تحتفل الجمهورية الموريتانية بالذكرى السادسة والخمسين لاستقلالها عن فرنسا، اليوم، وسط أجواء من التوتر تشهدها البلاد جرّاء الاحتجاجات المتصاعدة ضد نظام حكم محمد ولد عبد العزيز، والتي تطالب بالإصلاح السياسي والقضاء على الفساد والعدالة الاجتماعية والعمل على تحسين مستوى معيشة الشعب الموريتاني.
الاحتفال بذكرى الاستقلال لا يأتي وسط أجواء التوتر الداخلي فحسب، بل يتزامن هو الآخر مع برودة في العلاقات بين نواكشوط وباريس، في ظل التراشق الإعلامي والسياسي المتبادل من الجانبين في الفترة الأخيرة، لتلوح في الأفق بوادر أزمة جديدة في العلاقات بين البلدين.
60 عامًا تحت الاستعمار
الموقع الجغرافي المتميز لموريتانيا، والذي يمثل حلقة الوصل بين العرب الأفارقة البيض في الشمال، والأفارقة السود في الجنوب، ساهم بشكل كبير في وضعها تحت مجهر عناية الدول المستعمرة منذ قديم الأزل، خاصة وأنها كانت الوسيط التجاري بين العرب وإفريقيا.
عرف الاستعمار طريقه إلى منطقة غرب إفريقيا في بداية القرن الـ15 الميلادي، واستمر على هذا المنوال ما بين الحضور والغياب إلى أن رسخت فرنسا وجودها في هذه المنطقة حين أقدمت على احتلال السنغال عام 1626م.
شهدت العلاقات بين فرنسا وموريتانيا موجات من المواجهات الصدامية منذ احتلال الأخيرة، حيث شنت القبائل المترامية في صحاري وجبال موريتانيا مئات الغارات على مناطق تمركز القوات الفرنسية، اعتمادًا على أسلوب الكر والفر، كما هي طبيعة الحال في المواجهات الصحراوية
وطيلة هذه السنوات كان لفرنسا دور بارز في إعادة رسم وتشكيل ملامح وتضاريس منطقة غرب إفريقيا إلى الجنوب قليلاً، إلا أن العلاقات مع موريتانيا كان لها طابع خاص يختلف عن بقية دول القارة، حيث مرت تلك العلاقات بمرحلتين رئيسيتين:
الأولى: مرحلة ما قبل الاستعمار، وفيها عقدت باريس عشرات الاتفاقيات التجارية والمعاهدات الاقتصادية مع نواكشوط، إضافة إلى إرسال العديد من البعثات الفرنسية الاستكشافية لموريتانيا لتقديم خبراتها في شتى المجالات، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى توغل فرنسي في الشؤون الداخلية الموريتانية.
هذا التوغل تسبب في إثارة الاضطرابات والقلاقل داخل البلاد، أثر بصورة سلبية على حركة التجارة، ما دفع بعض القبائل الموريتانية للهجوم على المراكز التجارية الفرنسية، وهو ما ردت عليه فرنسا باحتلال موريتانيا، وذلك في عام 1900، لتدخل العلاقات بين البلدين مرحلة ثانية من الصدام والمقاومة.
الثانية: مرحلة ما بعد الاستعمار، شهدت العلاقات بين فرنسا وموريتانيا موجات من المواجهات الصدامية منذ احتلال الأخيرة، حيث شنت القبائل المترامية في صحاري وجبال موريتانيا مئات الغارات على مناطق تمركز القوات الفرنسية، اعتمادًا على أسلوب الكر والفر، كما هي طبيعة الحال في المواجهات الصحراوية.
واستمرت حركة المقاومة الوطنية الموريتانية للوجود الفرنسي، وإجهاض مخططاته السياسة والاقتصادية والفكرية منذ عام 1900 إلى أن آثرت فرنسا الخروج والانسحاب عام 1960، خلفت ورائها إرثًا من المقاومة الشاملة التي سجلت اسمها بأحرف من نور في تاريخ موريتانيا الحديث.
أول اجتماع لحكومة موريتانية في أثناء الاستعمار الفرنسي
نواكشوط – باريس.. تعاون يشوبه الحذر
لم يكن خروج المستعمر الفرنسي من موريتانيا خروجًا نهائيًا كما يتوقع البعض، بل اكتفت باريس بالخروج العسكري الشكلي، لكنها أبقت على العلاقات القوية مع نواكشوط وهو ما تجسده الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين في العديد من المجالات الاقتصادية والأمنية.
