعات، لا تقل أهمية ومكانة عن الطعام والشراب والصحة والتعليم، لذا فعليها أن تعيد النظر في الميزانيات المخصصة لها بما يتناسب مع العائد المتوقع منها، فليس من المنطقي أن تكون دولة بحجم إسرائيل تنفق على البحث قدر ما ينفقه العرب أجمعين.
وفي نفس الوقت لا بد من توفر الإرادة السياسية للحكومات والأنظمة لإعطاء دفعة حقيقية للمورد البشري لتشجيعه على الإبداع والابتكار على نحو يخدم الاقتصاد والتنمية، من دون إغفال الدور المحوري للجامعات ومؤسسات التعليم العالي في تحقيق التقدم وتطوير التكوين الجامعي من أجل الرقي بالبحث العلمي والابتكار.