ترجمة وتحرير نون بوست
يتوقع الشعب التركي من المسؤولين الأوروبيين أن يقدموا لهم نفس الدعم الذي نالته إسبانيا، لمكافحة الإرهاب خلال ثلاثة عشر عامًا خلت، بهدف محاربة منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية.
ندد البعض من مفوضي دول الاتحاد الأوروبي بقرار المحكمة عقب إلقاء القبض على مجموعة من الممثلين المنتخبين من بينهم زعيمي حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديميرتاش وفيغين يوكسيكداغ، فضلاً عن اعتقال عمدة بلدية ديار بكر غولتان كيشناك، وبعض من النواب الآخرين.
وقد سارع البعض الآخر إلى حث الاتحاد الأوروبي على رفض مقترح تركيا بالانضمام إلى الاتحاد وإلغاء اتفاقية اللاجئين التي من شأنها أن تخفف على نحو فعال من تدفق اللاجئين إلى اليونان عبر الحدود التركية، وتجدر الإشارة إلى أن ردود الأفعال اللاعقلانية التي أعرب عنها الاتحاد الأوروبي عكست حجم الازدراء الذي تضمره الدول الأوروبية إزاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ماذا حدث في إسبانيا؟ أو بالأحرى ماذا حدث لحزب باتاسونا في إسبانيا؟
عندما أقدمت إسبانيا على حظر نشاط منظمة إيتا المسلحة والحد من تنامي نفوذها، كانت آنذاك عضوًا في كل من الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا فضلاً عن تمتعها بممثل في البرلمان الأوروبي وسبعة مقاعد في برلمان إقليم الباسك، ناهيك عن فرض سلطتها عما يقارب ستين مدينة تابعة لهذه المنطقة التي تتمتع بحكم ذاتي.
قبل أن تتخذ السلطات الإسبانية قرار حظر نشاط حزب باتاسونا بشكل دائم، كانت المحكمة العليا قد حكمت بإغلاق صحيفة إيغونكاريا وهي الصحيفة الوحيدة الناطقة بلغة الباسك المحلية، كما ألقي القبض على بقية المدراء التنفيذيين التابعين للمنظمة سنة 2003، وقد شملت حملة الاعتقالات التي شنتها السلطات الإسبانية أخذ الإجراءات الاحتياطية اللازمة ضد إيتا وجميع المنظمات التابعة لها بما في ذلك تجميد الأصول العقارية لحزب باتاسونا وإغلاق الصحف والمجلات الموالية له واعتقال الصحفيين والمخرجين المنتسبين إليه.
لم يعلق الاتحاد الأوروبي عضوية إسبانيا في الاتحاد أو يهدد بطردها منه عقب توخيها لهذه السياسة، بل خلافًا لذلك قد أقر بانتماء حزب باتاسونا إلى منظمة إيتا الإرهابية وأضافها في قائمة المنظمات الإرهابية، وعلاوة على ذلك، أعلن مفوض العدل والشؤون الداخلية في الاتحاد الأوروبي دعمه للحكومة الإسبانية في حربها ضد الإرهاب عندما استنجد الحزب بالاتحاد الأوروبي ليكون وسيطًا في محادثات السلام، التي رفضت من قبل المفوض سنة 2007.
أما في سنة 2009، أي بعد مرور عامين، أفضت تحقيقات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تعنى بالشكاوى المرفوعة إليها بخصوص انتهاك دول الأعضاء لحقوق الإنسان المدنية والسياسية المنصوص عليها في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، إلى تأييد قرار المحكمة العليا الإسبانية والإقرار بأنها لم تنتهك المادة 11 عند اتخاذها لتلك الإجراءات.
تعتبر حقيقة عدم نجاح المحكمة العليا الإسبانية في إدانة باتاسونا بسبب الهجمات التي ارتكبتها منظمة إيتا والتي راح ضحيتها عدد من المدنيين والمسؤولين، مع عجز هذه المحكمة في إدانة هذا الحزب بسبب دعمه للإرهاب من خلال بث أشرطة فيديو موظفة للدعاية لمنظمة إيتا واستعمال العنف لكسب النفوذ السياسي ومنع التعددية السياسية، من الأسباب التي دفعت المحاكم الإسبانية المساندة من قبل الاتحاد الأوروبي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، إلى اعتبارها منظمة إرهابية.