قدمت فرنسا العديد من المساعدات العسكرية للجيش الموريتاني من أجل التصدي للتهديدات الأمنية التي تواجهه، وهو ما تمثل في تعاون عسكري فرنسي موريتاني تجسد في إرسال بعض الجنود والأسلحة الفرنسية للمشاركة في الحرب ضد أعضاء تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي في مالي، والذي كان يهدد الجانب الموريتاني من الناحية الشرقية والجنوبية.
اللقاء الذي جمع الجنرال جان الويس جور جيلان قائد أركان الجيش الفرنسي، مع نظيره قائد أركان الجيش الموريتاني اللواء محمد ولد الغزواني، والرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، بالقصر الرمادي بنواكشوط، في أكتوبر 2009 كان رسالة واضحة ومباشرة للجميع على حجم التعاون بين الجانبين.
ورغم هذا التعاون فإن العلاقات بين البلدين شابها بعض التوتر منذ وصول محمد لد عبد العزيز إلى الحكم في 2008، وهو ما أرجعه بعض الخبراء إلى تحفظ باريس على سياسات ولد عبد العزيز، والتي تصب في مجملها ضد توجهات فرنسا، خاصة فيما يتعلق بإعادة تأريخ الحقبة الاستعمارية الفرنسية وإبراز دور المقاومة الشعبية والوطنية.
المقاومة الثقافية
من أبرز ما لفت نظر البعض في خطاب الرئيس محمد ولد عبد العزيز بمناسبة الاحتفال بذكرى الاستقلال السادسة والخمسين، تركيزه على مفهوم “المقاومة الثقافية”، وتقدير دور العلماء في هذا الشأن، حيث جاء على لسانه: “بهذه المناسبة السعيدة أتوجه باسمكم جميعًا بالتحية والتقدير إلى كل أولئك الذين قدموا الغالي والنفيس في سبيل تحقيق استقلالنا الوطني، والى أولئك الذين ضحوا ذودًا عن حوزة البلد الترابية وعن حرية وكرامة أبنائه وكذلك إلى كل أولئك الذين بذلوا الجهود الجبارة في سبيل نهضة موريتانيا وتقدمها.
وأخص بالذكر شهداء مقاومتنا الوطنية الأبرار الذين سطروا بدمائهم الزكية ملحمة المجد والفداء، حتى نال البلد استقلاله، وعلماءنا الأجلاء الذين آزروا المقاومة المسلحة بمقاومة ثقافية كان لها الفضل الكبير في صمود ثوابتنا الحضارية والفكرية في وجه الغزو والاستلاب”.
الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز
توتر في العلاقات
تشهد العلاقات الموريتانية الفرنسية في السنوات الأخيرة حالة من المد والجذر، حيث أفاد بعض المراقبين، بأن أجواء العلاقات بين البلدين باتت ملبدة بالغيوم والسحب، بسبب تحفظ الفرنسيين على سياسات نظام ولد عبد العزيز، ولهذا فإن علاقاتهم به تمر ببعض التوتر، في ظل فتح وسائل الإعلام الفرنسية الباب على مصراعيه أمام الساسة المعارضين لعبد العزيز، ليعبروا عن انتقاداتهم له، وهو قرار لا يتم إلا إذا كان قصر “الاليزيه” غير راضٍ عن رئيس موريتانيا، بحسب وسائل إعلام موريتانية.
كما أن بعض المصادر سجلت عددًا من الشواهد التي ترجح توتر العلاقات بين الجانبين، وهو ما يتجسد بصورة واضحة في رد السلطات الموريتانية على بيان سفارة فرنسا بشأن اغتصاب سيدة فرنسية تقدم دروسًا خصوصية لبعض الأسر في نواكشوط، حيث اعتبر مسؤول أمني رفيع أن السفارة بالغت في حجم القضية التي لا تعدو كونها حادثًا عاديًا.
أفاد بعض المراقبين، بأن أجواء العلاقات بين البلدين باتت ملبدة بالغيوم والسحب، بسبب تحفظ الفرنسيين على سياسات نظام ولد عبد العزيز
هذا البيان رافقه بيان آخر من السفارة الأمريكية بشأن تقارير عن هجمات إرهابية محتملة في البلدان، وهو ما اعتبرته نواكشوط حملة غربية ممنهجة ضدها وضد سياسة رئيسها الحاكم، وعلى الرغم من أن سفارة فرنسا قد أصرت على أن بيانها لا علاقة له ببيان السفارة الأمريكية، فالربط بينهما دفع موريتانيا إلى إعادة تقييم علاقتها بباريس.
