مر الفن في مصر بكثير من الأطوار، وخصوصًا ذلك الذي استغله الشعب في محاربة الانتداب البريطاني على الأراضي المصرية، ومن ثم تحول إلى أداة في يد الشعب المصري لمحاربة النظام وللتمرد على الحاكم، وخصوصًا من خلال الغناء والتمثيل، إلا أنها لم تكن أداة درامية بحتة، كما لم تكن نمطية شديدة الهجاء للحاكم وأفعاله، بل تميزت بما يتميز المصريون به كذلك، وهو حس الفكاهة، الذي يستغله المصريون للتعبير عن أزماتهم بطريقة مسلية وهو ما يعرف في لغة الأدب، بالأدب الساخر.
الأدب الساخر هو أدب التبصير بالواقع، لا يعتبره الأدباء أدبًا هجائيًا، فهو يختلف بالطبع عن كل ما هو سائد ومألوف في الأدب الهجائي، إلا أن بعض الأدباء يفضلون وصفه بالكتابة الذكية، وذلك لأنها تستطيع أن تنتقي عن الهزلية إلى مستوى الرقي الإبداعي في وصف الواقع بطريقتهم الخاصة.
انتقل الأدب الساخر نقلة نوعية من مجرد أشعار وقصائد وروايات، إلى ما يسمعه ويراه المشاهد بنفسه، حيث استغله الفنانون ليكون مصدرًا للإلهام في الغناء والتمثيل على خشبة المسرح، ليتناول ذلك الفن السلبيات المجتمعية والانتقادات السياسية ويعبر عن حنقه على الأوضاع الاقتصادية ليتبنى التمرد الثوري في العصر الحديث في نهاية المطاف!
الفن الساخر في مواجهة الانتداب البريطاني في مصر
سيد درويش
بدأت معالم الفن الساخر تظهر في الأغاني المصرية في أثناء فترة الانتداب البريطاني، كان رائده في ذلك الوقت هو “سيد درويش”، الذي استلهم في أغانيه الشارع المصري والحياة اليومية، ليستهدف بها رواد المقاهي، والمراكبية “من يعملون في الصيد”، وحمالين الحقائب في محطات القطار.
كانت أغنية “شد الحزام على وسطك” من أهم الأغاني التي برزت فيها معالم الفن الساخر في ذلك الوقت، فكان ذلك في عام 1919، ولا زلت تلك الأغنية معبرة عن الروح الثورية حتى بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير في عام 2011، حيث غناها الشباب الثوريون خلال وجودهم في الميادين، فعلى الرغم من مرور أكثر من 100 عام على صدور تلك الأغنية، إلا أنها لا زلت إلهامًا للفن الساخر في مقاومة الحاكم.
أغنية شد الحزام على وسطك
صدرت الأغنية كرد فعل لسياسة الانتداب البريطاني الاقتصادية، التي أودت بالمصريين للتقشف في ذلك الوقت، حينها عطّل الإنجليز حركة التلغرافات وجعل المرور بين المحافظات عن طريق جوازات سفر عسكرية، مما أدى إلى الاستغناء عن حمالين الحقائب بمحطات القطار ليذكرهم درويش في أغنيته قائلًا “إن كان شيل الحمول على ضهرك يكيدك.. أهون عليك يا حُرّ من مدّة إيدك”.
يقول غسان كنفاني في تعريفه للكتابة الساخرة:
“إن السخرية ليست تنكيتًا ساذجًا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعا خاصًا من التحليل العميق”
ولا ننسى قط أن أجدادنا من الساخرين الأوائل، لجأوا إلى الفن الساخر كوسيلة لإيصال رسائلهم إلى الحكام، بل إن بعضهم ادعى الجنون ليستطيع أن يسخر ممن يريد دون حسيب أو رقيب، وكانت ظاهرة “عقلاء المجانين” أو “مجانين العقلاء” أو من كانوا يصفونهم بالممسوسين، من أكبر ظواهر الرفض والتمرد في العالم العربي، حيث كان هؤلاء يصلون بكلامهم إلى الخلفاء والسلاطين وينتقدون ما ينتقدون ويسخرون دون خوف.
