باتت حركة الدولار الشغل الشاغل للمستثمرين حول العالم فيما إذا سيواصل الصعود في المستقبل أو سيكون هناك حركة تصحيحية في سعره المرتفع؟ فصعود الدولار لأعلى مستوياته منذ 14 عامًا تزامن مع انتخاب الملياردير دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، ليبدو الأمر محيرًا فيما إذا كان هذا الصعود ناجمًا عن وصول ترامب للبيت الأبيض أو أن هناك عوامل اقتصادية أسهمت في منح الدولار دفعة قوية وجهته نحو الصعود خلال الأسبوعين الماضيين؟ فأي الأمرين أصح؟ وإلى أين يتجه الدولار في الفترة المقبلة؟
قوة في الدولار أم في ترامب
توقع كثير من المحللين والخبراء أن يشهد الدولار انخفاضًا حادًا في حال فوز ترامب بالرئاسة وتباعًا تحدث عمليات بيع ضخمة للموجودات الأمريكية من أسهم وسندات وما شابهها، إلا أن تلك التوقعات خابت، إذ شهدت الساعات الأولى بعد إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية هبوطًا محدودًا، لكن سرعان ما عاود الدولار للارتفاع بشكل غير مسبوق مصطحبًا معه مؤشرات الأسهم الرئيسية حيث حقق داو جونز الذي يقيس أداء الأسهم الكبرى في البورصة الأمريكية ارتفاعًا قياسيًا. وما صدق من التنبؤات هو هبوط أسواق السندات حيث خسرت نحو ترليون دولار في الأيام الثلاث الأولى من فوز ترامب.
الذي حدث في الشهر الماضي هو صدور بيانات وتصريحات عديدة تفيد بالمحصلة أن الاقتصاد الأمريكي يشهد نوعًا من التحسن والانتعاش وهذا يعد أحد الأسباب الرئيسية في الموجة الصعودية للدولار وأسواق الأسهم، فاستمرار نمو الاقتصاد الأمريكي بنفس الوتيرة التي شهدها الشهر الماضي من جهة وارتفاع معدل التضخم من جهة أخرى سيمنح المركزي المزيد من المبررات والثقة برفع الفائدة وهذا يعني بالضرورة مزيدًأ من انتعاش الدولار أمام العملات الرئيسية.
أسواق الأسهم الأمريكية تشهد تحسنًا ملحوظًا لجلسات متتالية بعد فوز ترامب
عامل مهم آخر ساهم في رفع الدولار خلال الأيام الماضية وهي هبوط سوق السندات وانسحابات المستثمرين الكثيفة من السندات للجوء إلى العملات الآمنة وفي مقدمتها الدولار، فارتفعت المبيعات المكثفة على السندات المقومة بالدولار لتتوجه لشراء الدولار ما أدى لارتفاع الطلب عليه بشكل كبير.
العجز في الميزانية سيجبر إدارة ترامب على عدم رفع سعر الفائدة مستقبلًا
ويرجع خبراء أن صعود الدولار الأخير ناجم عن عامل آخر مهم أسهم في ارتفاع الدولار بشكل كبير وهو نقص السيولة الدولارية في الأسواق الناشئة وخصوصًا في أسواق آسيا ومراكز المال في جنوب شرق آسيا والصين، إذ جرت في الصين عمليات تحويل ضخمة من اليوان الصيني إلى الدولار بعد إعلان نتيجة فوز ترامب من قبل كبار المستثمرين ورجال الأعمال المتخوفين من هبوط قيمة ثرواتهم بسبب تراجع عملة الصين بعدما شهد أكبر تراجع إلى مادون 6.8 يوانات للدولار في الأسواق الخارجية، بالرغم من القوانين الصينية الصارمة بتحديد سقف التحويلات المالية بغرض حماية العملة الوطنية.
ومن ثم وصل ترامب للسلطة وعزز من الاقتصاد الأمريكي والثقة فيه، من خلال الخطة الاقتصادية التي ينوي القيام بها والقائمة على إصلاح النظام الضريبي ورفع الفائدة الأمريكية والتوسع في الإنفاق الحكومي وهذه الأمور كلها تساعد الاقتصاد الأمريكي على النهوض من جديد وتحقيق معدلات نمو مرتفعة وارتفاع معدل التضخم، وبالنتيجة ارتفاع الدولار أمام بقية العملات، إلا أن هذا الكلام صحيح من الناحية النظرية ولكن من الناحية العملية قد يشوبه أخطاء.
