منذ إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر الماضي وفوز دونالد ترامب بها، كثر اللغط عما يمكن أن ينفذه هذا المتعصب من تصريحاته التي تعهد بها لمنتخبيه إبان حملته الانتخابية أو عبر تغريداته على موقع تويتر، تلك التصريحات التي قد تُغيّر نمط السياسة الأمريكية تمامًا إن تحققت على أرض الواقع، حيث تركزت على جلب المزيد من العداوات لأمريكا والعدول عن الاتفاقيات الدولية المبرمبة وإبطال القوانين والتشريعات السارية وحرمان العديد من الأقليات العرقية والدينية من حقوقهم المكتسبة.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون، أن معظم هذه التعهدات الانتخابية والتصريحات لا يمكن تنفيذها بين عشية وضحاها، فالولايات المتحدة الأمريكية دولة ديموقراطية، تُطبق القانون وتحكمها تشريعات ويُشرف عليها مؤسسات تحد من استفراد كائن من كان – حتى ولو كان الرئيس الأمريكي الذي يتبوأ المنصب الأقوى في العالم على الإطلاق – باتخاذ قرارات أو إطلاق قوانين وتشريعات.
في هذا التقرير نستعرض معكم، بعض هذه القوانين والتشريعات والمواقف التي لا يستطيع أي رئيس أمريكي – بغض النظر عن شخصه – اتخاذ أي قرار حيالها، فالشعب وممثلوه في الكونجرس، هم مصدر السلطات الحقيقي في الولايات المتحدة الأمريكية، على عكس ما هو قائم في وطننا العربي.
تفسير وتأويل نصوص ومواد الدستور
ينص التعديل الأول من التعديلات العشر للدستور الأمريكي والتي تم اعتمادها في 15 من ديسمبر 1791، على حظر إطلاق أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو فرض حظر على حرية ممارسة الشعائر الدينية لأي دين أو الحد من حرية التعبير أو التعدي على حرية الصحافة أو التدخل في حق التظاهر/ التجمهر السلمي.
ولا يمكن للرئيس الأمريكي تأويل أو تفسير أي شق من شقوق هذا التعديل ليشمل غير المنصوص عليه، كعدم اعتبار التعبير على الإنترنت ضمن حرية التعبير المنصوص عليها في التعديل الأول للدستور، فالمحكمة العليا الأمريكية SCOTUS / Supreme Court Of The United States)) أعلى محكمة في البلاد وصاحبة السلطة القضائية الفيدرالية، هي الوحيدة التي تملك القول الفصل في تفسير مواد الدستور وما يمكن أن يندرج تحته، ولا يرجع الأمر بأي شكل من الأشكال للرئيس الأمريكي.
تعيين رئيس وأعضاء المحكمة العليا
المحكمة العليا أعلى هيئة قضائية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومقرها في العاصمة واشنطن، وتأسست عام 1789 طبقا لأحكام المادة الثالثة من الدستور الأمريكي، وتوصف المحكمة العليا بأنها “المفسر الأخير للقانون الدستوري”، حيث تقوم بمراجعة إجراءات الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات على حد سواء، ولها سلطة إبطال أي قانون أو قرار لا يتوافق مع الحريات الدستورية الأساسية.
وتتكون من قاضٍ رئيسي وثمانية قضاة مساعدين، ويكون تعيينهم أبديّ بحيث يظل رئيس وقضاة المحكمة الدستورية العليا المعاونين في مناصبهم ما داموا على قيد الحياة ويتمتعون بسمعة شريفة وسلوك حسن، ولم يتقدموا بطلب تقاعد، ولا يُمكن عزلهم أو إقالتهم من مناصبهم إلا بإدانة نهائية، وعلى الرغم من أن تسمية رئيس المحكمة ومعاونيه، يتم عن طريق الرئيس الأمريكي، لكن القول الفصل في الموافقة عليهم واعتمادهم كأعضاء للمحكمة العليا، يرجع إلى مجلس الشيوخ الذي يجب أن يصوت بالموافقة عليهم بالأغلبية ويحق لهم رفض الترشيح الرئاسي.
