لعله ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال؛ حيث إنه – بأبسط قواعد المنطق العقلي – تبقى النسبية تلعب دورها “الشيطاني” بالفعل في عرقلة الإجابة عن هذا السؤال.
فما بين عالم عربي يحترق، وبين مهاجرين وفقراء تمتعوا بمنجزات عهدتَيْه الرئاسيتَيْن في الداخل الأمريكي، في مجال التأمين الصحي والضمان الاجتماعي؛ يتأرجح أوباما بين الملاك والشيطان، بحسب نافذة النظر والرؤية.
في البدء؛ كان انتخاب باراك حسين أوباما، رئيسًا للولايات المتحدة، في حد ذاته، علامة مهمة على تحولات كبيرة في الولايات المتحدة، وبالتالي؛ سوف يكون لها مردود على المستوى الدولي.
فأوباما ليس أول أسود فقط يصل إلى هذا المنصب، بل إنه أول رئيس أمريكي من أب غير أمريكي؛ حيث كان أبوه، باراك أوباما الأب، من كينيا مباشرة، ونشأ مسلمًا كذلك، قبل أن يتحول إلى الإلحاد بحسب باراك أوباما الابن، الذي قضى أيضًا أعوامًا أربع من حياته، في إندونيسيا، أكبر بلد مسلم من حيث تعداد السكان في العالم، مع والدته وزوجها الإندونيسي، في الفترة ما بين العام 1967م، والعام 1971م.
روافد تشكيل الشخصية
بالرغم من أن هذا الموضع من الحديث ليس مخصصًا لتناول السيرة الذاتية للرئيس الأمريكي؛ إلا أنه من المهم إلقاء نظرة على الروافد الرئيسية التي شكلت شخصية أوباما، وكانت وراء الكثير من سياساته في الداخل، وفي الخارج، وبالتالي فهم حقيقة الإجابة على سؤال: أوباما ملاك أم شيطان؟!
في هذا الإطار لعبت أربعة روافد دورها في تشكيل شخصية الرئيس الأمريكي الرابع والأربعين، الأول، هو جذوره المتنوعة، وحياته التي شكلت منه – بحسبه – أممًا متحدةً مصغرة؛ حيث والدته في الأصل ليست أمريكية، بل هي من جذور إنجليزية، بينما والده كان كينيًّا كما تقدم، بالإضافة إلى أنه عاش من عمره سنين في إندونيسيا، قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة مجددًا.
ينبثق من ذلك، الرافد الثاني، وهو نشأته في هونولولو، عاصمة ولاية هاواي؛ حيث عاش بداياته في وسط مجتمعي شديد التنوع الفكري والثقافي والعرقي، بجانب جولته إلى مسقط رأسه الأول في كينيا، والثاني في إندونيسيا، قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة مجددًا في مطلع السبعينيات كما تقدم.
أوباما خلال زيارته الوحيدة إلى مسقط رأسه في كينيا
ونقل عنه الكاتب الأمريكي، ريتشارد سيرانو، في الكتاب الذي وضعه عن أوباما، قوله: “إن الفرصة التي سنحت لى في هاواي للتعايش مع مجموعة متنوعة من الثقافات في جو من الاحترام المتبادل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من نظرتي للعالم، وأساسًا للقيم التي أعتز بها”.
ولقد كان لذلك فيما بعد، أبلغ الأثر في سياساته تجاه المهاجرين والأقليات الدينية والعرقية؛ حيث يوجد في الولايات المتحدة الآن، ثلاثة ملايين مقيم غير شرعي، بجانب ملايين آخرين وفدوا إلى الولايات المتحدة في عهده، واستفادوا من برامجه في مجال التأمين الصحي والضمان الاجتماعي، وأهمها برنامج “أوباما كير” الذي سوف أعلن خلفه الجمهوري المنتخب، دونالد ترامب، أنه سوف يلغيه بحلول العام 2018م!
الرافد الثالث، هو دراسته للعلوم السياسية، وخصوصًا جناحيها الأهم، العلاقات الدولية والقانون؛ حيث درس العلاقات الدولية والقانون في مدرسة هارفارد للقانون، بدءًا من العام 1988م.
في حينه، تم اختياره كرئيس تحرير لمجلة القانون في جامعة هارفارد قبل نهاية العام الأول من دراسته، ورئيسًا لمجلس إدارتها في السنة التالية، وكانت موضع اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية على المستوى الاتحادي ككل، نظرًا لكونه أول رئيس لمجلس إدارة المجلة، من أصول أفريقية، على أهميتها على مستوى الولايات المتحدة.
