ما إن أعلنت قناة الجزيرة القطرية عن عرض فيلم وثائقي يتناول التجنيد الإجباري في مصر، وأشارت أن الفيلم استغرق إعداده نحو عام كامل حتى حدثت حالة من الهلع وردود الفعل السريعة من قبل قيادة الانقلاب في مصر عبر أجهزتها الإعلامية مما روج للفيلم قبل بثه، وأصبح حديث مواقع التواصل الاجتماعي مما يعد دعاية مجانية للفيلم ونجاح يسبق عرضه.
فيلم العساكر
والتساؤل المهم: ما الذي يرعب العسكر من فيلم تسجيلي لا يعرفون محتواه؟ والإجابة تكمن في بعض النقاط تجعل رعبهم في محله، وردود أفعالهم العشوائية والمندفعة والتي روجت للفيلم دون قصد غير مستغربة.
أول هذه النقاط أن المؤسسة العسكرية تعيش منذ فترة كبيرة حالة من الوهن العسكري يقابله ارتفاع وتيرة المشروعات الاقتصادية وتوغل قيادات الجيش في الاقتصاد بصورة جعلت البعض يقدر أن نسبة ما يسيطر عليه الجيش من اقتصاد البلاد يتراوح بين 40% إلى 60% مستغلة في ذلك وجود أيدي عاملة دون تكلفة نتيجة التجنيد الإلزامي والإعفاء من الرسوم الجمركية والضرائب، هذا الوهن العسكري يعرفه كل من أدى الخدمة الإلزامية ولكن لا يستطيع أن يبوح بما يحدث خوفًا من المحاكمات العسكرية والأحكام الجاهزة.
الجيش المصري
ضعف الجاهزية القتالية لا تمحوه العروض العسكرية التي يتم التدريب عليها من أجل الظهور في احتفالات التخرج أو المناورات الموسمية، هذا الضعف يظهر في الفشل للتصدي لأي عمليات من قبل مسلحين، ومقتل الجنود بصورة دورية سواء حادث مقتل 22 جنديًا من قوات حرس الحدود بكمين بالصحراء الغربية على حدود الوادي الجديد في يوليو 2014، ومقتل 6 جنود آخرين في يونيو 2016 أيضًا في ذات المكان، أو قتل ضابط و4 جنود في محافظة مرسى مطروح في أغسطس 2014، أو مذبحة رفح الأولى والثانية واستمرار تقديم الجنود للقتل اليومي دون أي جاهزية ودون محاسبة لأحد.
ثاني هذه الأسباب التي تدعو للهلع هو كسر أهم الخطوط الحمراء والتي ليس بعدها خطوط أخرى، فالتجنيد الإجباري هو صمام الأمان وهو الأداة الناجعة في يد العسكر لبسط نفوذهم في الحكم واستمرار مكاسبهم الاقتصادية الممتدة عبر كل القطاعات، فإذا تم كسر الطوق المفروض منذ سنوات على مناقشة هذا الموضوع فقد تنتهي إلى الأبد إمبراطورية استغلال المواطن في قتل أخيه ليربح القادة القابعين على كراسي الحكم والاقتصاد معًا.
ويكمن السبب الثالث في أن هذا الفيلم سيكون له ما بعده، فسيشجع الكثيرين على الإدلاء بشهادتهم الصادمة عما يحدث من عبودية باسم الجندية وحب مصر، وقادة العسكر رغم مهاجمتهم للفيلم قبل عرضه يعرفون جيدًا حجم ومقدار السوس الذي ينهش في جسد المؤسسة العسكرية منذ انقلاب 1952، ومرت كارثة ونكسة 1967 وظهور الجنود المصريين في صحراء سيناء بالملابس الداخلية يقودهم بعض الجنود من قوات الاحتلال الصهيوني في الوقت الذي كان يعلن فيه عبر وسائل الإعلام سقوط الطائرات واقتراب الجيش الميمون من تل أبيب، مرت الكارثة دون محاسبة أو كشف للمتسبب بل اقترنت بالأغاني الوطنية والمظاهرات المعدة سلفًا تطالب صاحب النكسة بالاستمرار، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من أخر الخطوط الحمراء.
أما السبب الرابع فهو أن التجنيد الإلزامي ليس معمولاً به في 98 دولة منها دول تتمتع بجيوش قوية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وباكستان وهذا يجعل فتح هذا الملف طبيعيًا ولا يهدم الدولة وأمنها القومي كما يدعي المستفيدون من هذا النظام، وإعادة النظر فيه ومناقشته ليست من الممنوعات أو المحظورات التي يحاكم من يخوض فيها.
يجب توجيه التحية لقناة الجزيرة على الجرأة بالاقتراب من هذا الملف الشائك، ولأن هذه المقالة كتبت قبل أن يتم عرض الفيلم فلن يتم الحكم على محتواه ولكنه نجح قبل عرضه، فهذا الفيلم يزيد من سقوط الأقنعة وكشف المستور على الشعب منذ أكثر من ستين عامًا.
سيكتب التاريخ أن انقلاب السيسي هو أفشل الانقلابات على مر التاريخ وأنه كان نذير شؤم على مؤسسة نهش فيها الفساد وكان يتوارى خلف أقنعة كثيرة فجاء الانقلاب ليسقط الأقنعة الواحد تلو الآخر ويكسر السياج الذي كان من المستحيل الاقتراب منه أو الخوض فيه، فأصبحت عبارة (ممنوع الاقتراب أو التصوير) من اللغو الذي لا معنى له ولا فائدة من ذكره.