ومن القرارات التي اتخذتها المحكمة العليا الأمريكية وتوضح استقلالها بالرأي وعدم اتباعها لأهواء الحُكّام والرؤساء الأمريكين:
– إعلان المحكمة عام 1883 أن قانون الحقوق المدنية الذي صدر عام 1875 غير دستوري.
– قرار المحكمة يوم 29 من يونيو عام 2006 أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، تجاوز صلاحياته بإنشاء المحاكم العسكرية الاستثنائية لـ”محاكمة المقاتلين الأعداء” المعتقلين في غوانتانامو في إطار “الحرب على الإرهاب”.
– إصدار المحكمة قرارًا يقضي بمنح الحق للشواذ جنسيًا بـ”الزواج” فيما بينهم بجميع الولايات الأمريكية في 26 من يونيو 2015، ومطالبتها حكومات الولايات بالاعتراف بهذا النوع من “الزواج” وتوثيقه.
– تعليق المحكمة، برنامجًا للرئيس الأمريكي باراك أوباما، في فبراير2016، يهدف إلى التصدي للاحتباس الحراري بعد أن رفعت 25 ولاية (معظمها في أيدي الجمهوريين) القضية إلى المحكمة بعد احتجاجها على البرنامج.
– حكمت المحكمة في يونيو 2015، لصالح مسلمة أقامت دعوى شكت فيها من التمييز، بعد أن حرمت من وظيفتها – وهي في السابعة عشر من عمرها – في شركة لبيع الملابس في أوكلاهوما بسبب ارتدائها الحجاب.
تجريم أو تقنين أي إجراءات طبية مثيرة للجدل
السماح للنساء بالإجهاض سواء في الأسابيع الأولى أو الشهور الأخيرة من الحمل، طلب المرضى الميئوس من شفائهم المساعدة الطبية للانتحار “القتل الرحيم”، وجود حكم إعدام في القضايا الجنائية، إجراء تجارب طبية غير معتمدة النتائج، أمر يرجع إلى القوانين الداخلية للولايات والتي تختلف من ولاية لأخرى ولا دخل للرئيس الأمريكي أو المكتب البيضاوي بها.
منع عمليات الترحيل والإبعاد ومنح العفو للمهاجرين غير الشرعيين وفتح الحدود للاجئين
لا يُمكن للرئيس الأمريكي إصدار قرار يقضي بالسماح لمواطن أجنبي بالبقاء داخل الولايات المتحدة الأمريكية إذا ما أصدرت إحدى المحاكم الأمريكية قرارًا بترحيله وإبعاده خارج البلاد.
كما لا يُمكن للرئيس الأمريكي إصدار أمر تنفيذي، يمنع ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، كما فعل الرئيس باراك أوباما، وقامت المحكمة العليا بعرقلة هذا الأمر ورفضه، كما لا يمكن أن يُصدر من تلقاء نفسه قرارًا، يرفع فيه الحد الأقصى المسموح باستضافته داخل الأراضي الأمريكية من اللاجئين الفارين من دول أخرى، دون الرجوع للكونجرس وأخذ موافقة أعضائه.
إضافة أو تقليل برامج الرعاية الاجتماعية
لإجراء أي إصلاح في نظام الرعاية الاجتماعية، يجب أن يُمرر هذا الإجراء كقانون أو كجزء من ميزانية، مما يعني أنه يجب أن يمرّ عبر الكونجرس المكون من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ويمكن للرئيس الأمريكي اقتراح هذه الإجراءات الإصلاحية فقط، سواء كانت إضافة أو تقليل لبرامج الرعاية الاجتماعية، لكن سنّ وتشريع وتنفيذ هذه القوانين، يرجع إلى أعضاء الكونجرس.
إصدار أوامر تنفيذية رئاسية لتطبيق إجراءات حسب أهوائهم
لا يمكن لأي رئيس أمريكي إصدار أمر تنفيذي رئاسي استنادًا إلى سلطته دون أن يكون هذا الإجراء دستوري، حيث يحق للمحكمة العليا إدانة هذا الأمر التنفيذي وإلغائه، كما يحق لأعضاء الكونجرس استجواب رئيس وأعضاء المحكمة العليا في حالة صمتهم على أمر تنفيذي رئاسي غير دستوري.
