بعد ست سنوات من الثورة في تونس، ما زال تحدي الإيفاء بالمطالب الشعبية للتونسيين أو فشله قائمًا، ففي الوقت الضائع للسيرورة الثورية تستقطب هيئة الحقيقة والكرامة الأضواء وتحرز هدفًا تاريخيًا في مرمى المنافس المتقدّم عبر وضع التونسيين وجهًا لوجه مع عذابات بني جلدتهم التي سببها لهم النظام السّابق، صفعة كبرى “للمضادين” أجلت الحسم بين المعسكريْنِ إلى الفترة المتبقية من النزال.
فبين ليلة وضحاها، غدا حديث العامة من الناس في الشارع التونسي لا يكاد يخرج عن تلاوة عذابات المقهورين وصيحات الأمهات الثكالى وآلام الزوجات المكلومات التي عُرضت خلال جلسات الاستماع العلني لضحايا الاستبداد من الإسلاميين والنقابيين والشيوعيين وكل من دفع ثمن رأيه دمًا استنزفه منه جلاده.
شهادات قاسية لم تلق في الغالب إلا الإشادة والتقدير بتاريخ ناس قدموا أغلى ما يمكن أن يكسب المرء في دنياه في سبيل الذود عن مبادئه وقضاياه في وطن ظن هؤلاء للحظة أنه سيذود عنهم مثلما فعلوا معه وسيفعلون لو كتب لهم القدر أن يتنفسوا نفسًا إضافيًا، شباب، صحة، خصوبة، علم، شرف، صيت، أخلاق، حيوية، حب، أمل، كل هذا لم يشفع لهؤلاء أمام جلادهم فقصفهم – قصفه الله – ووأد أحلامهم وأمنياتهم في قبر جماعي كُتب له أن يُفتح بعد عشرين سنة ونيفًا إثر ثورة قلبت كل الموازين وأعادت الكرة إلى وسط الملعب.
لقد تمكنت هيئة الحقيقة والكرامة من دخول التاريخ من أوسع أبوابه، فكتبت بخط عريض درسًا من دروس الثورة ضخ نفسًا ثوريًا جديدًا في أجساد الثوار المنهكة التي أتعبتها مسيرة الخمس سنين المثقلة بالخيبات والمطبات والعثرات التي خلنا بعدها أنه آن للثورة بمطالبها واستحقاقاتها وأحلامها أن تُمحى إلى الأبد، هدف حاسم في لحظة فارقة تسجله الهيئة بكل جدارة ليكون صدمة مؤلمة خلطت أوراق المضادين الذين خالوا طويلاً أن النصر كان حليفهم لكن هيهات هيهات، فسهام ولفيفها قطعوا طريقهم رغم الانتكاسات التي عرفوها بدورهم داخل مطبخهم الداخلي وهم الذين دخلوا ساحة النزال منقوصين برأس حرباء اختار لنفسه طريقًا آخر يبدو متشعبًا.
في عقر دارهم، وفي بهو قصرهم، وفي أرجاء المبنى الذي يؤرخ لجرمهم على رقاب بني بلدهم، عُقدت أولى جلسات الاستماع العلنية لضحايا عقود من الاستبداد والديكتاتورية وتناقلتها وسائل الإعلام المحلية والدولية وكانت فضيحة الأنظمة المتواترة مدويةً تابعها كل العالمين من طوكيو غربًا إلى نيكاراجوا شرقًا وأدانها الرأي العام الإقليمي والدولي.
ولكن رغم ذلك لا هم اعترفوا بذنب اقترفوه في حق وطنهم ولا هم سعوا للاعتذار على الملء والتكفير عن ذنبهم ولو رمزيًا، فرأيناهم يتخبطون من منبر إعلامي لآخر يجسدون رقصة الديك المذبوح بكل جدارة، فتراهم تارة يشككون في مصداقية شهادات الضحايا بكل ما أوتوا من قبح وتراهم تارة أخرى يهاجمونهم علنًا ويكيلون لهم تهم العمالة والعنف والإرهاب والتطرف يمينًا وشمالاً، والظاهر في الحقيقة أنهم لم يستوعبوا بعد الحتمية التاريخية والسياسية التي تتجه نحوها البلاد في سياق جمهورية ناشئة وليدةَ تطلعات شعبٍ نحو الحرية والحقيقة والكرامة دون تفرقة أو محاباة بين إسلامي وشيوعي وقومي ومستقل، جمهورية ناشئة ما زالت تتلمس الخطى في السنوات الأولى ابتدائي في مدرسة الديمقراطية العريقة وستُوفق في ذلك بفضل أبنائها الشرفاء.
لقد مهدت هيئة الحقيقة والكرامة لصفحة جديدة من المسار الثوري في تونس تختلف عن سابقاتها اللاتي اتصفن بالنكسة تلو الأخرى وأحرزت بذلك أول هدف واضح دون تسلل في شباك الثورة المضادة لتعيد الأمل إلى التونسيين وتجذر فيهم مبدأ أن الثورة ليست ظرفية زمانية عابرة بقدر ما أنها مجموعة من المراكمات والجولات بين معسكر الثورة ومعسكر “المضادين” لها، هيئةٌ كتبت بحروف من ذهب مقدمة تاريخية في سجل الجمهورية الثانية، مقدمة تدعو بين سطورها إلى الالتفاف حول المستقبل مع الأخذ بعين الاعتبار دروس الماضي وعبره حتى لا تتكرر أخطائه وآثامه بأي حال من الأحوال.