البنادق وحدها لا تبني الأمم

o-iraq-violence-kills-460-facebook

اقترب العراق كثيرًا من تحقيق النصر على الإرهاب، وتحرير الأراضي المتبقية من داعش، والتكهنات في مجملها على ضرورة إيجاد حلول استراتيجية لمرحلة ما بعد الموصل، ويتفق معظم العراقيين – إن لم يكن كلهم – على أن الفكر لا يمكن القضاء عليه بالسلاح، وأن البنادق لا تبني الأوطان، والرصاص يُشترى بالبترول، والحروب مهما طالت فلا بد من نهاية، والدبلوماسية والحرب وجهان لعملة مصالح الشعوب، وتعثر الدبلوماسية يؤدي إلى الصراعات، والصراعات لا تنهيها إلاّ الحوارات وتقارب الأفكار، لا سيما تلك التي تحمل في طياتها دوافع فكرية، إلاّ أن الفرق كبير بين الحديث وأنت منتصر أو كلامك وأنت منكسر، الأولى تُملي شروطك والثانية يُملى عليك. 

تخلصت دول كثيرة من الصراعات الطائفية والقومية بالتسويات التاريخية، بدءًا من أوربا ومرورًا بنيلسون مانديلا، إلى الصراعات القبلية والعنصرية.

يحدثنا التاريخ عن قصص عالقة في مخيلة الشعوب، تتحدث عن السلام والحياة الإنسانية والحكمة، وأن الحوار كزورق نجاة تعبر به الأمم إلى ضفاف البناء وحماية شعوبها، فإن كان الفعل صاخبًا فهو كالمد الذي يتجاوز حدوده ويحطم من يقف بطريقه، وسرعان ما يزول ولا يترك خلفه إلا الخراب، وتتخذ الشعوب في تعليم أبنائها على دراسة سِير من سبقها من شخصيات أبعدت شبح الحروب والنزاعات القومية والطائفية، وفي العراق معاناة حروب وحصار ومقاطعة دولية نتيجة لحروب عبثية وتصرفات طائشة، ومخلفات الظلم امتدت إلى تجذير الإرهاب والعنف.

عند الحديث عن الشواهد التاريخية، لا نذكر بخير أولئك اللذين فرضوا سلطتهم بالقوة، لذلك فإن معظم الشعوب ترفض الفاشية والنازية والقومية والطائفية، والادعاءات التي تفترض انتشار الإسلام بالسيف وجز الرقاب، وما آل له الواقع من تطرف، إلاّ لصراع بين نظرية تؤمن بأن الأديان جاءت للمحبة والسلام ونشر العدالة الاجتماعية، والآخر لا يؤمن بالآخر وينفي أمثلة التسامح والتعاطف وقبول الرأي الآخر وعدم مصادرة الأفكار، فما كان من هذا الفكر إلاّ جزار يذبح على الهوية.

تقول تجارب المسلمين من رسولهم الأعظم، وعند فتح مكة أعلن يوم المرحمة وصيانة الحُرمة، ومن دخل دار العدو أبو سفيان آمن والنتيجة دخول الناس إلى الدين المحمدي أفواجًا، وعندما نقول إن نلسون مانديلا استحق جائزة نوبل للسلام، فهو نتيجة تكابره على عذاباته ومصالحته لأعدائه، وكذلك المهاتما غاندي عندما انتزع الهند كأكبر مستعمرة لبريطانيا بالعقل دون استخدام سلاح.

إن الحديث عما بعد الموصل يحتاج إلى حكمة وعقل ودراسة الواقع بعين المصلحة الوطنية، فالإرهاب جاء بفكر وإن كان منحرفًا فله معتنقيه ومن يعتقدون أن قتل الأبرياء أفضل سُبل العبادة، لذلك ما زرعه لا ينتهي بالسلاح دون مصالحة مجتمعية، واستثمار التقارب بين القوى واتفاقها على أن داعش لا تفرق بين الطوائف والقوميات، ولا رابح من فرقة مكونات العراقيين إلاّ الإرهاب، وبما أن المدن التي احتضنت داعش لفترة أصبحت رافضة طاردة، فهي قوى ضاغطة على ساستها للتقارب الوطني ومنع التشرذم، وسترفض قبل الآخرين من تورط بالإرهاب.

النصر على الإرهاب لا تكتمل ملاحمه دون وجود تقارب بين القوى بصيغ تسويات ووثائق بشرط أن تكون الأطراف تنظر إلى ما بعد التل الأسود الذي خلفته داعش.

يقف العراق في مفترق طريقين، إما الجلوس للحوار والنقاش والتفصيل والمصارحة وإيجاد قوانين مرحلية لمرحلة الانتقال إلى ما بعد داعش، وإلاّ ستجد المجاميع الإرهابية سعة من الراحة للتجذر وتفعيل خلاياها النائمة، وستعيد الدول الداعمة للإرهاب تنظيم تلك المجاميع، وهنا إما أن تتبع القوى سياسة الاحتواء والتنازل المتبادل مع معاقبة من أساء أشد العقوبة ومنعه من العمل السياسي، وإما الذهاب إلى طريق لا عودة لعراق موحد، ومن أجل الوفاء لتلك التضحيات التي لبت نداء مرجعيتها الدينية والوطنية، وهدفها إرساء السلام، لا بد من فعل سياسي يكمل قراءة المستقبل بواقعية، وإلاّ ستُعاد تجربة عدم استثمار الصحوات العشائرية، والنتيجة كانت خلايا إرهابية نائمة بين ظهرانية الساسة، ويطلّون على الأبرياء بمفخخاتهم بعد كل أزمة.

إذًا الأزمات السياسية جزء من ذرائع الإرهاب إن لم تك سببًا له، وبذلك لا حلول إلاّ بتسويات وطنية ومجتمعية، وبالبنادق وحدها لا تستطيع بناء الأمم، وغير ذلك مجتمع متفكك يسمح لنمو جيل أسوأ من داعش وأكثر انتشارًا.