في لحظات كتابتي هذا التقرير في صباح الإثنين 28 نوفمبر/ تشرين الثاني كانت فصائل المعارضة المسلحة في داخل شرق مدينة حلب قد سلمت أغلب الأحياء الشمالية لوحدات حماية الشعب الكردي لمحاولة ضمان سلامة المدنيين في هذه المناطق وهي (حي الصاخور، حي بعيدين، حي بستان الباشا، الحيدرية، عين التل، الهلك، الشيخ فارس، حي الزيتونات) بعد أن انهارت الخطوط الدفاعية الأمامية لقوات المعارضة وتوغل النظام داخل مناطق تحت سيطرتهم منذ اندلاع الثورة في سوريا.
خسرت المعارضة أيضًا في هذه الهجمات الشرسة هنانو ومساكن هنانو وحي جبل بدرو، وهو ما جعل النظام على مقربة من فصل مناطق سيطرة المعارضة لقسمين (القسم الذي انسحبت منه المعارضة والقسم الذي توجد به جبهات أشد الموازي للراموسة).
هذه الخريطة في وقتها لم تكن دقيقة، فالنظام لم يكن قد سيطر على الصاخور أو الحيدرية ولكن للتوضيح
من الصعب فهم الأحداث دون استخدام خرائط، لذلك سأحاول أن أستخدم أقل قدر ممكن قد يفيد.
من يتقاتل في حلب؟
فصائل المعارضة المسلحة
العديد من الفصائل المحلية داخل المناطق المحاصرة في مدينة حلب منهم مثلًا الجبهة الشامية وتجمع فاستقم كما أمرت وحركة نور الدين الزنكي وأحرار الشام وآخرين، وقد تنقسم الفصائل الكبرى في المجمل بين اتجاهين وهما: جيش الفتح (يضم أغلب الفصائل الإسلامية وأبرزهم فتح الشام أو جبهة النصرة سابقًا وحركة أحرار الشام) وغرفة عمليات فتح حلب.
قوات النظام السوري
ويجدر التنبيه هنا إلى عدم وجود “جيش سوري” بالمعنى الفعلي، فقوات النظام السوري هي عبارة عن مليشيات مقاتلة أجنبية وعناصر تم تجنيدهم بعد اندلاع الثورة السورية في 15 من آذار/ مارس عام 2011 ومنهم على سبيل المثال حركة النجباء العراقية ولواء أبو الفضل العباس وحزب الله اللبناني ولواء القدس الفلسطيني ومليشيات زينبيون الباكستانية وفاطميون الأفغانية وبالطبع الحرس الثوري الإيراني ومليشيات أخرى.
وحدات حماية الشعب الكردي (YPG)
وهي الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي PYD المحسوب على حزب العمال الكردستاني PKK العامل في شمال العراق وتركيا.
وللتنويه فقط سنذكر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) للتذكير بعدم وجود أي سيطرة له داخل هذه المناطق على عكس ادعاءات البروباجندا الإعلامية الروسية حليف بشار الأسد الأقوى وحتى آخر وجود للتنظيم في شمال شرق مدينة الباب كانت “مدرسة المشاة” وسلمها للنظام مؤخرًا قبل انسحابه لمواجهة عملية درع الفرات المدعومة من الجيش التركي لفصائل من الجيش السوري الحر الداعية للسيطرة على مدينة الباب.
روسيا
وهي حليف النظام السوري الأقوى في الغالب أكثر من إيران والأمر لا يقتصر على دعمها الجوي غير المشروط وتدخلها العسكري الصريح في سوريا سبتمبر2015 ولكن في الدعم السياسي المستمر في مجلس الأمن الذي منع المدنيين والمعارضة الحصول على الكثير من الدعم وجنب النظام الكثير من العقوبات.
في أواخر سبتمبر 2015 قامت وحدات الحماية الكردية بعد اشتباكات مع فصائل المعارضة المسلحة بالسيطرة على حي الشيخ مقصود أحد أحياء مدينة حلب المطل على طريق الكاستيلو فأصبح الطريق بين قصف النظام والوحدات مما صعب حركة التنقل ونقل الإمدادات العسكرية والإنسانية.
خريطة لأوضاع السيطرة في مدينة حلب نشرتها مؤسسة عمران في 2 من آب/ أغسطس 2016
بعد خسارة الفصائل المسلحة لحي بني زيد في يوليو/ تموز من العام الحالي ومجمع الكاستلو وتل جبين (المطل على طريق إمداد المعارضة الوحيد) ومزارع الملاح وغيرهم لصالح قوات النظام ومجمع السكن الشبابي لصالح وحدات حماية الشعب الكردي تم فرض الحصار على مدينة حلب بشكل شبه كامل مما عرض مئات الآلاف من المدنيين للجوع والقتل تحت الحصار حيث لم يتوقف قصف الطيران السوري/ الروسي على المدينة بكل أنواع الأسلحة من البراميل المتفجرة (سلاح يقال إن صاحب فكرته هو سهيل الحسن الملقب بالنمر قائد فرقة النمر) حتى القنابل العنقودية وقنابل غاز الكلور والفسفور المحرمين دوليًا.
