خلال حملته الانتخابية أطلق ترامب سيلا هائلا من التصريحات والوعود حول قضايا داخلية وأخرى خارجية، من منع المسلمين من دخول الأراضي الأمريكية ومراجعة العلاقة بالناتو واتفاقية التجارة الحرة، إلى الاتفاق النووي مع إيران وتحويل السفارة الأمريكية إلى القدس وغيرها من الشعارات المثيرة للجدل.
لكن الحقيقة هي أنه من الصعب على الرئيس الأمريكي أن ينفذ كل التعهدات التي وعد بها، فثمة مسافة كبيرة بين ما قد يرغب فيه وما يستطيع فعله واقعا، للاعتبارات الثلاثة التالية على الأقل:
أولا، أن طبيعة التوازنات الدولية وما تتسم به من تنافس وتعقيد لن تسمح لترامب بتنفيذ أجندته السياسية، في حال بقي مصمما على تنفيذها. لقد شهد العالم خلال العقدين الأخيرين على الأقل متغيرات نوعية حدت من قدرة القوة الأمريكية على الانفراد والهيمنة، سواءً بسبب الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها الأمريكان بكثرة مغامراتهم العسكرية الفاشلة في الشرق الأوسط خصوصا، أم بسبب تمكن قوى دولية وإقليمية أخرى من تعزيز وضعها العسكري والاقتصادي على حساب القوة الأمريكية.
الولايات المتحدة اليوم لاعب من بين لاعبين دوليين عدة، وإن كانت لا تزال الأقوى بين هؤلاء
الولايات المتحدة اليوم لاعب من بين لاعبين دوليين عدة، وإن كانت لا تزال الأقوى بين هؤلاء. الروس مثلا تمكنوا من استغلال حالة الارتباك والتراجع الأمريكيين من تعزيز وضعهم واستعادة بعض مواقعهم المفقودة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. بدأوا بمحيطهم الإقليمي المباشر في البلطيق والبلقان وآسيا الوسطى، ثم عملوا على اتباع خطة هجومية في سوريا ونقاط أخرى من الشرق الأوسط.
أما الصينيون فقد عملوا على تعزيز وضعهم العسكري من خلال الترفيع الكبير في مستويات الإنفاق العسكري، بمعدل 7-8% في 2016 (150 بليون دولار) وتعزيز مكانتهم الاقتصادية، والأهم من كل ذلك أنهم نجحوا في تطويق الحصار البحري الذي تحاول القوى الغربية فرضه عليهم، من خلال توسيع مواقع تواجدهم البحري والسعي لبناء حزام من الموانئ البحرية في دول الجوار.
وشهدت الحقبة الماضية صعود قوى دولية وإقليمية مؤثرة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وإيران وتركيا، تمكنت من بسط نفوذها على مساحات واسعة من محيطها الإقليمي في ظل تراجع أمريكي مطرد.
باختصار، العالم اليوم ليس العالم الذي ورثه جورج بوش الابن وفريقه من المحافظين الجدد قبل ما يزيد على عقد ونصف من الزمن، بل هو ساحة تتصارع فيها قوى متعددة لديها طموحاتها الخاصة وإمكاناتها الاقتصادية والسياسية.
ثانيا: رغم أن كل رئيس أمريكي يترك بصماته في مجال السياسة الخارجية فإن المؤسسة السياسية والعسكرية ورجال الأجهزة المدربين يظلون هم الصانع الرئيسي للتوجهات الخارجية الأمريكية. ترامب لن يتجاوز الخطوط العامة التي يرسمها رجال البنتاغون والمخابرات والكونغرس والبرلمان، إلى جانب المؤسسات التعديلية الأمريكية. هذه الهيئات الحارسة للمصالح القومية الأمريكية لن تدعه طليق اليدين في ملفات الداخل والخارج، وإن كان تبوؤه الحكم يعكس بدوره الانقسام الحاصل في مراكز القوى الأمريكية، بما فيها جهاز الاستخبارات، الذي عرّاه التضارب حول ما سمي بقضية بنغازي المنسوبة لكلينتون.
ثالثا: من الصعب على الإدارة الأمريكية، مهما كانت اندفاعاتها السياسية والأيديولوجية، أن تعود إلى المغامرات العسكرية للمحافظين الجدد الذين اجتاحوا أفغانستان ثم العراق وراهنوا على تغيير العقيدة الأمنية الأمريكية من خلال الضربات الاستباقية والحق في التدخل العسكري. أمريكا مازالت تعاني من مخلفات تدخلات عسكرية فاشلة في المنطقة كانت كلفتها باهضة بشريا وماليا وعلى صعيد مكانتها الدولية. الحقيقة أن سياسة الانسحاب التي انتهجها أوباما كانت نتيجة إكراهات التوازنات الدولية الراهنة أكثر من كونها خيارات فردية.