وتلقى تدريبه بعد ذلك في مجال المحاماة، في أكثر من مكان، كان من بينها شركة سيدلي أوستين للمحاماة بشيكاغو، بولاية إلينوي.
وكان ذلك هو المكان الذي التقى فيه، في يونيو من العام 1989م، زوجته الحالية ميشيل روبنسون، التي صارت بعد ذلك ميشيل أوباما، التي كانت تشرف على تدريبه.
وكان ذلك هو المدخل الذي دخل منه عالم السياسة؛ حيث عمل محاميًا دستوريًّا لفترة، قبل أن يدخل المجال السياسي العام، في مبدئ النصف الثاني من التسعينيات الماضية.
ففي العام 1996م، دخل مجلس شيوخ ولاية إلينوي؛ حيث طرح برامج لإصلاح أخلاقيات التشريعات والقوانين في مجال الرعاية الصحية، وهو اهتمام بدا مبكرًا لديه كما هو واضح في سياساته الرئاسية بعد ذلك في هذا المجال، كما دعم قانون لزيادة الضرائب الائتمانية للعمال ذوي الدخل المنخفض، والتفاوض على إصلاح نظام الرعاية، والتشجيع على زيادة الإعانات المقدمة لرعاية الأطفال.
وفي آخر دورة له في عضوية مجلس شيوخ الولاية، أصبح، في يناير 2003م، رئيسًا للجنة الخدمات الصحية والإنسانية في مجلس شيوخ الولاية، واستطاع أن يحصل بنشاطه في هذا الاتجاه على الأغلبية للديمقراطيين في المجلس، بعد عشر سنوات في مقاعد الأقلية.
وفي تلك الفترة، قام بالتنسيق بين الحزبَيْن الكبيرَيْن في الولايات المتحدة، لإصدار تشريعات لرصد التمييز العنصري من جانب الشرطة، كما جعل إلينوي أول ولاية أمريكية تقوم بتصوير فيديو لعمليات الاستجواب في التحقيقات الخاصة بجرائم القتل، مع قيادته لأنشطة ناجحة وفعالة بالتعاون مع جهاز الشرطة في الولاية من أجل إصلاح عقوبة الإعدام، وهو كان السبب المباشر في انتخابه لعضوية مجلس الشيوخ الأمريكي على المستوى الاتحادي.
وعندما دخل مجلس الشيوخ الأمريكي الاتحادي، في انتخابات نوفمبر من العام 2004م، سعى بجانب تبنِّيه لهذه المنظومة من الإصلاحات في المجال الاجتماعي والتشريعي، إلى تعزيز قوانين الشفافية في إنفاق المؤسسات الاتحادية، بالتعاون مع أعضاء جمهوريين وديمقراطيين مجلس الشيوخ، من بينهم توماس كاربير، وتوم كوبيرن، وجون ماكين.
وطيلة الفترة التي تلت تخرجه، ثم عضويته في مجلس الشيوخ في ولاية إلينوي، عمل مستشارًا للحقوق المدنية في شيكاغو، كما قام بتدريس مادة القانون الدستوري في كلية الحقوق بجامعة شيكاغو في الفترة من العام 1992م، وحتى العام 2004م، عندما حاز عضوية مجلس الشيوخ في عموم الولايات المتحدة.
وتحولت سياساته ومواقفه كلها، خلال عضويته في مجلس شيوخ ولاية إلينوي، أو خلال عضويته في مجلس الشيوخ الفيدرالي عن ذات الولاية، إلى برامج أساسية له خلال عهدتَيْه الرئاسيتَيْن، وكانت ضمن برنامجه الذي قاده للبيت الأبيض للمرة الأولى، في العام 2008م.
أما الرافد الرابع الذي شكل شخصية، ومن ثَمَّ سياسات أوباما الرئيس بعد ذلك، هو الرافد الكنسي.
فأوباما الذي تم تعميده متأخرًا في كنيسة “الثالوث المسيح المتحدة”، في العام 1988م، أي وهو في عمر السابعة والعشرين، كان ناشطًا كنسيًّا، وعمل على خدمة المجتمع من خلال نشاطه الكنسي.
وكما كان ولا يزال “أممًا متحدة” عرقية صغيرة؛ فإنه عمل ناشطًا في أكثر من كنيسة، بين ما هو بروتوستانتي، وما هو كاثوليكي.
