كانت تلك المرة رحلتي إلى مدينة من أجمل مدن تركيا، والتي يُطلق عليها الأتراك اسم”جوزيل إزمير” أي إزمير الجميلة، ولو كان بيدي أن أختار مدينة أعيش بها في تركيا لاخترتها هي، ليس لأنها تتمتع بمناطق سياحية جاذبة ولا لأنها ثقافيًا قريبة من ثقافتي، فهي سياحيًا ليست بالمدينة التي يرتادها الكثير من السياح، وثقافيًا فهي رمز التغرب فى تركيا ويعدها الكثيرون من أكبر معاقل العلمانية في تركيا، ولكن ما جعلني أحبها هو هدوءها وقلة تكاليف المعيشة بها نسبيًا رغم كونها مدينة متقدمة حديثة، بحرها الذي ذكرني بالإسكندرية، أشجار النخيل التي لن تتركك طول رحلتك بالمدينة والكثير مما جعلني أرتبط بها وأزورها ما يقارب أربع مرات.
عند زيارتي الأولى لها فى سنتي الأولى بتركيا لاحظت عدم انتشار مظاهر التدين مقارنة ببورصة على سبيل المثال، فمن السهل أن ترى ذلك خاصة مع انتشار البارات ومحلات الخمور وقلة المساجد نسبيًا مقارنة بالعديد من المدن الأخرى، وكثرة مظاهر “التفتح” كما يسميه البعض.
كان محل إقامتى بمنطقة “أنجير الطي” التي تمتعت بهدوء خفف من عناء سفري، فجلوسك إلى الشاطئ لتستمع إلى أصوات الأمواج، تداعبها زقزقة عصافير، تقطعها خطوات طفل صغير تمشي من ورائك، كل هذا يكون لوحة موسيقية تضفي سلامًا داخليًا وبسمة ترتسم على وجهك دون أن تشعر بها.
كان أول ما أزوره بإزمير هو ميدان كوناك الشهير وحرصت على التقاط الصور بجانب برج ساعته الأثري الذي شُيد عام 1901 احتفالاً بمرور 25 عامًا على اعتلاء السلطان عبد المجيد العرش، وكانت الساعة هدية من القيصر الألماني آنذاك، ويعتبر هذا الميدان القلب النابض الحي لمدينة إزمير، وهو قريب من ساحل بحر إيجة ويوجد به مول تسوقي كبير جدًا والعديد من الكافيهات المطلة على البحر وعلى مقربة منه تستطيع ركوب المعدية للعبور إلى الطرف الآخر من الشاطئ.
استرحت قليلاً في المقاعد المحيطة بذلك الميدان الهادئ القريب من ساحل بحر إيجة، ولم أجد عناءً في إيجاد طريقي فالطرق سهلة وتؤدي بسهولة لأهدافك، فاتجهت إلى “كمر التي” السوق المفتوحة الكبيرة جدًا، وتجولت فيها لمدة كبيرة ومع ذلك لا تنتهي هذا السوق! وفي أثناء تجولي أعجبتني ساعة تبدو رائعة وقيمة فدخلت هذا المحل الموجود في “السوق” للسؤال عنها ظنًا مني أن وجود المحل في السوق يجعل منها رخيصة بلا شك، وإذا بي أجدها بسبعمائة ليرة، من الواضح أن مفهوم السوق هنا مختلف نوعًا ما!
أكملت طريقي في هذه السوق إلى أن مللت ولا زالت السوق لا تنتهي، فاستدرت لأخرج على الطريق الرئيسي ولكن لفت انتباهي وجود منطقة بها العديد من محلات الأسماك فكانت تلك فرصة رائعة في مدينة بحرية كهذه أن أسترجع ذكريات قديمة بأكلي لوجبة بحرية لن أجد مثلها بسهولة في بورصة!