لا يستبعد أن تقدم إدارة ترامب على قدر محدود من التدخل العسكري في علاقة بملف داعش والإرهاب
لا يستبعد أن تقدم إدارة ترامب على قدر محدود من التدخل العسكري في علاقة بملف داعش والإرهاب، استمرارا مع خط أوباما الذي دفع بعدد محدود من القوات الأمريكية في العراق وسوريا إلى جانب تواجد سابق في أفغانستان.
نحن إزاء وضع دولي بالغ التقلب لم يعد معه في مقدور أي قوة مهما كانت إمكاناتها ضبط إيقاعه. هذا ما يفسر سرعة تغير الصراعات وحتى التحالفات السياسية، بما يجعل دوائر الصراع والتحالف موضعية وحتى موقتة. الأتراك مثلا يشتبكون مع الروس في حلب ولكنهم ربما يلتقون معهم في الموصل وفِي خط الأنابيب النفطية باتجاه أوروبا. الأمريكان يتصادمون مع الروس في أوكرانيا وسوريا، لكنهم يتحالفون معهم ضد داعش وغيرها في مواقع أخرى، أو في إسناد الحليف الإسرائيلي. الجميع يقف اليوم على أرضية مهتزة في خضم معادلات دولية وإقليمية بالغة التقلب.
ربما يبقى الشرق الأوسط المنطقة الوحيدة التي يستطيع ان يغامر ترامب فيها بعض الشيء بحكم حالة الفراغ التي تتخبط فيها أوضاعها الهشة. الأرجح أن نرى الرئيس الأمريكي يطلق يدي إسرائيل لمزيدٍ من التوسع الاستيطاني وشن الحروب الانتقامية في غزة ومزيد خنق للقدس ومحاصرة للضفة، إضافة إلى مزيد من الابتزاز المالي لدول الخليج بحجة الدفاع عن أمنها.
تعيينات ترامب الأخيرة تؤشر بقوة على عودة الاهتمام بالشرق الأوسط برؤية عدائية متشددة، ويبدو ذلك جليا من خلال الأسماء التي تم انتدابها للمواقع الحساسة المتعلقة بالأمن القومى الأمريكي التي تشترك في نظرة قدحية واختزالية متطرفة للمنطقة، وعلى رأسها مايكل فليين مستشار الأمن القومي الجديد الذي سبق له أن وصف الإسلام بالسرطان.
ما كشفته الانتخابات الأمريكية بصورة مكثفة جلية هو الاستقطاب الذي يشق المجتمع الأمريكي والانقسام العميق بين نخبه في الملفات الكبرى التي تتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بقي التنافس السياسي في أمريكا والدول الغربية يدور بين أحزاب سياسية يمينية ويسارية نحت نحو الوسط، بعد أن تم احتواء القوى الشيوعية ودفعها للتكيف مع المنظومة الليبرالية.
وفِي مناخات الحرب الباردة نجحت الديمقراطية في بناء أسس الإجماع السياسي حول القضايا الكبرى، فغدت اللعبة السياسة ضربا من المنافسة بين الشبيه وشبيهه. هذا ساهم في استقرار النظام السياسي ومأسسة جملة من الخيارات السياسية والاقتصادية في إطار المؤسسة الرسمية أو the establishment.
بيد أن انعدام الفروقات الجوهرية بين ما هو مطروح على الساحة السياسية ولد حالة من المبالاة والعزوف عن السياسة لدى الناخب في العواصم الغربية، وأنتج قنوطا من إمكانية تغيير أوضاع آخذة في التعقد والتردي.
ما نراه الْيَوم هو تنام للأصوات الجذرية الغاضبة يمينا ويسارا، سواء داخل الأحزاب السياسية التقليدية وعلى تخومها، أم خارجها. لا يمكن فهم ظاهرة صعود ترامب داخل الحزب الجمهوري ثم فوزه في الانتخابات الأمريكية، أو صعود جيرمي كوربن اليساري الراديكالي المعتق الذي أحدث انتخابه رجة هائلة داخل حزب العمال البريطاني، أو بروز أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية خارج هذا السياق.
الديمقراطيات الغربية تعيش اليوم أزمة هوية عميقة في عالم شديد التقلب والمنافسة لم تعد تتحكم في اتجاهه ولا في وتيرة سيره، ما من شأنه أن يعمق الانقسامات بين النخب السياسية وداخل النسيج المجتمعي.
نحن لا ندري كيف ستحمي الديمقراطيات الغربية نفسها في مواجهة هذه العواصف الهوجاء، في ظل استفحال الصعوبات الاقتصادية وتدني مستوى المعيشة والرفاه العام و صعود أحزاب اليمين المتشدد وتعمق أزمات الهوية وتراجع المناخ الليبرالي الذي فرض نفسه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لا أحد يدري في الحقيقة إلى أي مدى ستصمد القيم الليبرالية الجميلة في واقع غير ليبرالي يزداد قبحا يوما بعد يوم.
المصدر: عربي٢١