ومن أشهر الأمثلة على ذلك، ما حدث في خمسينيات القرن الماضي إبان الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأمريكي هاري ترومان، حيث كانت الولايات المتحدة تعاني من أزمة عمل ناجمة عن خلافات مريرة بشأن ضوابط الأجور والأسعار، فأصدر ترومان تعليمات لوزير التجار” تشارلز سوير بالسيطرة على عدد من مصانع الصلب في البلاد وإدارتها، استنادًا إلى سلطته كقائد عام، والتعلل بضرورة الحفاظ على إمدادات الصلب لإنتاج الذخائر لاستخدامها في الحرب في كوريا.
لكن المحكمة العليا وجدت أن إجراءات ترومان غير دستورية، وأقرت ذلك في حكمها عام 1952 في قضية شركة يونج ستون للحديد ضد وزير التجارة تشارلز سيوير، مؤكدة أن قرار ترومان لم يستند إلي أي إجراء تشريعي من قبل الكونجرس، مما تسبب في حرج بالغ للرئيس ترومان آنذاك.
تعديل أو إبطال قانون الرعاية الصحية بأسعار معقولة والمعروف باسم “أوباما كير”
خلال حملته الانتخابية، شن دونالد ترامب هجومًا حادًا على قانون حماية المرضى والرعاية الصحية بأسعار معقولة، المثير للجدل، والذي مرره الرئيس باراك أوباما في 2010، وتم تطبيقه في 2014، والمعروف إعلاميا باسم “أوباما كير”، مدعيًا أنه سيعمل في حال انتخابه رئيسًا، على إلغائه مستندًا في ذلك إلى رفض الجمهوريين القاطع لهذا القانون، لكن الأكيد أنه منذ التصويت بالموافقة على قانون الرعاية الصحية “أوباما كير” وإقرار العمل به، لا يُمكن للرئيس ترامب أو أي رئيس غيره، تعديل أو إبطال العمل بهذا القانون، وأن كل ما يمكنه فعله هو اقتراح مسودة قانون آخر بديل، وتمريره إلى الكونجرس، ليقوم بالتصويت عليه، سواء بالموافقة أو الرفض.
ويرتكز قانون “أوباما كير” على ثلاث ركائز، تقضي الأولى بإلزام شركات التأمين بتقديم تغطية صحية مناسبة لجميع الأمريكيين سواء كانوا مرضى أم في صحة جيدة، والثانية إلزام كل فرد بالحصول على تأمين تحت طائلة فرض غرامة بهدف تغطية الفقراء والمرضى، والثالثة المساعدة الضريبية للسماح لذوي العائدات الفقيرة بالحصول على تأمين صحي.
واستهدف معارضو القانون الركيزة الثالثة التي كان سيؤدي إسقاطها إلى إسقاط القانون.
تغيير أو تعديل الدستور الأمريكي
لا يُمكن أن يتم تعديل أو تغيير الدستور الأمريكي إلا عبر طلب “تعديل دستوري”، الأمر الذي لا يمكن أن يقوم به أي رئيس أمريكي، بل يجب التقدم بالطلب عبر “ولاية” أو عبر “الكونجرس”، ويكون ذلك بعد أن يصوّت ثلثي أعضاء الكونجرس بالموافقة على طلب التعديل، ثم يُحال طلب التعديل بعد ذلك إلى الولايات للتصويت عليها، ويجب أن توافق ثلاثة أرباع الولايات المتحدة على طلب تعديل الدستور.
أي أن طلب “تعديل الدستور” يجب أن يوافق عليه الغالبية العظمى من نواب الولايات وأعضاء الكونجرس، الأمر الذي لم يتم إلا 27 مرة فقط في تاريخ أمريكا.
إعلان الحرب
الكونجرس وحده هو الذي يملك سلطة إعلان الحرب في أمريكا، ولا يمكن لأي رئيس أن يُعلن الحرب أو ينادي بها، لكن يظل له حق رفض شن حرب – بعد موافقة الكونجرس -، عبر الامتناع عن التوقيع على الإعلان.