الرئيس الموريتاني في أكثر من مناسبة عبر عن رغبته في إعادة النظر في التاريخ الاستعماري، حيث أكد عزمه على “إعادة كتابة” تاريخ البلدين، يتعلق الأمر بإعادة إبراز المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، بل إن هناك إشاعات تتحدث عن استدعاء وزارة الخارجية لسفير فرنسا في نواكشوط، لإبلاغه بالاستياء من البيان الآخير.
المعارض الموريتاني بيرام ولد أعبيد
ولم يكن بيان السفارة هو السبب الوحيد لفتور العلاقات بين البلدين، إلا أنه يعد القشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة وقد سبقه بعض الإجراءات والمواقف الفرنسية التي استفزت السلطات الموريتانية، كان آخرها استقبال المعارض بيرام ولد أعبيد من قبل المسؤولين الفرنسيين، وهو ما اعتبرته نواكشوط عملاً غير مقبول، إضافة إلى تجاهل رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، موريتانيا، خلال جولته في غرب إفريقيا، رغم كون البلدين لديهما علاقات واسعة في التعاون في المجال الأمني.
الكاتب الموريتاني عبدالله مولود، في تقرير له أشار إلى أن العلاقات الموريتانية الفرنسية تمر بحالة من البرودة المستغربة، يرى البعض أنها مؤشر توتر في علاقات ظلت جيدة على مستويات عدة منذ أن وصل الرئيس محمد عبد العزيز للسلطة عام 2008 بتأييد فرنسي.
التقرير المنشور تناول ما قاله موسى ولد حامد المدير الناشر لصحيفة “بلادي” خلال إحدى البرامج التلفزيونية من “أن العلاقات الموريتانية الفرنسية مشوبة بمسحة جمود”، معتبرًا أن سبب ذلك غير واضح وقد يكون سبب التوتر عائدًا للوثائق المنشورة التي تؤكد وجود اتفاق مهادنة بين نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز وتنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي.
وذهب ولد حامد وهو من كبار الصحافيين الفرانكفونيين الموريتانيين إلى القول بأن الدوائر الغربية المهتمة برصد ومكافحة النشاط الإرهابي في الساحل والتي كانت تعتبر الرئيس الموريتاني شريكها الأول في هذا المجال غير مرتاحة بل مصدومة إزاء ما يشاع بخصوص الهدنة مع تنظيم القاعدة التي يعتقد البعض أن لقادتها حرية التحرك في موريتانيا، بل ولهم التمتع بأموالهم كذلك، حسب قوله.
وفي الجانب الآخر، نشرت صحيفة “لا لتردي كونتناه” القريبة من الدوائر الاستخباراتية الفرنسية، في عددها الإلكتروني الأخير عن توتر ملحوظ في العلاقات بين باريس ونواكشوط، ملفتة أن من مظاهر هذا التوتر تركيز السفير الفرنسي بنواكشوط جوييل مويير على انتقاد الانفلات الأمني في موريتانيا، مشككًا في قدرات نظام الرئيس ولد عبد العزيز على ضبط الأمن الداخلي للبلاد، كما اعتبرت الصحيفة أن من مظاهر هذا التوتر الأسلوب الذي رد به الوزير الناطق باسم الحكومة محمد الأمين ولد الشيخ على التحذيرات الفرنسية حيث وصفها بـ”غير الودية”.
الدوائر الغربية المهتمة برصد ومكافحة النشاط الإرهابي في الساحل والتي كانت تعتبر الرئيس الموريتاني شريكها الأول في هذا المجال غير مرتاحة بل مصدومة إزاء ما يشاع بخصوص الهدنة مع تنظيم القاعدة
الصحيفة الفرنسية أشارت أيضًا كما ذكر التقرير، إلى تصريحات الرئيس الموريتاني بشأن إعادة كتابة التاريخ الموريتاني، إضافة إلى التركيز على مقاومة الاستعمار، وانتقاد الحقبة الاستعمارية الفرنسية، وهو ما فسره المراقبون بأنه سخط من الرئيس الموريتاني على الفرنسيين في الفترة الحالية لأسباب غير معروفة لكنها تشير، حسب المراقبين، لتوتر في العلاقات.
هكذا وبعد 60 عامًا من الاستعمار فضلاً عن 56 أخرى من الشد والجذب، ماذا يمكن أن تكون عليه شكل العلاقات الموريتانية الفرنسية مستقبلاً في ظل هذا التوتر؟ وهل سيكون للتطورات والمستجدات الإقليمية والدولية والتي أعادت بشكل كبير رسم ملامح خارطة التحالفات في المنطقة، دور في إعادة تقييم باريس ونواكشوط لعلاقاتهما بما يضمن لهما مزيدًا من التعاون والاستقلالية في آن واحد؟