قبل أكثر من 2000 عام، وقبل أن يعرف التاريخ الجودو والكاراتيه والكونغ فو وسائر الفنون القتالية، ظهرت في شبه الجزيرة الكورية رياضة قتالية تدعى (تاي كيون)، تقوم على استعمال الأقدام والأيدي، ضمن حركاتٍ فنيةٍ منتظمةٍ تهدف للدفاع عن النفس، وقد خلدتها النقوش الأثرية التي اكتشفت على جدران المقابر الملكية الخاصة بشعب (الكوجوريو)، الذي سكن تلك المنطقة في القرن الأول قبل الميلاد، واستمرت تلك اللعبة التي تعتبر الأصل المعتمد لرياضة التايكواندو الحالية، كجزءٍ لا يتجزأ من ثقافة شعوب تلك المنطقة التي توارثتها الأجيال، فمن حضارتي (كوجوريو) و(بايكجي) المندثرتين، إلى حضارة مملكة (شلا) التي استمرت طيلة الألفية الميلادية الأولى، وعرفت ظهور جماعةٍ تدعى (هوا رانج)، وهي مجموعة من أبناء النبلاء والطبقة الحاكمة، حملت على عاتقها مهمة حفظ التراث، من خلال تنظيم عروضٍ دوريةٍ لفن التاي كيون، على أنغام الموسيقى الشعبية الكورية.
ولم يدم الحال طويلًا، فمع تبدل الحكم عام 936م، وانتقاله إلى أسرة (كوريو) التي اشتق منها اسم البلاد (كوريا)، اضمحل الاهتمام برياضة تاي كيون، وحلت مكانها رياضة عسكرية تدعى (سو باك دو)، قبل أن تختفي التاي كيون نهائيًا من الثقافة الشعبية للبلاد إبان حكم أسرة (إي)، الذي بدأ في القرن الميلادي الـ13 واستمر حتى أواخر القرن الـ19، وعرف تحويل الديانة الرسمية للبلاد من البوذية إلى الكونفوشيوسية، مع تبدل الاهتمامات الشعبية وتحولها إلى الأدب والفلسفة والموسيقى، على حساب الفنون القتالية.
ومع تكرار الهجمات اليابانية على شبه الجزيرة الكورية، والتي انتهت باحتلالها رسميًا عام 1910، ظهرت بعض الحركات المناوئة للاحتلال الياباني، والتي عنيت بإحياء التراث الكوري الذي حرص اليابانيون على طمس معالمه، فكانت تدرب أعضاءها سرًا على التاي كيون، وحدث عام 1933 أن تولى أحد مدربي التاي كيون، واسمه هان لي دونغ، مهمة تعليم مبادئ الكتابة والخط لأحد أبناء النبلاء الكوريين، واسمه تشوي هونغ هاي، فلاحظ المعلم شغف تلميذه وحماسه القومي، فأطلعه على سره، وقرر تلقينه فنون التاي كيون، فدربه مدة 4 سنوات، قبل أن يسافر الفتى إلى اليابان لمتابعة دراساته العسكرية، التي أتاحت له فرصة تعلم فنون رياضة الكاراتيه، التي أضافها إلى ما تعلمه على يد معلمه الكوري من فنون التاي كيون، ليبتكر فنًا قتاليًا جديدًا خاصًا به.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، عاد الشاب تشوي إلى بلاده وهو يحمل رتبة ملازمٍ في الجيش الكوري وتابع نضاله السري في سبيل استقلال بلاده عن الاحتلال الياباني، فما كان من السلطات المحتلة إلا أن زجت به في غياهب السجن، الذي بقي فيه حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث أطلق سراحه بعد إعلان استقلال بلاده، وتمت ترقيته بعد سنواتٍ قليلةٍ إلى رتبة عقيدٍ في الجيش، ليتابع الجنرال تشوي نضاله في سبيل إحياء فن تاي كيون من خلال رياضته المبتكرة، والتي قام بتلقينها إلى عددٍ من زملائه عندما كان في السجن، وتابع ما بدأه بعد إطلاق سراحه، حيث عمل على تدريب جنود الجيش الكوري على فنه القتالي الجديد، والذي تم الاعتراف به رسميًا عام 1955، عندما اجتمع الجنرال تشوي مع عددٍ من القيادات السياسية والعسكرية في البلاد، وقرروا اعتماد اسم “تايكواندو” لفنه القتالي المبتكر، وهو مصطلح مشتق من رياضة تاي كيون، ويتألف من 3 مقاطع: تاي وتعني القدم، كوان وتعني قبضة اليد، ودو أي الطريقة أو الأسلوب.
في الـ28 من مايو عام 1973، أثمرت جهود الجنرال تشوي في نشر رياضته عالميًا، عن تأسيس الاتحاد الدولي للتايكواندو WTF، وذلك في العاصمة الكورية سيؤول، بحضور مندوبين عن 35 اتحادًا محليًا، وقد أسفر اجتماعهم الأول عن تنظيم بطولة العالم الأولى للتايكواندو، والتي استضافتها سيؤول أواخر شهر مايو من عام 1973، بحضور 19 دولة، تنافس لاعبوها على لقب وزنين وحيدين في فئة الرجال فقط، وقد انتهت المنافسات بتتويج بطلين من كوريا الجنوبية.
واستمر الاتحاد الدولي بتنظيم بطولة العالم دوريًا كل عامين، وشهدت النسخة الثامنة من بطولة العالم، والتي استضافتها برشلونة عام 1987، بداية إقامة منافساتٍ خاصةٍ بالسيدات، قبل أن تستغل السلطات الكورية إقامة فعاليات الدورة الأولمبية الصيفية في سيؤول عام 1988، من أجل تعريف العالم على رياضة التايكواندو، من خلال إقامة عروضٍ غير رسميةٍ للعبة خلال فترة الأولمبياد، وهو ما تكرر خلال أولمبياد برشلونة عام 1992، قبل أن يتم اعتماد التايكواندو كلعبةٍ رسميةٍ ضمن المنهاج الأولمبي، اعتبارًا من أولمبياد سيدني عام 2000.