كانت جبهات مدينة حلب الداخلية كما جبهات كثيرة يتبادل النظام والمعارضة السيطرة عليها بعد اشتباكات عنيفة دومًا ولكن لم يكن للنظام سيطرة كاملة عليها أبدًا حتى الانهيارات الأخيرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
للتوضيح: القتال في سوريا قتال غير متكافئ من حيث دعم الحلفاء والطيران الحربي وعدم وجود وسائل من الداعمين للتصدي له.
ملحمة حلب الكبرى
في مايو/ آيار من العام الحالي كانت فصائل إسلامية محسوبة على جيش الفتح وفصائل من الجيش الحر قد بدأت بالتحرك من ريف حلب الجنوبي والسيطرة على مناطق تحت سيطرة النظام السوري وجبهات قتال مباشرة مع الحرس السوري الإيراني ومنها العيس وخان طومان وصوامعها والخالدية والقراصي وغيرها في حملة موسعة تحركت من ريف حلب الجنوبي.
بعد الإعلان عن بدء “ملحمة حلب الكبرى” التي كانت تهدف لفك الحصار عن المدينة استطاعت قوات المعارضة أن تتقدم من الريف الجنوبي ووصلت إلى كتيبة الصواريخ ومدرسة الحكمة أحد حصون نظام الأسد التي تهاوت بعد هجوم مزدوج بعربتين مفخختين من مقاتليين في جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا وفرع تنظيم القاعدة قبل إعلان فك الارتباط التنظيمي مؤخرًا) وتقدم المقاتلون ناحية كلية مدفعية الراموسة والجوية والتلال المحيطة ومشروع الـ1070 شقة.
وبعد معارك عنيفة ورغم القصف الجوي المكثف استطاعت الفصائل فرض سيطرتها على حي الراموسة بالكامل فتم فتح طريق صغير لم يكن مؤمنًا بالكامل لوجوده تحت مدى مدفعية النظام ولكنه قام بفك الحصار عن المدينة، ويذكر في هذه اللحظات مقطع فيديو انتشر لالتقاء فصائل المعارضة المسلحة من داخل المدينة وخارجها، تكبد النظام وحلفاؤه في هذه الهجمات خسائر باهظة في العتاد والمقاتلين.
خريطة توضح التقدم شبه النهائي لفك الحصار
استمرت سيطرة المعارضة على تلك المناطق فترة وقامت وقتها بصد العديد من الهجمات للنظام في محاولة لفرض سيطرته مرة أخرى عليها حتى الـ4 من سبتمبر/ أيلول حينما استعادت قوات النظام وحلفاؤه السيطرة على مدرسة المدفعية مرة أخرى بعد تسويتها بالأرض من الطيران الروسي والقصف المدفعي.
المحاولة الثانية لفك الحصار
بعد خسارة المعبر الوحيد إلى مدينة حلب من محور الراموسة وبعد اغتيال الطيران الأمريكي لقائد جيش الفتح أبو عمر سراقب بطائرة دون طيار استهدفت تجمع لقيادات جيش الفتح فيما قيل إنه كان لتحضير فك الحصار مرة أخرى تعطلت العمليات.
في الـ28 من أكتوبر/ تشرين الأول أعلن جيش الفتح وغرفة عمليات فتح حلب بدء معركة فك الحصار عن حلب مرة أخرى وتقدمت الفصائل من جبهة غير متوقعة بهدف السيطرة على أحياء حلب الغربية وبعد التقدم المثير استطاعت السيطرة على قرية منيان ومناشير منيان وضاحية الأسد ومعمل الكرتون لأول مرة.
حاولت الفصائل التقدم من جبهات مشروع الـ1070 شقة للسيطرة على مشروع الـ3000 شقة (يعد أصعب بثلاثة أضعاف من مشروع 1070) وحي حلب الجديدة ولكن المحاولات باءت بالفشل لتنتكس هجمات فصائل المعارضة بخسارة كل المناطق التي سيطرت عليها في هذه الحملة وحتى خسارة مشروع الـ1070 شقة وتل مؤتة ومدرسة الحكمة (وهم من نتائج الحملة الأولى) مما جعل تحرير حلب مهمة أصعب من البداية لأن أغلب هذه المناطق أصبحت شبه مدمرة فالتقدم عليها تحت ظل الطيران الروسي أمر صعب جدًا.
عملية درع الفرات
انطلقت العملية في الـ4 من أغسطس/ آب لاستعادة مدينة جرابلس من تنظيم الدولة الإسلامية وقامت عدة فصائل من الجيش الحر وفصائل مدعومة أمريكيًا تحت رعاية الجيش التركي ببدء عملية موسعة ضد التنظيم بشكل أساسي وقوات سوريا الديموقراطية (تحالف من وحدات حماية الشعب الكردي وجيش الثوار) وأسفرت العملية عن تحرير مناطق واسعة جدًا من داعش وبنسب أقل من قوات سوريا الديموقراطية انتهت بوصول عملية درع الفرات على مشارف الشيخ عيسى (تحت سيطرة قسد) ومدينة الباب (تحت سيطرة داعش) وهي الهدف المعلن للعملية.