مؤشر الدولار يقيس قوة الدولار أمام سلة من العملات الرئيسية
وبهذا تكون مسألة انتعاش الدولار سببها الاقتصاد الأمريكي نفسه أكثر من وصول ترامب للسلطة، وفي حال لم يظهر الاقتصاد الأمريكي في الشهور المقبلة أرقامًا إيجابية ومحفزة ولم تشهد معدلات التضخم تحسنًا عن المستويات الحالية فإن صعود الدولار سيكون آنيًا وسرعان ما سيبدأ رحلة هبوط إلى مستويات دون 100 أمام العملات الرئيسية علمًا أنه يقف الآن عند 101.42.
ترامب والاقتصاد الأمريكي
هل الاقتصاد الأمريكي قابل للتحسن فعلًا في المرحلة المقبلة بما ينعكس إيجابًا على الدولار؟ وهل يمكن تطبيق سياسات ترامب المالية؟ مؤسسات مالية حول العالم انشغلت بهذه التساؤلات وأفردت أربعة عوامل رئيسية ستحدد توجه سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسية في المرحلة المقبلة، وهذه العوامل هي توجهات نمو الاقتصادي الأمريكي في عهد ترامب، وتوجهات الفائدة الأمريكية، ومستويات الطلب على الدولار، والموجودات الدولارية المقيّمة بالدولار.
مصرف التسويات الدولية في سويسرا أشار أن قوة الدولار الحالية لا تعكس قوة الاقتصاد الأمريكي وأفاد أنها إشارة إلى زيادة المخاطر المالية وسط الشح في السيولة الدولارية التي تعاني منها الأسواق، والتي ستكون سببًا وجيهًا في عدم رفع سعر الفائدة، ويشير بنك “غولد مان ساكس” أن رفع الفائدة الأمريكية في ظل هذه الظروف سيكون من الأخطاء الفادحة.
أما توقعات النمو الاقتصادي في عهد ترامب فقد أجاب عنها معهد “بيترسون للدراسات الاقتصادية” إذ أشار أن سياسات ترامب التي أعلنها في برنامجه الانتخابي تشير إلى أن الميزانية ستعاني في عهده من عجز كبير بناءًا على عاملين؛ الأول أنه ينوي زيادة الإنفاق الحكومي وهذا سيؤدي إلى زيادة العجز في الميزانية ما يعني لجوء ترامب للأسواق المالية للاقتراض، ومن هنا فإن مصرفيون يرون أن العجز في الميزانية سيجبر إدارة ترامب على عدم رفع سعر الفائدة مستقبلًا.
قوة الدولار الحالية لا تعكس قوة الاقتصاد الأمريكي بل وأفاد أنها إشارة إلى زيادة المخاطر المالية وسط الشح في السيولة الدولارية
كما خفض مصرف “بانك أوف أميركا” توقعاته لمعدل النمو الاقتصادي في أميركا من 2.7% إلى 1.8% خلال العام المقبل وتوقع أيضًا انخفاضًا في معدل النمو في الوظائف ومعدل النمو الاستهلاكي، وعليه فقد خلص أن العام الأول لترامب سيشهد ضعفًا في النمو الاقتصادي وبالتالي سيكون من الصعب رفع معدل الفائدة.
وعلى صعيد الطلب على الدولار فإنه من المتوقع أن يستمر وبقوة خلال العام المقبل بسبب تدهور سعر صرف اليوان الصيني واضطراب في أسواق الأسهم الصينية والآسيوية عمومًا، ما سيقود إلى هروب الرساميل من الصين وبعض دول آسيا إلى الحسابات الدولارية وهذا سيسهم في زيادة الطلب على الدولار.
أما العامل الرابع فهو احتمال ارتفاع الطلب العالمي على الدولار بسبب حاجة الشركات والحكومات في الدول الناشئة لتسديد ديونها المقومة بالدولار خلال الشهور والأعوام الماضية ومن المتوقع أن يسهم هذا الأمر في رفع سعر صرف الدولار.
لذا فإن نمو الاقتصاد الأمريكي في عهد ترامب سيواجهه عقبات كبيرة وقد تزيد خطط ترامب الاقتصادية من المشكلة بدلًا من المساعدة على حلها وخصوصًا في حال طبق وعوده التي قطعها في حملته الانتخابية، وعليه فإنه من غير المتوقع أن تستمر موجة صعود الدولار على المدى المتوسط على أن الدولار الأمريكي لا تزال العملة الأقوى التي تلجأ لها الحكومات ورجال الأعمال والأثرياء حول العالم تخوفًا من هبوط قيمة ثرواتهم لذا فإن هبوطه سيكون في نطاقات محددة.