تنويه تم نشر هذه الموضوع على موقع نون بوست تحت اسم الكاتب “محمد عيون” كما وصلنا على إيميل الموقع، وبعد التحري تبين أن الاسم مستعار، لذلك حذف الاسم وتم الإبقاء على المادة للفائدة، وحرصًا على مصداقية الموقع اقتضى التنويه
“تحتاج فضائية الجزيرة اليوم إلى أكثر من التباهي بتصدر نسب المشاهدة – وهي نسب انتقائية بالمناسبة ومضللة أحيانًا -، كما تحتاج إلى أكثر من الاستناد إلى نجاحات البدايات، وهي إما أن تستمع بقلب وعقل مفتوحين لصوت النقد وإما تستسلم للذة المديح المراق جزافًا، فالقناة التي أخذت شرعيتها عند الجمهور العربي من شعار الرأي والرأي الآخر هي أحوج ما تكون اليوم إلى التحلي بشجاعة الاستماع لرأي مختلف.
استوديو قناة الجزيرة
خلطة الجزيرة قامت على عوامل كثيرة للنجاح وهي مرشحة للاستمرار إن أحسن البناء عليها، لكن لا يبدو أن مطبخ الجزيرة اليوم متنبه لمجموعة تحديات خطيرة لا يجدر أبدًا إهمالها، وأبرز هذه التحديات:
الرؤية التحريرية، إذ لا تبدو الرؤية التحريرية للجزيرة اليوم في أحسن حالاتها، ومن المحزن أن تصبح الإثارة عاملاً ضاغطًا أحيانًا في صياغات المضمون ووضع خططه، أو أن يكون الاستسهال واستعمال الدارج وملاحقة الخطاب الغرائزي للجمهور مدخلاً لنضوب الرؤية وجفاف الذائقة الإبداعية في التحرير ومن بعدها التسبب في آثار سلبية كبيرة.
وكمثال حالي دأبت الجزيرة في نشراتها الإخبارية ومواقعها الإلكترونية على وصف الموصل بأنها “معقل تنظيم الدولة“ وهذا الوصف خطير جدًا، ليس فقط لأنه يبرر تدمير المدينة ويمهد نفسيًا لتهجير أهلها تحت دعوى أنها معقل داعش، بل أيضًا لأنه وصف مضلل، فلو كلفنا أنفسنا عناء ومسؤولية التدقيق، فعصابة من 5-3 آلاف مسلح عندما تختطف مدينة من مليوني إنسان لا يجعل ذلك من هذه المدينة معقلاً لهم وتسميتها كذلك جريمة في حقها، خاصة إذا كان أهل هذه المدينة لا يحتضنون التنظيم بل يضيقون به ذرعًا وبعضهم يعمل ضده فعلاً ومعظمهم تعاملوا معه كسلطة أمر واقع في ظل تيه المكون السني في العراق ككل وفي ظل الخوف من بديل داعش ضمن خيار السيء والأسوأ، لكن المؤكد أن فكر داعش يتضاد تمامًا مع ميراث المدينة وأهلها، والحديث يحتاج تفصيلاً طويلاً، ويكفينا الآن من هذا المثال الإشارة إلى خطورة تبني تعبير ينتشر كالنار في الهشيم دون وجود عقل ناظم يتحلى بالمسؤولية وينتج رؤية واضحة ومسؤولة وملهمة.
التحدي الآخر هو مقامرة الاندفاع نحو 4 برامج تحقيق دفعة واحدة في الدورة الجديدة وهو ما لا تجازف بمثله كبرى القنوات العالمية المحترفة، ومن تعمق في مجال أفلام التحقيقات يعلم أن تحقيقًا واحدًا قويًا محترفًا ومؤثرًا كل شهر أو شهرين كفيل بإبقاء أسهم القناة مرتفعة، وهنا تبدو المراهنة على فيلم تحقيقي ناجح كل أسبوع مراهنة متعسفة جانحة في الخيال ومفرطة في مجانبة منطق عالم التحقيقات.