لا يمكن لأي نظام ديمقراطي بأن يسمح لأي سياسي أو جماعات سياسية من الانخراط في الدعاية للإرهاب أو التورط في أنشطة إرهابية، وهذا ما أكده قرار المحكمة العليا الإسبانية، والذي أيدته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بأنه لا يوجد أي حزب سياسي أو منظمة محصنة من المحاكمة القضائية إذا ما ثبت تورطهم في الإرهاب.
هل يعتبر حزب الشعوب الديمقراطي مختلفًا عن حزب باتاسونا الإسباني؟
عاشت الدولة التركية تجارب مريرة على إثر فصلها بين القضية الكردية وأنشطة حزب العمال الكردستاني الإرهابية التي وقعت في تسعينيات القرن الماضي، ومع ذلك فإن حزب العدالة والتنمية، الذي يترأسه رجب طيب أردوغان، قد شهد تحولاً جذريًا في نهجه الرسمي تجاه القضية الكردية سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي.
بالنسبة للشأن الداخلي، اتبعت الحكومة سياسة ديمقراطية منفتحة ساهمت في تمديد نطاق حقوق الشعب التركي الثقافية والسياسية، أما بالنسبة للشأن الخارجي، فقد عملت السلطات التركية على تعزيز علاقاتها السياسية والثقافية والاقتصادية مع الكيانات الكردية في الدول المجاورة، والأهم من ذلك، أنه للمرة الأولى في التاريخ السياسي التركي، تبادر الحكومة علنًا بتمهيد الطريق لمشاورات السلام من خلال وقف إطلاق النار لمدة عامين، انتهت في يوليو/ تموز سنة 2015.
وفي ظل أجواء السلام والمفاوضات التي خيمت على الساحة السياسية التركية، دخل حزب الشعوب الديمقراطي سباق الانتخابات العامة التي نظمت في السابع من شهر يونيو/ حزيران، وعموما يفضل السياسيون الأكراد المشاركة في الانتخابات كأفراد مستقلين نظرًا إلى السقف المفروض على الأحزاب والذي لا يجب أن يتجاوز نسبته 10%، وعلى الرغم من ذلك فإن حزب الشعوب الديمقراطي تمكن من أن يحصل على نسبة 13% من إجمالي الأصوات في جميع أنحاء البلاد، ما مكنه من الحصول على 80 مقعدًا، ليصبح بذلك ثالث أكبر حزب في البرلمان.
ومثلت الأجواء السياسية التي حكمت البرلمان بعد الانتخابات، فرصة ضئيلة لإمكانية تشكيل ائتلاف في البرلمان بين الأحزاب السياسية، الشيء الذي اعتبره حزب العمال الكردستاني فرصة ذهبية للسيطرة على الإقليم من خلال تصعيد العنف وتحقيق مبتغاه في سورية، لا سيما بعد توقع حدوث أزمة في الساحة السياسية التركية، وعلى الرغم من حسابات حزب العمال الكردستاني وتنامي نسق هجماته، فقد أدى فشل الطرفين في تشكيل الائتلاف إلى اكتساب حزب العدالة والتنمية ما يكفي من المقاعد لتشكيل حكومة الأغلبية في انتخابات مبكرة وضم أصوات الأقاليم ذات الأغلبية الكردية.
والجدير بالذكر أن جل الناخبين الأكراد الذين دعموا حزب العدالة والتنمية يقطنون في المناطق التي تقع تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني، حيث تم كسر وقف إطلاق النار، هذا بالإضافة إلى تقلص رصيد حزب الشعوب الديمقراطي من الأصوات بنسبة 3% في كامل أنحاء البلاد في غضون خمسة أشهر.
ويكمن السبب وراء انخفاض حصيلة أصوات حزب الشعوب الديمقراطي وتصنيفه ضمن المنظمات الإرهابية إلى فشله في أن ينأى بنفسه عن أنشطة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، فمنذ أن بدأ حزب العمال الكردستاني في القتال داخل المدن، لم يكتف أعضاء هذا الحزب بدعم الحزب الكردي سياسيًا من خلال تمجيد الإرهاب وتبني بياناته، بل ساعدوه أيضًا عن طريق حفر الخنادق في المدن ووضع متفجرات يدوية الصنع على الطرق من خلال إيفاد جرافات البلديات التابعة له.