بعد خروجي إلى الشارع الرئيسي وجدت مصادفة منطقة “أجورا” الأثرية، فاتجهت هناك وهي متحف مفتوح يحتوي على بعض بقايا مقابر أجورا القديمة، وكانت تذكرة دخوله بخمس ليرات وبعد جولة سريعة هنالك والتقاط بعض الصور خرجت من أجورا واتجهت مع الماشين في أحد الطرق الرئيسية لا أعلم إلى أين أتجه ولا ما أفعل وهذا من جمال السفر، تترك نفسك مع الأقدام لتتفاجأ بما تقدمه لك تلك المدينة، ولأن تقسيم مدينة إزمير وخاصة منطقة وسط البلد فيها تقسيمًا رائعًا فلم أته ولم أحتج إلى أسئلة، فقط أمشي بلا دليل وبلا جهة وأصل إلى حيث أريد! وبعد ما يقرب من العشر دقائق من المشي وجدت نفسي أمام محطة قطارات إزمير فدخلت لأسأل عن قطارات إيفيس “مدينة إيفيسوس الأثرية” ومواعيدها حتى أتمكن من الحجز إن تطلب الأمر، ووجدت أن الحجز غير ضروري وأن أول قطار يتجه نحو الساعة الثامنة والنصف أو شيئًا كهذا.
إزمير مدينة كبيرة حقًا، أتذكر أنني سرت لأكثر من ست ساعات دون ملل، فجمال ونظافة الطرق وراحتها تساعدك على المشي لأكثر من ذلك حتى خاصة لمحبي المشي الطويل، اتجهت بعد ذلك إلى منطقة وسط المدينة القريبة من أجورا ووجدت سوقًا أخرى، قطعت منها طريقي لأصل إلى ساحل بحر إيجة متجهًا إلى منطقة السانجاك التي نصحني صديق بزيارتها، لأجد بها تجمعًا للعُشاق، من الظاهر أنه كان مقلبًا من صديقي! ثم اتجهت إلى الطرف الآخر من الشاطئ باستخدام المعدية وعند نزولى مباشرة وجدت شارع كمال باشا الشهير المغلق الذي لا تعبر به السيارات ويحتوي على الكثير من المحلات التجارية والمطاعم والذي يوجد به جو خاص من الحركة والأنوار.
في اليوم اللاحق اتجهت إلى قلعة كاديف وبعد الصعود للأعلى لم نجد أي شيء بذلك المكان سوى تبة تسمح لك بالنظر إلى المدينة من مكان مرتفع وتوجد القلعة بمنطقة شعبية حتى إن البعض نصح بعدم الذهاب إلى هناك مشيًا لاحتمالية التعرض لقطاع الطرق! كانت الشمس حارقة بذلك اليوم، وجدت مسجدًا كان معصمي من الشمس فصليت واسترحت وبعد انتهاء الصلاة وجدت مجموعة من كبار السن يتحدثون لغة لا أفهمها، هي ليست بالتركية، بل هي قريبة للعربية، ولكنني لا أفهم ما يقولون، خمنت أن تكون تلك إحدى لهجات عرب جنوب شرق تركيا الصعبة أو الكردية، لم أعرف ولم أسألهم، ورحلت رغم امتلائي بالفضول لمعرفة تلك اللغة الغريبة!
وعلى الرغم من وجود عدة متاحف في إزمير كمتحف علم الأثار ومتحف أتاتورك ومتحف التاريخ ومتحف التراث في برنوفا ومتحف لطيفة وزبيدة إلا أنني لكثرة تجولي بالمتاحف في تركيا بوجه عام، ولعدم وجود متحف مميز يشد انتباهي قررت ألا أزور أي متحف من تلك المتاحف، حيث يصيبني الملل أحيانًا من زيارة تلك المتاحف التقليدية!
وفي آخر لياليّ بإزمير ذهبت إلى أحد مولات إزمير الكبيرة واستمتعت بتناول حلوى تشيرو الرائعة، والتي لم أجدها إلى الآن في سوى هذا المكان، وهي حلوى إسبانية مقلية ذات طعم شهي ورائع، وعند زيارتك لإزمير، فبالطبع عليك أن تضع زيارة مدينة “إيفيس” في جدول زيارتك، وسنتحدث عنها بشكل أكثر تفصيلاً في مقال لاحق.