ما من شك أن السؤال الأهم في أروقة الأجهزة الأمنية والحزبية يتعلق بنسبة نجاح العصيان المدني، وسيمتد الاهتمام للبعثات الدبلوماسية وعملاء المخابرات الذين انهمكوا في مراقبة ما جرى ويجري في شوارع الخرطوم والمدن الرئيسية الأخرى، لم يكن الأمر مجرد أماني معارضين ترفعها لأقصى مدى، أو تطمينات مؤيدين تنفيها جملة وتفصيلًا، بل كانت أرقامًا تخضع لحسابات دقيقة لا تعرف شيئًا مما سبق.
ولكن الجواب السهل لهذا السؤال الصعب يكمن في معرفة أن الميني حافلة “كريز” والتي تتسع لأحد عشر راكبًا، كانت تستغرق نحو نصف دقيقة لتمتلئ في ساعات الذروة بـ”جاكسون” الموقف الرئيسي بالخرطوم ولكنها بالأمس كانت تحتاج لنصف ساعة ليكتمل عدد ركابها في ذات التوقيت، مع أن الأحد كان يمثل أول الأسبوع وهو أكثر الأيام ازدحامًا.
بينما لم تستغرق الرحلة من “جاكسون” إلى إحدى الحارات في الثورة أم درمان سوى 12 دقيقة – نحو 20 كلم -، في وقت كانت هذه الرحلة تستغرق نحو الساعة والنصف بسبب اكتظاظ حركة المرور في هذا التوقيت.
(2)
يعتقد خبراء السياسة أن ثمة لحظات مفصلية في العمل الجماهيري تمثل منعطفات تاريخية يمكن أن تغير دفة الأحداث، أبرزها ما يعرف بالخيارات الصفرية، وهو يعني أن تصل الجماهير لقناعة راسخة ألا سبيل للعيش في ظل النظام الراهن، فتسعى لتغييره بما تمتلك من أدوات وما خبرته من تكتيكات، مستعينة بقيادة رشيدة محل ثقة واعتبار، تستخدم حزمة من الخيارات التي توجه عدد من الضربات للنظام يتوقف استمراره على وقتها وعلى رسوخ جذوره.
(3)
ما يحدث حاليًا في السودان يبدو مختلفًا عما ألفته الحياة السياسية، لعدة اعتبارات أولها يتعلق بالقيادة المركزية التي تحظى بتوافق وثقة الجماهير كما هو الحل في “جبهة الهيئات” ثورة أكتوبر 1964، و”التجمع الوطني” ثورة مارس – أبريل 1985، إضافة لغياب قيادات الطبقة الوسطى وفعالية النقابات التي باتت حاليًا تحت سيطرة النظام الحاكم.
ولكن في المقابل يبدو أن الجماهير وصلت لمرحلة “الغضب الصفري”، مما دفعها لتجاوز كل النظريات المألوفة، فاختطت لنفسها طريقًا جديدًا، قد لا يكون مألوفًا لقطاعات واسعة من الشعب خاصة من نشأوا بعد انتفاضة 1985، حيث كانت التظاهرات هي الأكثر استخدامًا.
وللعصيان المدني أو “العصيان المواطني” تكتيكات تدرس، قد لا تكون معروفة لمعظم من ينشطون في هذا الحراك، فعند اللجوء لاستخدام نمط فعال من العصيان المدني قد يتم اللجوء إلى المخالفة العمدية لبعض القوانين، مثل سد الطرق على نحو سلمي أو احتلال منشآت بشكل مخالف للقانون، ويمارس المحتجون هذا النوع من الشغب غير العنيف بهدف دفع السلطات إلى اعتقالهم أو حتى مهاجمتهم أو الاعتداء عليهم، وعادة ما يتلقى المحتجون تدريبات مسبقة على كيفية التصرف عند اعتقالهم أو مهاجمتهم بحيث تأتي أفعالهم بمسلك ينم عن مقاومة ورفض هادئين للسلطة لكن دون تهديد ودون اعتداء ولو حتى بغرض الدفاع عن النفس.
لكن يبدو أن انسداد الأفق السياسي والاقتصادي دفع لتبني خيار المقاطعة الذي تبدو الجهة التي أطلقته غير معروفة، حيث لم تتبن أي جهة سياسية أو شبابية ناشطة الدعوة، وظهر الأمر على مواقع التواصل الاجتماعي في ظل الحملة الداعية لمواجهة الحكومة “سلميًا” احتجاجًا على غلاء الأسعار.