ففي مطلع الثمانينيات، عمل منظِّمًا اجتماعية مع الكنيسة السوداء، وهي كنائس مسيحية بروتستانتية معمدانية، ظهرت في الأصل لخدمة التجمعات الدينية التي تقطنها غالبية من أصول أفريقية في الولايات المتحدة، وتأسست أكثر التجمعات والكنائس السوداء قبل عام 1800م، بجهود عبيد سود محررين في ولايات فيلادلفيا، وبنسيلفانيا وجورجيا، وكانت أول كنيسة معمدانية سوداء، قد ظهرت في ولاية كنتاكي، وكانت ثالث أقدم الكنائس في الولايات المتحدة بأكلمها؛ حيث تأسست في العام 1790م.
ثم، وفي الفترة ما بين يونيو 1985م، وحتى مايو 1988م، عُين مديرًا لجمعية اجتماعية كانت تُعرف بـ”مشروع المجتمعات النامية” (DCP)، وهي تابعة للكنيسة الكاثوليكية، وتتكون من ثمانية أبرشيات كاثوليكية تقع في منطقة روزلاند جنوب شيكاغو، حتى تعمَّد في كنيسة “الثالوث المسيح المتحدة”، كما تقدم، في العام 1988م.
وكانت هذا الفترة الخصبة، الثمانينيات، والنصف الأول من التسعينيات، هي الفترة التي تشكلت فيها شخصية أوباما الرئيس فيما بعد، بما في ذلك برامجه في مجالات الإصلاح التشريعي والاجتماعي.
أوباما الشيطان!
لعبت كل هذه الخلفيات والطبائع الذاتية دورها في تشكيل شخصية ذات طبيعة انفتاحية شجاعة بالفعل في إقدامها على إدخال إصلاحات ذات طابع قيمي ديمقراطي، في مجالات عدة.
وربما كان يمكن أن يكون ذلك ناجحًا في المجالات الاجتماعية والتشريعية، داخل الولايات المتحدة، حتى ولو كان الأمر في بعض الأمور ذات الحساسية، مثل رفع مستوى الضرائب على الشركات الرأسمالية الكبرى، أو تخفيف قيود السرية على اتصالات البيت الأبيض، وتعزيز الشفافية في الإنفاق الحكومي؛ إلا أنه في مجال السياسة الخارجية؛ لا يمكن أن ينجح، وهو ما حوَّل أوباما إلى شيطان!
فسياسات في هذه المجالات، اتَّسقتْ مع طبيعة المجتمع الأمريكي، وكانت تتماهى مع مطالب شرائح كبيرة من المجتمع الأمريكي، ودعمته مؤسسيًّا، من خلال مجلس الشيوخ، ومن خلال حزبه وأطره، وشعبيًّا ومن خلال صندوق الاقتراع الذي يعني مشروعية كل ما يقوم به، بناء على تمثيليته لشريحة معتبرة من المجتمع الأمريكي، مع تبنيه إصلاحات جوهرية متفق عليها من المجموع الأمريكي، لدرجة أنه، وخلال عضويته في مجلس شيوخ ولايته، ومجلس الشيوخ الاتحادي، نال تأييد ودعم الجمهوريين في كثير من هذه الإصلاحات.
إلا أن أوباما وقع في فخ التعميم، وهو خطأ في مجال السياسة والعمران بشكل عام، فما يمكن تطبيقه في بيتك؛ لا يمكن تطبيقه في بيت غيرك، هذا في البيوت، فما الحال في سياسات تمس مصالح حكومات وأنظمة وشعوب، تختلف كليًّا في دينامياتها، وفي دينها، بل وفي فهمها للأمور من الأصل، عن الولايات المتحدة.
فالدعوات إلى الإصلاح والتغيير، والانفتاح، الذي وصل إلى مستوى المغامرة في بعض الأحيان، قد يصلح في المجتمع الأمريكي، المغامر بطبعه، والقائم على الانفتاح من الأصل، ولكنه لا يجوز بالمطلق أن يكون قانون أو منطق سياسات في مجتمعات محافظة، أبوية، ولا تزال في بداية سلم نهضتها الحضارية من الأصل، بعد قرون طويلة من الاستعمار الذي بلبل هويتها وتفكير شعوبها.
وقف أوباما أمام منبر جامعة القاهرة لكي يخاطب العالم العربي والإسلامي، في العام 2008م، وبعد ذلك بعامَيْن أو ثلاثة فقط، كان العالم العربي يشتعل بالحروب الطائفية والأهلية، وشهدت عهدة أوباما تفكك ثلاث بلدان عربية، هي سوريا واليمن وليبيا، مع اختفاء مصر وتونس كفاعلَيْن إقليميَّيْن، وانزواء دول كبيرة مثل الجزائر والمغرب خلف حدودها، اتقاءً لمشكلات أمنية وسياسية في الجوار، ولاستيعاب مشكلات داخلية تهدد بنية الدولة والمجتمع.
