في الوقت الذي استطاع فيه البنك المركزي القضاء على السوق السوداء للدولار، بعد قرار التعويم مطلع أكتوبر، ظهرت في أواخر نفس الشهر معاملات سوداء تحت مظلة البنوك، هذه المعاملات جاءت بدعوى سحب البساط من السوق السوداء والقضاء على آمالها في العودة للساحة مرة أخرى، لكن في الواقع تقوم هذه المعاملات بنفس مهمة السوق السوداء.
مصري مثقل بهموم العيش
طبيعة هذه المعاملات لم تعد سرية أو قاصرة على كبار المستوردين، فالبنوك باتت تعرض أسعارًا خاصة ومميزة عن تلك التي تعرضها على الشاشات لمن يملك كمية كبيرة من الدولارات، هذا الأمر صنع نوعًا جديدًا من تجار العملة في البلاد، وهو النوع الذي يعمل كالوسيط بين البنوك والعملاء، وهو التاجر الذي يجمع الدولار من السوق لحساب البنوك، فيما تعطي له البنوك أسعارًا مميزة بخلاف باقي الأفراد.
عمومًا لا أرى أن نظرية “كلما زاد المبلغ، طلب العميل سعرًا خاصًا” صحية بالنسبة لاستقرار سوق الصرف في مصر خلال هذه المرحلة، بل إن هذا الأمر يفتح أبوابًا جديدة للمضاربة قد تدفع الدولار لمستويات أعلى من التي وصل إليها.
وفيما يخص الوضع الحالي للدولار والنظرة القريبة لسعره خلال الأشهر القادمة، وتأثير موجة القروض التي تسعى الحكومة للحصول عليها، ففي الحقيقة لا يستطيع أحد أن يتوقع ما الذي سيحدث للسعر غدًا في ظل سوق أقل ما توصف به أنها سوق غير مستقرة، فلا تحسن يذكر في الواقع الاقتصادي بعد قرارات 3 من نوفمبر سوى المزيد من القروض.
رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد والسيسي
فمصر عقدت الكثير من صفقات القروض مؤخرًا، وأبرزها ما كشف عنها وزير المالية المصري من أن بلاده تسعى لاقتراض بين 5 – 6 مليارات دولار خلال 2017، بالإضافة إلى أن نائب الوزير قال إن مصر تعتزم بدء الترويج لسندات دولارية بقيمة 2.5 مليار دولار في لندن وبروكسل ودبي نهاية الشهر الجاري، والقرض الصيني بات في مراحله الأخيرة.
كما أن البنك المركزي المصري اقترض نحو 1.696 مليار دولار، من خلال طرح سندات دولارية خلال الأسبوع الماضي، وقبل ذلك وصلت مصر نحو 4 مليارات دولار من بورصة إيرلندا عبر طرح سندات دولية، كما أن هناك مفاوضات على 800 مليون دولار قروض من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى أن الحكومة في انتظار مليار دولار من البنك الدولي يناير القادم.
المتابع لهذه القروض يظن أنها قد تحل الأزمة ولكنها في الواقع لن تدخل ضمن معادلة سعر الدولار وقد لا يكون لها تأثير يذكر، لأن مصارف هذه الأموال ليس من ضمنها دعم الجنيه ودفع سوق الصرف للتوازن، ولكن كما ذكرنا مرارًا وتكرارًا، الأزمة في المجمل مرتبطة بالاقتصاد الحقيقي المريض في الوقت الحالي، ويحتاج إلى بعض الوقت للشفاء في حال كانت الحكومة في المسار الصحيح للعلاج.
على كل الدولار حتى في أسوأ حالته يظل أكثر أنواع الاستثمار أمانًا، والأقل مخاطرة وربما الأكثر ربحًا حتى مع وجود شهادات الاستثمار التي بلغت الفائدة عليها نحو 20%، ولكن يبقى السؤال إلى متى يظل الجنيه ضعيفًا مقابل الدولار؟
كما ذكرنا، الأمر برمته متعلق بالاقتصاد الحقيقي وحتى تتضح الصورة يمكن الاطلاع على هذين الخبرين لمعرفة الوضع بصورة أكثر وضوحًا:
الخبر الأول: وهو ما جاء خلال بيان صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر، حيث أظهر البيان تراجع قيمة الصادرات المصرية إلى دول شرق آسيا بنسبة 37.1%، إلى 15.5 مليار جنيه (861 مليون دولار) في 2015، مقابل 24.7 مليار جنيه (1.37 مليار دولار) في العام السابق عليه.
في المقابل كشف البيان أن إجمالي واردات مصر من دول شرق آسيا بلغ 151.6 مليار جنيه (8.42 مليار دولار) عام 2015، مقابل 133.2 مليار جنيه (7.4 مليار دولار) في 2014، أي زادت بنسبة قدرها 13.9%.
وبالمقارنة بين الصادرات والواردات على مستوى دول شرق آسيا نجد أن وضع الاقتصاد الحقيقي “الإنتاجي” كارثي، وبالرغم من أن الإحصائية متعلقة بالعام السابق إلا أن الوضع في مصر في السنوات الأخيرة يسير نحو الأسوأ مما يدل على وجود فجوة تتسع، وهو الأمر الذي لا يبشر بتحسن على الأقل في الأجل القصير.
الخبر الثاني: يتمثل في تصريحات رئيس غرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات المصرية محمد المهندس، الذي قال إن أسعار الأجهزة الكهربائية بالسوق المصري، ارتفعت بنسبة تتراوح ما بين 20 % و25 % كحد أقصى.
وأضاف المهندس أن تراجع حجم مبيعات الأجهزة الكهربائية بالسوق المصري وصل إلى نسبة 50% مؤخرًا بسبب تراجع القدرة الشرائية، مشيرًا إلى تراجع الطاقة الإنتاجية بالمصانع بنسب ما بين 25% إلى 30% في النصف الثاني من 2016.
قد لا يختلف الخبر الثاني عن الأول كثيرًا ولكنه صارخ بشكل مخيف، حيث إن نسب التراجع كبيرة جدًا، مقابل نسب تضخم مرعبة في الأسعار، وهو ما يشير إلى أن الاقتصاد الحقيقي ينتظر الأسوأ في الأيام القادمة، وهو بالطبع ما سيلقي بظلاله على العملة المصرية التي لن تجد ما يمنعها من السقوط أكثر.
الخلاصة هي أن المشهد الآن بين المعاملات البنكية السوداء وتدهور أوضاع الاقتصاد الحقيقي ضبابيًا، وانتظار التحسن في هذا التوقيت قد يكون آمالاً بعيدة المنال، لكن يبقى التذبذب سيد الموقف، وقد يكون هذا أكبر شيء يدعو للقلق، فلا يمكن أن ننتظر الاستثمار في ظل هذا التذبذب ولا يمكن أن تشهد الصناعة أو السياحة أو غيرها تحسنًا يذكر في ظل هذا الوضع المتذبذب.