بالنسبة لإسبانيا، فإن عملية حل حزب باتاسونا وإقصائه من البرلمان وقعت بعد أن ثبتت إدانة منظمة إيتا في الهجوم الذي شنته على سانتا بولا سنة 2002، والذي أدى إلى مقتل اثنين من المدنيين بينهم طفلة تبلغ من العمر ست سنوات.
أما بالنسبة للعمليات التي نفذها حزب العمال الكردستاني، بما في ذلك هجمات السيارات المفخخة، فهي لم تثبت تورط حزب الشعوب الديمقراطي، ومن العلامات التي تشير إلى رفض هذا الحزب إدانة حزب العمال الكردستاني، إعراضه، في شباط/ فبراير سنة 2016، عن توقيع إعلان البرلمان باتهام الحزب الكردي بالهجوم الذي ارتكبه الفرع التابع له باستخدام سيارة مفخخة أسفرت عن مقتل 28 مدنيًا في المنطقة الوسطى من أنقرة، بالقرب من البرلمان، وقد تبعت واقعة رفض الحزب للتوقيع حضور أعضائه لجنازة منفذ العملية الإرهابية، ما أثار غضب الرأي العام التركي.
وقد وافقت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالإجماع على إغلاق مقر حزب باتاسونا باعتبار أنه يشكل تهديدًا على النظام الديمقراطي من خلال التزامه بالبيانات الصادرة عن منظمة إيتا، وهذا لا يختلف كثيرًا عن موقف زعيم ثالث أكبر حزب سياسي في البرلمان، ديميرتاش، الذي دعم مقترح إضفاء الشرعية على “الحكم الذاتي الديمقراطي” الذي أعلن عن إرسائه حزب العمال الكردستاني عندما كسر وقف إطلاق النار.
وتتمثل وظيفة الأحزاب السياسية في الأنظمة الديمقراطية في دعوة المجتمعات إلى تعزيز المسارات الديمقراطية، وتمثيل دوائرهم الانتخابية في العمليات الديمقراطية لتوفير الأمن والنظام، وليس الدفاع عن المنظمات الإرهابية وتقمص دور المتحدثين باسمها.
اتخذ القضاء التركي، تمامًا مثل نظيره الإسباني، الاحتياطات اللازمة ضد المنظمات الإرهابية وضد أي منظمات مدنية أو حركات سياسية تدعم علنًا الجماعات الإرهابية، وللقيام بهذه المهمة قامت السلطات التركية برفض تسليط العقاب الجماعي كما فعلت إسبانيا، والتركيز فقط على التحقيقات التي تثبت صحة تورطهم من عدمه، وهذا لا يدل فقط على التزام تركيا بالقوانين بل يدل أيضًا على إيمانها بالعملية الديمقراطية.
وتعتبر تركيا دولة ديمقراطية ناضجة، كأي بلد عضو في الاتحاد الأوروبي، يسمح لأي حزب سياسي بأن تكون له مقاعد في البرلمان، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على مبدأ التعددية السياسية في تركيا وتشريكها للأقليات، وخير مثال على ذلك انتخابات حزيران/ يونيو التي أتاحت الفرصة لحزب الشعوب الديمقراطي من نيل مكان في البرلمان.
ومن البديهي ألا تطرح عديد من الأسئلة عن هذا الموضوع، فمكافحة الإرهاب تتطلب تعاونًا دوليًا، فقد أيد المسؤولون الأوروبيون، قبل ثلاثة عشر عامًا، جهود إسبانيا لتفكيك عناصر المنظمة الإرهابية التي دخلت ساحتها السياسية، وفي المقابل تتوقع تركيا، في الوقت الحالي، نفس الدعم في حربها ضد جماعة مدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية في الاتحاد الأوروبي، وكلها أمل أن يكون هذا الدعم بنفس الإخلاص والالتزام تجاه نظامها الديمقراطي.
المصدر: صحيفة ديلي صباح