أوباما أمام جامعة القاهرة أعلن تدشينه لعهدة جديدة للعلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي وكانت النتيجة حرائق لم تنطفئ بعد ولا يبدو أنها سوف تنطفئ!
والطريف أن العرب يوجهون اللوم للرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش الابن، بسبب أن سياساته قادت إلى تفكيك العراق، وفوضى إقليمية انحصرت في داخل حدود هذا البلد، فكيف سوف يكون الموقف من أوباما الذي تتحمل إدارته – بالمعيار الموضوعي – مسؤولية الأزمات الحالية في المنطقة، لمجرد أنه سعى – بنفس رؤاه وأدوات تعامله داخل المجتمع الأمريكي – لتطبيق رؤاه في الانفتاح وتحقيق الديمقراطية وجلب الحرية للشعوب.
فلا خلاف على مبدأ الثورة ضد الظلم والطغيان، ولكن لابد لنجاحها، وتفادي الخراب الناجم عن العشوائية في مثل هذه الأمور المصيرية؛ أن يتم أخذها بقوانينها.
هذا الحديث يحمِّل أوباما بوصفه رئيس أكبر دولة في العالم، مسؤولية ما جرى في العالم العربي، بافتراض كذلك حُسن النية في سياساته ومواقفه، ولا يفترض نظرية المؤامرة التي يلجأ إليها البعض – والكاتب منهم – في وضع نموذج تفسيري للخراب الراهن في العالم العربي.
فلن نفترض أن دوائر بعينها داخل الولايات المتحدة، تمثلها أجهزة الاستخبارات والأمن القومي، والمَجْمَع الصناعي – العسكري النافذ، وقوى المحافظين الجدد، وهي موجودة وظهرت في الأصل داخل الحزب الديمقراطي الذي يمثل الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، خلاف الشائع، بأن الجمهوريين هم من يمثلون هذا التيار، وأنه نشأ فيهم؛ قد سعت إلى توظيف الثورات الشعبية العربية ضمن مشروع الفوضى الهدامة.
ولن نقول إن ترْكَ الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلنطي “الناتو”، لليبيا بعد إسقاط نظام العقيد معمر القذافي عسكريًّا، من دون دولة، مجرد مؤامرة ضمن هذا السياق، ولا أن تُترك سوريا قيد حالة الحرب، حتى قُسِّمت فعليًّا، وأصبحت بؤرة قلق أمني للعالم بأسره.
أوباما “شيطان” وفق هؤلاء باعتبار أن ما يجري حاليًا من روافد السياسة الأمريكية
سوف نفترض فقط أن أوباما بخلفياته وروافده السابقة، سعى إلى سياسات خارجية تتفق مع نظرته للعالم، بأن يكون عالمًا منفتحًا ديمقراطيًّا حرًّا.. ولكن بأية أدوات وسياسات؟!..
هنا فقط سوف نشير إلى نقطة شديدة الأهمية تبرز خطأ أوباما – “غير المقصود” ربما – في تقييم الأمور في الشرق الأوسط.
فمن بين ما جاء في برنامجه في عهدته الرئاسية الأولى، كان الانسحاب الكامل من العراق وأفغانستان، وإغلاق معتقل جوانتنامو، ولكن كيف الوضع الآن؟!.. الوضع أن القوات الأمريكية في العراق زادت بمقدار خمسة آلاف، وكذلك في أفغانستان، بينما جوانتنامو لا يزال مفتوحًا.. فلماذا؟!
السبب هو اعتبارات الأمن القومي التي طرحها عليه الجنرالات العاملون على الأرض، في البنتاجون وفي أجهزة الاستخبارات الأمريكية المختلفة؛ فهؤلاء أفهموه أن ما يصح في مجال تشريع البرامج الصحية من رؤى ومنطلقات؛ لا يجوز في ملفات مرتبطة بعقيدة الآخرين، وبالتالي؛ فإن الانفتاح في ملفَّيْ العراق وأفغانستان، سوف يهدد الأمن القومي الأمريكي.
وهنا نزل أوباما على رأي جنرالاته، وقادته الأمنيين والاستراتيجيين.. فالسؤال إذًا: لماذا لم ينصحه هؤلاء بالمثل بعدم دعم حالة الفوضى التي تلت الربيع العربي في المنطقة؟!، وإذا كانوا قد نصحوه؛ فلماذا لم يستجب لهم؟!، أم أن الأمر مؤامرة بالفعل؟!..
وإلى حين الإجابة على هذه الأسئلة؛ سوف يبقى أوباما متأرجحًا بين الملاك والشيطان، وعند الله تعالى، يقين الجواب، وسوف نعرفه يومًا ما!