ياسر أبو هلالة مدير قناة الجزيرة
من المتوقع أن 4 برامج تحقيق ستتشابه وتتداخل وربما تتضارب رغم الادعاء المبدئي أنها ستكون منسجمة ومختلفة عن بعضها، كما أن هناك شك كبير في أن تنجح في الوفاء بمتطلبات التحقيقات المهنية بحدها الأدنى، والغريب أن هذا الاندفاع يفترض أن يستند إلى نجاح سابق وواضح في تجربة البرامج التحقيقية تؤهل لهذه القفزة الكبيرة، لكن العكس هو الصحيح، إذ يستند هذا الاندفاع الضخم إلى تجربة ضعيفة بالمجمل – بمقاييس برامج التحقيق – هي تجربة الصندوق الأسود، إذ إن معظم حلقات الصندوق الأسود لم تكشف جديدًا ولم تحل لغزًا بل اكتفت بإعادة عرض ما هو منشور في الصحافة عن الملفات المطروحة، وأحيانًا عرضت أقل مما هو منشور أصلاً ويعرفه المتابعون وبالمجمل لم ترتق لمعايير هذا النوع من البرامج! ورغم الإلحاح الواضح في توظيف التكنيكات الشكلية للتحقيق (من حركة كاميرا، وزوايا تصوير، وإضاءة، وتمثيل للتتبع، واصطناع للتشويق، إلخ) لكن ذلك لم يفلح في تحويله لبرنامج تحقيقي رغم أنه تم تسويقه كذلك!
وذلك ينسف فكرة التحقيق ويتطلب أن تكون القناة أكثر احترامًا لجمهورها وأن تتوقف عن تقديمه كبرنامج تحقيق – قياسًا لأغلب حلقاته – فيما هو يمكن أن يكون برنامجًا ناجحًا تحت عناوين أخرى غير التحقيق.
في الأيام الأولى من الدورة الجديدة وفي سياق التسويق للبرامج “التحقيقية “ الجديدة تم الإشارة أكثر من مرة إلى “نجومية“ مقدمي هذه البرامج وأن ذلك بعض ذخيرة نجاح هذه البرامج، وهنا نحتاج إلى وقفة، فكما أن مرور الإنسان بتجربة اعتقال قاسية لا يعني أنه سينجح بإدارة عمل كبير معني بحقوق الإنسان، فكذلك التغطية الجيدة كمراسل في حروب أو أزمات كبيرة لا تعني أن “نجوميته “ هي أحد عناصر خلطة النجاح في تجربة مختلفة ومعقدة كأفلام التحقيقات، ولأن الموضوع أطول من أن يحوزه مقال فسأكتفي برسم الإشارات التالية لمواصفات المقدم المناسب لبرامج التحقيقات:
– الكاريزما القوية.. بأن يكون المقدم ذا شخصية مسيطرة قوية، وذا طرح آسر، قادر على تحويل حتى حدث عادٍ إلى مصدر إلهام واهتمام عند المشاهد، بالمقابل فإن من يقف أمام الكاميرا في حدث ضخم ويؤدي أداءً مشكورًا ومتوقعًا لمثل هذا الحدث الجلل، فهذا لا يعني أنه صاحب كاريزما ونجومية، فالحدث هنا هو الذي صنعه وليس ذاتيته وقوته كصحفي.
– العنصر الثاني لنجاح مقدم برامج التحقيقات هو أن يكون ذا ثقافة عميقة واسعة ودون الدخول في سجال بشأن كيف نحدد إذا كانت ثقافته عالية أو لا.. هاكم بعض المؤشرات:
أن يكون معروفًا بعمق كتاباته وتميزها وفرادتها، وأن تصبح بعض افتتاحيات أو قفلات تقاريره محل استشهاد وتقليد وإشادة، ومثل ذلك في مقالاته وتدويناته، إن برنامج تحقيقات ناجح يجب أن يستند إلى مقدم متفرد الأسلوب، مستقل التفكير، متعطش للحقيقة، يملك الذكاء الذي يؤهله للخروج من فخ الروايات السائدة والمقولات الدارجة، وأيضًا أن يكون متنوع المشارب الفكرية وليس أسير لون أيدولوجي محدد أو خطاب مقعر معروف المقدمات والنتائج.
العنصر الأساسي الثالث أن يكون ذا شخصية عنيدة ومثابرة، مبادرة نشيطة متطلبة، لا يقنعها أي شيء، وبنفس الوقت شخصية ذكية حد الدهاء.
أما الناحية الفنية في أفلام التحقيقات فيجب أن تستند إلى رؤية يعضدها مخزون ثقافي غزير – وهذا واضح مثلاً في مخرجي برامج التحقيقات في بي بي سي وناشونال جيوغرافيك وغيرها، والثقافة الغزيرة تورث صاحبها رؤية تمكنه من هضم موضوع التحقيق وتحويله إلى مادة مفيدة قوية وجذابة وهذا ليس سهلاً أبدًا ويحتاج لقدر عالٍ من الألمعية والقدرة على المحاكمة الموضوعية ما يوصله إلى صناعة السيناريو المحبوك المركّب والمقنع، وفي الأثناء ألا ينزلق في أفخاخ الإثارة المجانية أو المبالغات الطائشة.
إن إخراج السلاسل التحقيقية لا يجيدها من اعتاد البنى السردية السهلة، والفرق بين سيناريو برنامج تحقيقي وسيناريو آخر كالفرق بين رواية بوليسية معقدة وقصة تعليمية للمراهقين! ومن المؤشرات على جدارة المخرج بصناعة سلاسل التحقيقات أن تكون تجربته الإخراجية ثرية مشهودًا لها بفرادة أسلوبه وقوة طرحه وجماليات بنائه وقوة نصوصه وإحكام البنى السردية والسيناريوهات في أفلامه، ولا يكفي هنا أن يكون مخرجًا قدم عددًا من الوثائقيات العادية أو التي حظيت بمتابعة معقولة نتيجة جماهيرية موضوع الفيلم مع أداء عادي في الإخراج، وصانع الفيلم الذي لا تحدث أفلامه جدلاً نخبويًا أو تحظى بإشادات وتنويهات نوعية يصعب أن يكون ملائمًا لأفلام التحقيقات.
وإذا أخفق البرنامج التحقيقي وكان أداء المقدم ضعيفًا فسيكون من السهل التضحية بالمقدم، لكن الحقيقة عندها أن أطرافًا عدة تحتاج لإجراء المراجعات: التخطيط البرامجي، والمعد الذي رضي بموضوع ضعيف وحبكة مهلهلة، والمخرج ذو الرؤية الضعيفة أو التائهة، ومن رضوا بهذه المعادلة الإنتاجية المربكة، والعلة عندها تكون إخفاق المنظومة ككل ومن ضمنها إخفاق اختيار المقدم وترشيحه لنوع دقيق جدًا من البرامج فيما كان يمكن لنفس المقدم أن ينجح أكثر في أنواع أخرى من البرامج.
إن إخفاق برنامج أساسي عقدت الآمال عليه كثيرًا يطرح عادة داخل الفضائيات سؤالاً مهمًا: لماذا لم يكن بيننا رأي جرئ يدق ناقوس الخطر؟ وأسوأ جواب على ذلك سيكون عندها أن الإدارة لم تكن تريد رأيًا مختلفًا أو أن الشللية واصطفافات المحاور ومعادلة “من محسوب على من” هي التي حكمت أو أن لقمة العيش وهاجس الحفاظ على المنصب دفعت من يفترض بهم المسؤولية للصمت، وأسوأ من ذلك كله أن يكون السبب أنه لم يكن من بين القوم من يملك رؤية جريئة قادرة على الاستشراف.
التحدي الثالث: جماليات الشاشة وجاذبيتها، إذ كانت الجزيرة دائمًا مميزة بأحدث الأجهزة والاستوديوهات لكن ذلك لم ينعكس على جمال الشاشة ورشاقتها وجذبها، شاشة الجزيرة تميزت عن غيرها بالمضمون لكنها كانت من حيث جماليات الشاشة أضعف من منافساتها ليس فقط من حيث جماليات الشكل بل أيضًا من حيث التنويع والإبداع في القوالب البرامجية، وقد عانت الجزيرة من محاولات عدة لصناعة محتوى عائلي أو شبابي خفيف وجذاب مثل البرنامج الصباحي الذي يفترض أن يقدم وجبة خفيفة، لكن طبيعة تفكير الجزيرة وطغيان العاملين من خلفية الصحافة السياسية المكتوبة أثر سلبًا، وأصبح التقرير المبهج الخفيف الذي يفترض أن يكون كفنجان قهوة صباحي منعش يحدث حوله نقاش من خبراء ومعقبين ومحللين لمدة نصف ساعة مملة متكلفة وعقيمة ومنفرة.
