عرضت شبكة الجزيرة الإخبارية، فيلمًا وثائقيًا، يحكي واقع المجندين إجباريًا بالجيش المصري من جنود وضباط احتياط تراوحت مدد خدمتهم داخل أروقة القوات المسلحة المصرية بين العام والثلاثة أعوام، ويسرد الفيلم حكايات عن واقع هذا التجنيد، الذي حُوّل، حسب شهادات المجندين بالفيلم، إلى عمالة بالسخرة في المشاريع التي يحصل الجيش على امتياز إنشائها، وفروع الخدمة العامة، أو حتى تلك المواقف التي أرهقت الجنود بلا أدنى داعٍ قتالي، وهو السبب الذي يتم لأجله أصلًا تجنيد هؤلاء “العساكر”.
كما يحكي الفيلم منهجية وأسلوب تعامل الرّتب الأعلى من ضباط وصف الضباط مع العساكر والإمعان في إهانتهم بشكل يُنسي العساكر إن كانت لهم كرامة أم لا، بل إن عليهم أن يخلعوها على بوابة المعسكر، حسب وصف أحد ضيوف الفيلم.
مجند سابق: كفاية إهانة
هذا الفيلم وثّق الحالة التي يمرّ بها العسكري منذ دخوله للجيش وحتى خروجه منه، يقول مسعود (اسم مستعار) وهو مجند سابق بالجيش المصري أنهى خدمته قبل عام لنون بوست: “أحسست بنسبة مائة بالمائة أن هذا الفيلم يمثلني، هؤلاء المجندون قاموا بحكاية جزء كبير للغاية مما مررت به في فترة خدمتي”، سألناه عن جزء من المعلومات التي وردت في سياق الفيلم، فأجاب “سمعت كثيرًا عن حالات الانتحار في أثناء فترة الخدمة، لم أتعرّض لإهانة شديدة في أثناء تجنيدي، لكني شاهدت زملاءً كُثر يتعرضون للإهانة دائمًا، وأعني بالإهانة كل أشكال وأنواع الضرب والسب”.
“أعتقد أن الفيلم سيسبب نوعًا من تحسين أوضاع الجنود داخل الجيش، فالضجّة التي أحدثها الفيلم في المجتمع المصري، يمكن أن تكون مصدرًا وسببًا لإلقاء الضوء على مشاكل العساكر”، يقول مسعود، لكنه يعود ليؤكد على “غباء” عقلية الدولة المصرية في التعامل مع هذه القضايا، حسب وصفه، مشيرًا أن مثال تعامل الدولة وأجهزتها مع هذه القضايا يظهر في الدعايا المضادة التي صاحبت الإعلان عن الفيلم قائلًا: “بهذا الشكل تتعامل العقلية العسكرية، مع المشاكل، لا دراسة موضوعية للأزمة، ولا وضع خطط لحلها، كُل شيء على ما يرام، حتى وإن كان الواقع مخالف لذلك”.
ويطالب مسعود، وسائل الإعلام المصرية، بالتوقّف عن نقل الصورة الوردية لواقع الجنود داخل الجيش، فما تنشره وسائل الإعلام المصرية، منافيًا تمامًا للواقع “أي واحد دخل الجيش عارف إيه الي بيحصل جوا”، كما يطالب وسائل الإعلام بشكل عام، بالاستمرار في نقل الواقع كما هو، “لازم يتم الضغط على قيادات المؤسسة العسكرية عشان التعامل مع العساكر يتحسن عالاقل، هو مستحيل يتحسن بنسبة مائة بالمائة بس عالاقل الإهانة تقل”.
حكاياتٌ كثيرة
محمود، اسم مستعار لمجند سابق قضى فترة تجنيده بالجيش المصري برتبة ضابط احتياط، يُصرّح محمود لنون بوست قائلًا: “الفيلم كخطوط عريضة أو عناوين يعبر عن واقع مهم يحدث داخل جدران معسكرات الجيش، لكن دقائق معدودة لا تكفي لسرد كثير من القصص والمواقف التي كانت تحدث وما زالت”، ويضيف “أي حد خدم في الجيش ميقدرش ينكر أي حاجة من اللي اتعرضت، بل هيقول لك ما خفي أعظم”.
ويؤكد محمود أن أهمية هذا الفيلم، أيًا كان تقييمه، تكمن في أنه حجر أُلقي في ماءٍ راكد، منذ ستين عامًا، وأنه أوصل جزءًا من الخفايا التي بقيت مستترة لكثير من الأعوام، هو شخصيًا، أعادت له الحكايات التي وردت في الفيلم بعض من ذكرياته في أثناء فترة الخدمة التي يُجبر الملايين من المصريين عليها، قائلاً: “من غير شهادة التجنيد، محدش هيقدر يسافر ولا يشتغل”.
ويقول ضابط الاحتياط لنون بوست: “رغم ما ورد في الفيلم، من حكايات مؤلمة إلا أنه لم يأت بجديد، وبعيدًا عن الخلافات السياسية، والموقف من النظام، فإن المؤيد قبل المعارض، سيخبرك بما هو أسوأ مما أتى به الفيلم”.
ممنوع الاقتراب أو التصوير
فكما أن المصريين يحفظون هذه الجملة التي تدون على حوائط كل المنشئات العسكرية في مصر، فإن هذه القضية أيضًا يمكن تصنيفها ضمن الـ”ممنوع من الاقتراب أو التصوير أو الكلام” رغم أنها تمس حياة الملايين، كما يرى مصطفى الأعصر، الباحث المهتم بقضايا التجنيد الإجباري في مصر، مؤكدًا أنه حتى الحق في الاعتراض الضميري الذي كفلته تشريعات حقوق الإنسان لا يستطيع المواطن المصري القيام به.
هذه المرحلة التي يعيشها المجندون في الكتائب والوحدات الخاصة، تدفع الأعصر المجند السابق، للتأكيد على أنه من الصعب على كثيرين تجاوز هذه الفترة وهو واحد من هؤلاء رغم أنه قد أنهى مدته قبل عامين وانخرط في كثير من النشاطات، لكنه ما زال غير قادر على تجاوز هذه المرحلة.
وبعيدًا عن فيلم العساكر وما سبقه من مواد صحفية وإعلامية تتعلق بالتجنيد الإجباري، فإن الأعصر، يرى أنه وإن كان من المهم نشر قصص المجندين والانتهاكات التي يتعرضون لها ورصد الواقع السيء الذي يعيشون فيه، فإنه من المهم أيضًا، وضع بدائل لهذه المعضلة الكبيرة التي تؤرق حياة الملايين من الشباب المصري، ويقول لنون بوست: “نواجه دائمًا بالجملة المعتادة (إيه البديل) في أثناء حديثنا عن الواقع المزري لحالة المجندين في مصر، فطرح المشكلة كمشكلة مجردة، هو جزء هام من حلها، لكن المشكلة كمشكلة مجردة ينقصها وضع حل عملي وواقعي لإنهائها”.