كان المتوقع محاولة فصائل درع الفرات اقتحام مدينة حلب من الجانب الشرقي حيث خطوط تماس النظام وداعش ولكن “قسد” حرصت على فصل جبهات النظام عن جبهات درع الفرات أيضًا لمحاولة ربط “قسد” لمناطق سيطرتها من عفرين وحتى منبج وشرق الفرات في تحالف واضح مع النظام السوري الذي سيتضح أكثر لاحقًا في الحملة على شرق حلب، وحاولت فصائل درع الفرات التقدم على جبهات الشيخ عيسى وتل رفعت لكن تحصينات قوات سوريا الديموقراطية كانت عصيبة فعادوا لجبهات داعش مرة أخرى.
خريطة توزيعات السيطرة نشرها فيلق الشام أحد أكبر فصائل المعارضة المسلحة وتظهر مدى إنجازات عملية درع الفرات وتظهر أيضًا حركة قوات سوريا الديموقراطية جنوب الشيخ عيسى
بعد الخسائر الأخيرة بفشل فك الحصار عن حلب قامت بعض الفصائل من داخل حلب نفسها بالتشبيح ضد فصيل “تجمع فاستقم كما أمرت” أحد فصائل الجيش الحر والموجود بكثافة كفصيل محلي داخل المنطقة المحاصرة مما ساهم في تشتيت الجبهات في خلافات جانبية غير مسؤولة.
وتواردت أنباء أيضًا عن خلافات موسعة داخل حركة أحرار الشام ومجلس شورى الحركة في اختيار القائد العسكري العام للحركة مما قد يكون تسبب في إحباط عام للمقاتلين.
أيضًا وفقًا لتسريبات عن احتمالية تفكك جبهة فتح الشام وبدء أحد قيادات الجبهة المنشق إبان إعلان فك الارتباط عن تنظيم قاعدة الجهاد العالمي وهو أبو جليبيب الأردني عن محادثات مع قيادة القاعدة لتشكيل جبهة جديدة بعد فشل محاولات الجولاني (أمير فتح الشام) في توحيد فصيله مع الفصائل الأخرى سواء الإسلامية أو غيرها كما فشل فك الارتباط التنظيمي المعلن بتجنيب “فتح الشام” القصف الأمريكي المستمر على إدلب حيث يوجد أغلب مقاتلي جيش الفتح وقيادات التنظيم وخسرت “فتح الشام” مؤخرًا بعض أبرز قادتها ومنهم أبو الفرج المصري وأبو الأفغان المصري مثلًا بالقصف الأمريكي حيث إن الاثنين يعدان من المطلوبين دوليًا لدورهم في القتال في أفغانستان ويظهر تأثير خلافات تفكك الجبهة على اختفاء معرفات إعلاميي التنظيم وتوقفها عن النشر بعد خسارة مكاسب ملحمة حلب الثانية ولكن لا شيء مؤكد حتى اللحظة.
ماذا ينتظر حلب؟
في لحظات تقدم النظام وحلفائه على جبهات حلب كان مقاتلي ومدنيي خان الشيخ في ريف دمشق قد استقلوا “الباصات الخضراء” (وهي وسيلة النقل التي يشار إليها بالمساهمة في التهجير بعد عقد اتفاقيات مع النظام بالانسحاب من مناطق معينة) للتوجه إلى إدلب حيث يشرع النظام في تنفيذ مخططه في تفريغ حزام ريف دمشق من المناطق “المزعجة” له التي شهدت قتال عنيف من فصائل الجيش الحر وآخرهم ومنهم مثلًا داريا ومعضمية الشام آخرهم خان الشيخ.
الأمور في حلب استفحلت للأسف على مقاتلي المعارضة والمدنيين بشكل أكبر وبالخسائر الأخيرة اضطر الكثير من المدنيين للنزوح وتسليم أنفسهم لوحدات حماية الشعب الكردي وقوات النظام السوري ولا توجد رؤية حالية للخروج من هذه الأزمة بعد خسارة أغلب مناطق السيطرة شرق حلب، فلا قوات المعارضة على مقربة من فك الحصار من الخارج ولا قوات المعارضة في داخل الحزام المحاصر بالإمكانيات المحدودة الحالية والحصار المفروض والحملة العسكرية الشرسة من النظام السوري وحليفه الأكثر قتلًا بعد النظام في سوريا وهو روسيا قادرة على أن تحرز تطور ملحوظ على الأرض.
سقوط شرق حلب ليس النهاية بأية حال واستيلاء النظام عليها سيكون انتصارًا رمزيًا ولكن ستظل نسبة المناطق الخارجة عن سيطرته كبيرة جدًا بالنسبة لمقولة “نظام”، فهل ينتهي الأمر بالباصات الخضراء أم بالقتال حتى الموت؟