(4)
يمثل العصيان المدني أحد الطرق التي ثار بها الناس على القوانين غير العادلة، واستخدم في حركات مقاومة سلمية عديدة موثقة، في الهند (مثل حملات غاندي من أجل العدالة الاجتماعية وحملاته من أجل استقلال الهند عن الإمبراطورية البريطانية)، وفي جنوب إفريقيا في مقاومة الفصل العنصري، وفي حركة الحقوق المدنية الأمريكية، فضلاً عن استخدم الثوار العصيان المدني فيما عرف إجمالاً بالثورات الملونة التي غشيت دولاً شيوعية سابقة في وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا.
يبدو أن العصيان الأخير أشبه بالتجربة الهندية منه بالتجارب السودانية المعروفة التي درجت على تزامن هذا العصيان مع نزول للتظاهر في الشوارع، فبدا الأمر مشوشًا عما اعتادته السلطات، فلجأت لمحاولة طمس أي شكل من أشكال العصيان في شوارع الخرطوم والمدن الأخرى، خاصة مع عدم وضوح قيادة واضحة للحراك لتقوم بتوقيفها لتعطيله، فبدا الاستعداد الأمني أقرب لمواجهة التظاهرات، التي هي الأقرب لما ألفته السلطات وعرفت كيف تتصدى له.
(5)
في كل الأحوال يمكن القول إن الحراك نجح في تحقيق العديد من المكاسب في الصراع مع النظام، بأقل مجهود، علاوة على اكتسابه ثقة كسر بها حاجز الخوف من السلطة، الأمر الذي يعني أن سلاح العصيان سيكون خيارًا في أي مواجهة قادمة، ومن الممكن إحداث بعض التكتيات الجديدة التي تزيد من فعاليته.
فيما تكبدت السلطات العديد من الخسائر التي ربما لم تكن في حساباتها، أولها إفشال المجهودات الدبلوماسية الكبيرة التي جرت في الفترة الأخيرة للانفتاح على دول الغرب وعلى رأسها أمريكا بالتأكيد على استقرار الأوضاع في السودان ومحاولة جذب الاستثمارات، إضافة لهز صورة ثبات النظام السوداني وقدرته على حماية الأمن في الإقليم بأثره، ويمتد الأمر ليصل حتى التشكيك في المعارضة باعتبارها لا تعبر تمامًا عن الشعب، كما أن الحراك أعاد جذب وسائل الإعلام الغربية نحو السودان.
الأمر المهم أن الحراك كان خصمًا كبيرًا من رصيد عملية الحوار الوطني التي جرت خلال الفترة الأخيرة، فقد أثبت أن هناك قطاعات شعبية لا تثق في النظام ولا ترى جدوى في الحوار معه، الأمر الذي سيعيد حسابات العديد من القوى السياسية التي كانت تهم بالتوصل لتسوية معه، كحزب الأمة القومي والحركة الشعبية، وسيجعل حوارها مع النظام بشأن تسليم السلطة وليس اقتسامها، ومنذ الآن يعني التقارب مع الحزب الحاكم ابتعاد عن حركة الشارع.
لا سيما أن الأزمة في الأساس تبدو ذات طابع اقتصادي يعتمد على لغة الأرقام التي لا تعرف التجمل، خاصة بعد انهيار مشاريع الإنتاج والنقل الرئيسية، الأمر الذي أدى لحدوث فجوة كبيرة في الميزان التجاري، حيث يصل ميزان الوارد إلى 9 مليون دولار، في مقابل 4 مليون دولار للمنتج مع إمكانية تراجعه في السنوات القادمة، مع تراجع مستمر للعملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية ووصوله لحدود العشرين جنيه مقابل 20 دولارًا.
قد تكون الرسالة الأبلغ للحركة الشعبية التي انكفأت الفترة الأخيرة في البحث عن حلول فردية انكفائية تتعلق بالمنطقتين “النيل الأزرق، وجنوب كردفان”، بينما قد يكون موقف حزب الأمة أفضل نسبيًا بعد رسائل التعبئة النسبية لعضويته.
(6)
يرى البعض أن العصيان ليس سوى نوع من وسائل الاتصال، مجرد وسيلة اتصال، بينما نطاقه يقتصر على وسائل الإعلام التي قد تختار أو لا تختار متابعة الحدث مع توجيه رسالة قد لا تتماشى بالضرورة مع المعنى الذي ربما يرمى إليه النشطاء، لذلك ستسعى الصحف التي تقع تحت سيطرة النظام لإظهار فشل العصيان وعدم تأثر حركة العمل والحياة في المدن، وسيلجأ آخرون للسخرية من الناشطين، إلا أن المعركة الحقيقية ستكون في وسائط التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية.