يشهد السودان منذ يوم 27 من نوفمبر عصيانًا مدنيًا يطالب بالديمقراطية وذلك بعد حملة ناجحة في مواقع التواصل الاجتماعي ضغطت على الحكومة من أجل إلغاء قرارها برفع الدعم عن الأدوية وقد نجحت هذه الحملة في ذلك وأُلغيت قرارات الزيادة في سعر الأدوية وأقيل أمين عام مجلس الصيدلة والسموم ككبش فداء بعد أن اتهمته الحكومة بوضع قائمة أسعار مبالغ فيها.
تطور النشاط بعد نجاح الحملة المعارضة لرفع الدعم عن الدواء والتي أصبحت حديث الإعلام العالمي مما شجع النشطاء على إطلاق حملة جديدة وهي الدعوة لعصيان مدني شامل لمدة ثلاثة أيام يبدأ يوم 27 من نوفمبر وينتهي يوم 29 من نوفمبر، ونجحت هذه الدعوة بشكل مبهر فقد توقفت الحياة تمامًا في أسواق الخرطوم والمدارس والجامعات في الأيام الثلاث رغم أن مؤسسات الدولة والبنوك مارست عملها بشكل اعتيادي وكذلك كانت حركة الموصلات إلا أن الشوارع كانت خالية تمامًا من المارة على غير العادة مثلما تبدو الخرطوم في أيام العيد عندما يعود الموظفون إلى قراهم ليقضوا إجازة العيد.
ورغم هذه الاستجابة الواسعة من قبل الشارع لدعوات العصيان المدني فلا توجد أي ملامح لتغيير (مفاجئ) على خريطة المشهد بسبب حالة الإنكار، فالحكومة لا ترى سوى أن العصيان المدني فشل لأن مؤسسات الدولة والموظفين ذهبوا إلى مكاتبهم ولم يستجيبوا لدعوات العصيان والمعارضة، ترى أن العصيان نجح لأن الحركة التجارية توقفت تمامًا والبورصة هبطت والمحليات عجزت عن أخذ رسوم النفايات والدمغات والجبايات التي تمد بها خزينة الدولة يوميًا بأموال كثيرة هي في أمس الحاجة لها.
سيناريوهات تعامل النظام مع العصيان المدني
المشكلة الأكبر التي تواجه النظام الآن هي كيف يواجه هذا العصيان المدني ويفشله وخصوصًا أن فكرة العصيان هي فكرة خارج الصندوق تمامًا ولم تجرب استخدامها المعارضة مع حكومة البشير خلال الـ27 سنة الماضية، بل اتجهت لسناريوهات الدعوة للتظاهر أو حمل السلاح ولكن لم يكن هناك فكرة للدعوة لعصيان مدني أبدًا وبالتالي لا تلوح في الأفق أي خطة للنظام لمواجهة هذه الدعوات ولكن من توقعي الشخصي لآلية تفكير الإنقاذيين أتوقع أن يضعوا خطة مواجهة طويلة مع دعاة العصيان تقوم على:
1. المواجهة الإعلامية التي يجيدها النظام وأذرعه الإعلامية عبر تصوير دعاة العصيان المدني أنهم شيوعيون وخونة وعملاء للسفارات الأجنبية ودعاة للفوضى والتخريب والحديث المستمر أن الوضع طبيعي تمامًا والأمن مستتب.
2. أن يقوم بمزيد من التنازلات من أجل جر أحزاب المعارضة للجلوس في الحوار الوطني وخصوصًا حزب الصادق المهدي الذي يرغب في الحوار لكن بشكل موسع وأن يكون متضمنًا ما يسميه الصادق المهدي بالمؤتمر الدستوري وآلية محاسبة وعدالة انتقالية وإيقاف الحرب وهذه البنود هي التي وقع عليها الصادق المهدي في اتفاقية خارطة الطريق مع الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا في 8 من أغسطس الماضي.
3. شن حملة اعتقالات ضد من يرونهم بالأصوات المحرضة في السوشيال ميديا من نشطاء وصحفيين ومدونيين في محاولة لإسكاتهم بالقوة.
4. البحث عن قروض من دول الخليج من أجل تسكين الأزمة الاقتصادية قليلاً.
5. هبوط آمن للرئيس البشير من السلطة من أجل الإبقاء على نظامه وتسليم دفة القيادة لنائبه بكري حسن صالح
ما يعيق تطور العصيان المدني
ما ينقص العصيان ليتطور هو ثلاث أمور أولها التخلي عن العشوائية في الدعوات، فعلى جبهة العصيان المدني تسود العشوائية بشكل ولا توجد أي خطة لتطوير الحراك ويبدو أن النشطاء الذين دعوا للعصيان لا زالوا في صدمة عدم التصديق أن الشعب استجاب لهم ولدعواتهم للعصيان، فحتى الأمس لم يكن هناك جسمًا سياسيًا يتحدث باسم العصيان المدني ولا حتى صفحة فيسبوك موحدة تتحدث باسم مجموع (العصاة) الذين شقوا عصى الطاعة على نظام البشير بل مجموعة من حسابات الفيسبوك والتويتر هي التي تتولى عملية الحشد والتوعية كل مجموعة تطرح أهداف مختلفة عن الأخرى.
أُعلن بالأمس عن تشكيل اللجنة القومية للعصيان المدني وقيل إنها هيئة ستتولى إدارة عملية العصيان وفيها الأحزاب السياسية بالإضافة إلى النقابات المستقلة (لجنة الأطباء والمعلمين والصيادلة) ولكن خرج بيان من حزب المؤتمر المعارض ينفي أنه جزء من هذا الجسم وبالتالي تستمر أزمة تمثيل العصاة سياسيًا.
في رأيي أن العصيان المدني الحالي ليتطور يحتاج إلى جسم سياسي ليمثله وليتفاوض بالنيابة عنه مثلما فعلت النقابات والأحزاب عندما توحدت في جسم التجمع الوطني الديمقراطي وتفاوضت مع المشير سوار الدهب عن انتقال السلطة بعد الانتفاضة ضد نميري في 1985م.
ثانيها: يحتاج العصيان إلى النزول في الشارع للتظاهر، فالجلوس في البيت ليس حلاً ودون تهشيم عصا النظام الغليظة فإن حكمه باقٍ ولن يتزحزح وبالتالي فيجب على دعاة العصيان أو من أحب أن أسميهم بالعصاة أن يدعوا الجماهير للنزول للشوارع والاحتشاد مثلما فعل آباؤهم وأجدادهم وأسقطوا حكم الطاغيتين إبراهيم عبود وجعفر نميري.
ثالثها: محاولة مخاطبة الإعلام الدولي باللغات الأجنبية الإنجليزية والفرنسية والألمانية وكذلك دعوة الجاليات السودانية في الخارج للتظاهر والاعتصام أمام السفارات والقنصليات السودانية حول العالم.
ختامًا يحتاج العصاة إلى مساعدة ليحسموا الوضع ولا زالت فرص النظام في البقاء كبيرة طالما عجز العصاة عن تحويل حراكهم السياسي في العالم الافتراضي إلى فعل سياسي على الأرض يقنع مؤسسات الدولة بأن تختار الانضمام إليهم.