الشيخ إمام وانتقاد السلطة والرأسمالية
الشيخ إمام
عُرف الشيخ إمام بإمام المغنيين وشيخهم، اقترب من الشعب في ألحانه، غنى كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، وكان للثنائي الدور الأهم في عودة الروح الساخرة للقصيدة العربية وللأغنية الثورية بعد عام 1967، حيث انتشر الشعور القومي في الفترة التي سبقت ذلك، وكان تمجيد أبطال العسكر هو السائد آنذاك، ليأتي الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام ليعيدا الفن الشعبي على الساحة من جديد، بغنائهم عن الشعب وانتقاد الوضع الاقتصادي الذي اتجه نحو الرأسمالية في السبعينيات من القرن الماضي في مصر، فانتقدا اتساع الفجوة بين الأثرياء وطبقة الفقراء في تلك الحقبة.
انتشرت قصائد نجم التي لحنها وغناها الشيخ إمام كالنار في الهشيم داخل وخارج مصر، فكثر عليها الكلام واختلف بشأنها الناس بين مؤيدين ومعارضين، في البداية استوعبت الدولة الشيخ وفرقته وسمحت بتنظيم حفل في نقابة الصحفيين وفتحت لهم أبواب الإذاعة والتليفزيون أيضًا.
لكن سرعان ما انقلب الحال بعد هجوم الشيخ إمام في أغانيه على الأحكام التي برأت المسؤولين عن هزيمة 1967، فتم القبض عليه هو ونجم واتهامهما بتعاطي الحشيش سنة 1969 ولكن القاضي أطلق سراحهما، لكن الأمن ظل يلاحقهما ويسجل أغانيهما حتى حكم عليهما بالسجن المؤبد، ليكون الشيخ أول سجين بسبب الغناء في تاريخ الثقافة العربية.
تنقل الشيخ إمام ونجم من سجن إلى آخر، واقترنت أغنيته المشهورة شيد قصورك بوجوده في السجن، حتى أُفرج عنهما بعد اغتيال الرئيس أنور السادات.
أغنية شيد قصورك
مسرحية الخديوي: من يشتري مصر؟
لم يهمل المسرح الأدب الساخر، فربما تكون ساحة الأدب الساخر هي المسرح دون شك، إلا أنها مهددة من المنع من العرض في مصر دومًا، كانت آخرهم مسرحية الخديوي التي منعت من العرض تمامًا حتى قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير.
قدمت الفرقة الغنائية الاستعراضية هذا العرض عام 2991، وهي من تأليف الشاعر فاروق جويدة، كما شارك في تمثيلها الفنان المصري المشهور “محمود ياسين”، وتدور الأحداث الدرامية بعرض فترة حكم الخديوي إسماعيل (1867-1879)، وهي الفترة التي ما زالت مثارًا للخلاف بين كثير من المؤرخين المتخصصين في التاريخ المصري الحديث، وبالطبع اختار الشاعر هذه الحقبة التاريخية لتقديم رؤية نقدية لواقعنا المعاصر من خلال توظيفه لذلك الإسقاط الزماني وتأكيد بعض المشابهات مع الأحداث السياسية والاقتصادية المعاصرة.
في المشهد التالي، يعبر الكاتب عن مزاد دولي لشراء مصر، وبيعها قطعة قطعة في المحافل الدولية، بنداء المتحدث في البداية عن عرض الأهرامات للبيع بين ممثلين للدول المختلفة، منها إسرائيل التي عرضت شراء نهر النيل بعشرة مليون شيكل ونصف شيكل في مشهد هزلي.
من الممكن أن يساعد الأدب الساخر على كسر خوف النفس وترددها في التعبير والتصريح وإثارة الأسئلة عن كل ما هو غير منطقي وغير مفهوم، فنحن بحاجة شديدة لكي نضحك كما نحن بحاجة لأن نبكي أو نرقص أو نكافح أو نقاوم، فربما يكون الكاتب الساخر هو الكاتب الأكثر حظًا، لأنه يحتاج أن يكون متمردًا ومجددًا ومندهشًا دائمًا بما يدور حوله، ليعطيه حسه النقدي المتمرد ولكن بطريقة مضحكة، ربما تميل في كوميديتها إلى الكوميديا السوداء.