وكم شهدنا من محاولات لصناعة برامج شبابية أو خفيفة صرفت عليها مبالغ طائلة ثم أخفقت وتوقفت دون إعلان، حتى يئسنا من أن تنجح الجزيرة في تقديم هذا اللون المهم، في المقابل هل يجدر بالجزيرة كقناة إخبارية أن تحرص على هذا اللون لمجرد أن منافسيها يفعلون ذلك وأبدعوا فيه؟! هذا سؤال جدير بالبحث لكن ليس الآن.
“بلا حدود” من غرفة أخبار الجزيرة بذكراها العشرين مع ياسر أبو هلالة
تم التسويق للدورة البرامجية الجديدة للجزيرة على أنها ستحوي تطويرًا إبداعيًا يغير وجه البرامج على مستوى المنطقة بل وجازف أحدهم بأن قال و”العالم!”.. هكذا! ورغم الخفة والاندفاع الظاهرين في هذه التصريحات فالمفاجئ أن معظم البرامج “الجديدة” نسخ تكاد تكون متطابقة مع برامج سابقة على الجزيرة أو على منافستها العربية!
فبرنامج “المقابلة” هو نسخة كربونية عن برنامج “زيارة خاصة“ الذي امتاز بالعمق والجاذبية والأداء الرصين الهادئ والمحترف لمقدمه مما سيفرض على البرنامج الجديد “المقابلة“ مقارنة متعبة، وكذلك الحال في برنامج “مغتربون“ الذي هو إحياء – نرجو ألا يكون باهتًا – لبرنامج “موعد في المهجر“ المشوق والممتع، أما برنامج “فوق السلطة” الذي يفترض أنه سياسي ساخر فيكاد يكون تقليدًا باردًا لمثيله على العربية مع فارق واضح لصالح أداء نديم قطيش المتمكن والذكي، ومثله برنامج “هذا الصباح” الذي يحاول ملاحقة صباح العربية شكلاً ومضمونًا مع أفضلية هنا في عدد التقارير الضخم المعتمد على أكبر شبكة مراسلين وهو ما تفاخر به الجزيرة، لكن كثرة التقارير في البرنامج الصباحي تبدو مربكة ولا تسير على نسق يمكن أن يعتاد عليه المشاهد أو ينتظره، أما في البرامج التحقيقية فتبدو المقارنة مخيفة حد الإحباط، ولا أريد أن أكون متشائمًا لكن ليس هناك مؤشرات على أن البرامج الجديدة يمكن أن تقترب من مستوى برامج مثل نقطة ساخنة أو سري للغاية، وهذا مؤسف.
حازت القناة ثقة الجمهور لسببين: لسقف خطابها العالي وتماهيها مع أشواق ورغبات الجمهور، ومن المرجح أن تستمر القناة على ذات الخط التحريري وذات الخطاب – ولكن بوتيرة اقل، فيما لا يبدو أن ذلك يكفي لاستمرار احتلال الصدارة بين الفضائيات العربية.
ما زالت الجزيرة تملك ثقة جمهور عريض حازتها مستندة إلى سنوات من التعب والتضحيات، لكن ثقة الجمهور ليست رصيدًا مجانيًا ثابتًا وليست “شيكًا مفتوحًا على بياض”، وجمهور الجزيرة الكبير يستحق بالتأكيد ما هو أفضل مما نراه، ظلت الجزيرة على مدى عشرين عامًا تعني الكثير لملايين العرب الذين تابعوها ووثقوا بها، وهم الذين فجعوا بالكثير في السنوات الأخيرة، فلا تفجعوهم بـ”الجزيرة“.”