وتتضمن فعاليات التايكواندو الأولمبية 8 منافسات، بالمناصفة بين الرجال والسيدات، حيث تتدرج فئات أوزان الرجال ال4 بين 58كغ و80كغ، بينما تبدأ فئات أوزان السيدات من 49كغ وتنتهي عند 67كغ، وتقام المنافسات على حلبةٍ مربعة الشكل، ذات أرضيةٍ مستويةٍ مسطحةٍ طول ضلعها 12م، وبداخلها منطقة اللعب التي يبلغ طول ضلعها 8م، حيث يقف اللاعبان المتباريان، واللذان يرتديان لباس التايكواندو الأبيض المميز الذي يدعى (الدوبك)، ويضعان المعدات الخاصة بوقاية الرأس والصدر والساقين والساعدين والفك والقبضتين، ويقف معهما داخل الحلبة حكم البساط، ويعاونه على أطراف الحلبة 4 قضاةٍ ومسجل وميقاتي، ويترأسهم مدير الحلبة.
ويبدأ النزال الذي يتألف عادةً من 3 جولاتٍ، مدة كل جولةٍ دقيقتان، وتفصل بينها دقيقة للاستراحة، ويحقق الفوز اللاعب الذي يجمع عدد النقاط الأكبر خلال الجولات الثلاث، كما يمكن أن ينتهي النزال قبل ذلك، بطرقٍ أخرى كالضربة القاضية أو عدم التكافؤ أو الانسحاب أو الاستبعاد بسبب المخالفات، حيث يعاقب بخصم النقاط اللاعب الذي يخالف قوانين اللعبة وضرباتها المسموحة، والتي تتيح استخدام ركلات الأقدام نحو الوجه والصدر والرأس، وتمنعها نحو الظهر وأسفل الرأس وتحت الحزام، كما تمنع استخدام قبضات اليدين إلا نحو صدر المنافس أو لأغراضٍ دفاعية.
وإذا ألقينا نظرةً على الأرقام القياسية الخاصة بجميع بطولات التايكواندو العالمية، نجد أن اسم كوريا الجنوبية دائمًا في الصدارة، فأبطالها يتسيدون ترتيب بطولات العالم بفارقٍ شاسعٍ عن أقرب مطارديهم، كما يتصدر الكوريون الترتيب العام لمنافسات التايكواندو الأولمبية، وحتى بطولة كأس العالم للمنتخبات التي انطلقت نسختها الأولى عام 2006، يتربع أبطال كوريا الجنوبية على مقعد صدارة ترتيبها التاريخي.
ويعتبر تشوي يون هو وكيم جي كيونغ، أبرز ما جادت به كورية الجنوبية من أبطال عالميين في التايكواندو، حيث يحمل الأول 4 ذهبياتٍ في بطولات العالم، والثاني 3 ذهبيات، كما تحمل مواطنتهم هوانغ كيونغ سيون ذهبيتين أولمبيتين، ولكن المستغرب أن صاحب صدارة ذهبيات بطولات العالم كفرد، والذي يمكن وصفه بأسطورة التايكواندو عبر التاريخ، هو بطل أمريكي وليس كوري واسمه ستيفن لوبيز، ويحمل في جعبته 5 ذهبياتٍ عالميةٍ أحرزها بين عامي 2001 و2009، إضافةً إلى ذهبيتين أولمبيتين في سيدني 2000 وأثينا 2004.
ولم يقتصر السجل الذهبي لأبطال العالم في التايكواندو على الأبطال الكوريين والأمريكيين، بل كان لأبطالنا العرب نصيب من الغنائم، بدءًا بالنسخة الرابعة من بطولة العالم التي أقيمت عام 1979، وشهدت تتويج المغربي بشير الوزاني ببرونزية وزنه، ومرورًا بالبطل المصري عمرو خيري الذي توج بذهبية وزنه في بطولة عام 1989، ومواطنه تامر حسين الذي نسج على منواله بإحراز ذهبية وزنه في بطولة عام 1997، وانتهاءً ببطولة عام 2013، التي شهدت تتويج أبطالنا وبطلاتنا العرب بـ4 برونزياتٍ وفضيةٍ واحدة، لترتفع الغلة العربية في بطولات العالم للتايكواندو إلى 37 ميداليةً مختلفة، أحرزها أبطال من مصر والمغرب والأردن والبحرين والسعودية وتونس.
أما فيما يخص منافسات التايكواندو الأولمبية، فلم يكن للأبطال العرب أي إنجازٍ يذكر فيها، باستثناء فوز المصري تامر بيومي ببرونزية وزنه في أولمبياد أثينا 2004، ولكن أولمبياد ريو الأخير عام 2016، شهد تسطير تاريخٍ جديدٍ للعرب في التايكواندو الأولمبي، من خلال تتويج البطل الأردني أحمد أبو غوش بذهبيةٍ غاليةٍ، كانت الأولى لبلاد النشامى في تاريخها الأولمبي، إضافةً إلى إحراز التونسي أسامة الوسلاتي والمصرية هداية ملاك برونزيتي وزنهما في الدورة ذاتها، ليؤكد أبطالنا العرب تطور هذه اللعبة في بلداننا العربية، وتفتح انتصاراتهم الباب أمام أجيالٍ قادمةٍ، تسعى لكتابة أمجادٍ عالميةٍ وأولمبيةٍ خالدةٍ، في سجلات هذا الفن القتالي العريق.