ترجمة وتحرير نون بوست
واجهت عائلة أسامة حسن خياراً صعباً حينما بدأ جسمه يتضاءل شيئاً فشيئاً؛ حيث كانوا مخيرين بين إنفاق الأموال القليلة التي يملكونها من أجل أخذه إلى المستشفى لتلقي العلاج، أو شراء الطعام لباقي أفراد العائلة، فما كان من العائلة إلا أن اختارت شراء الطعام.
كان أحمد صادق يراقب حفيده الضعيف، الذي كان متكئاً على سرير خشبي ويحدق بدهشة في السماء الرمادية. وقد أثّر المرض في حفيده إلى أن ذابت أسنانه، وأصبح ذراعاه هزيلين مثل العصا، كما أنه فقد القدرة على المشي. وقال صادق: “لا يوجد شيء يمكننا القيام به لمساعدته، لكنني متأكد من أنه لن يموت”.
ويواجه الأطفال قسوة البرد في كل يوم يقضونه في مناطق اليمن الريفية، والتي يقطنها ثلثي سكان البلاد. كما يضطر الآباء لاتخاذ قرار بين إنقاذ أطفالهم المرضى أو الاعتناء بباقي أفراد العائلة، كي لا يكونوا عرضةً للإصابة بالمرض. وتوجد في المقابر الواقعة شمال غرب القرى الفقيرة جثث الأطفال الذين لقوا حتفهم في الآونة الأخيرة، بسبب الجوع والأمراض التي كان من الممكن وقايتهم منها، بالإضافة إلى أنه تم دفن العديد منهم في مقابر مجهولة دون إبلاغ السلطات.
يتم أخذ الأطفال المحظوظين إلى المستشفيات على الرغم من صعوبة الوصول إليها بسبب الطرق المقطوعة، وهو ما يتسبب غالباً في إفلاس هذه العائلات التي تنفق كل أموالها من أجل تقديم الرعاية الطبية لأبنائها. ثم يعود الأطفال إلى نفس الظروف السيئة التي تسببت فيها الحرب، والتي تجعلهم يواجهون الفقر وسوء التغذية.
لقد اجتاح الجوع أفقر دولة في منطقة الشرق الأوسط، منذ انتفاضة الربيع العربي في سنة 2011، التي تسببت في الإطاحة بالرئيس علي عبد الله صالح، كما أن الحرب الأهلية المستمرة منذ 20 شهرا جعلت البلاد تسير نحو المجاعة.
مكّن النظام الصحي وشبكات الإغاثة الاجتماعية من إنقاذ العديد من الأطفال قبل أن تذبل أجسادهم البريئة، في الوقت الذي تواجه فيه العديد من المنظمات الدولية العديد من العقبات بما في ذلك القصف الجوي من قبل قوات التحالف بقيادة السعودية، بالإضافة إلى العراقيل التي يفرضها المتمردون الحوثيون الذين يسيطرون على العاصمة صنعاء والميناء الرئيسي، الذي يقع شمال محافظة الحديدة اليمنية.
وقد ذكرت منظمة اليونيسيف أن 370 ألف طفلاً يمنيا يواجهون الموت بسبب سوء التغذية، في حين أن مليوني شخص في حاجة ماسة للمساعدة. كما قالت رئيسة منظمة “العمل ضد الجوع” الدولية في اليمن، إيرين هاتشينسون إنه: “يوجد هنا جيل كامل في خطر، نحن نشهد أسوأ أزمة تمر بها اليمن على الإطلاق، وهو ما يجعل الاحتياجات تتزايد يوما بعد يوم”.
ولد الطفل اليمني أسامة قبل اندلاع الحرب في اليمن بـستة أشهر، وقد شاهد العالم لأول مرة من داخل حاضنة، وكان والده يعمل في المملكة العربية السعودية كعامل، مثل عشرات الآلاف من متساكني محافظة حجة التي تقع على الحدود اليمنية السعودية، ولم تكن العائلة تملك المال الكافي لأخذ أسامة إلى المستشفى.
استولى المتمردون الشماليون المعروفون باسم الحوثيين على العاصمة في آذار/مارس سنة 2015، وأجبروا الرئيس عبد ربه منصور هادي على التخلي على السلطة، مما تسبب في تدهور أوضاع البلاد. فقامت المملكة العربية السعودية والعديد من دول الخليج بالمشاركة في هذا الصراع من أجل إعادة الرئيس إلى مكانه، وذلك بالتعاون مع وزارة الدفاع الأمريكية التي قامت بتوفير الأسلحة والاستخبارات وغيرها من أشكال الدعم.
سيطر المتمردون الموالون لعلي عبد الله صالح على شمال غرب البلاد، في حين أن العديد من المناطق جنوب وشرق البلاد تخضع لسيطرة القوات التي تدعمها حكومة عبد ربه منصور هادي. وقامت الجماعات الإسلامية المتطرفة، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، بالسيطرة على المناطق التي لا تخضع لسيطرة الحكومة أو المتمردين.
لا يوجد شيء يمكننا القيام به لمساعدته، لكنني متأكد من أنه لن يموت
ولم تلق اليمن دعماً إلا من بعض وكالات المعونة في بني سيفان وغيرها من المناطق النائية، كما تم تدمير المستشفيات بفعل الغارات الجوية. وأدى تدهور الاقتصاد اليمني إلى انعدام فرص الشغل، بالإضافة إلى تشريد أكثر من 3 ملايين شخص، نصفهم من الأطفال.
ومع إغلاق الحدود مع السعودية، لم يستطع والد أسامة العودة إلى اليمن، حيث يعيش أسامة مع أمه وأخوته الثلاثة، بالإضافة إلى عمه وجده و20 فردا آخر من أسرته. وقال صادق، الذي يعمل في بيع الحبوب: “هذه السنة أكثر صعوبة من السنة الماضية، لأن كثيرا من الناس لم يعودوا قادرين على تحمل نفقات شراء الحبوب، وهم يعانون مثلنا”.
بدأ جسد أسامة بالتضاؤل هذا العام، وأصبح غير قادر على تناول الأطعمة المغذية مثل الفواكه والخضروات، وهو ما جعل عائلته تطعمه وجبة من حليب الماعز والبسكويت. كما ساهمت المياه غير النظيفة في زيادة تدهور صحته، وقال صادق أن “ثلاثة أطفال ماتوا في قريتهم بسبب الجوع”.
وقد واجهت بعض العائلات أيضا في بني سيفان وضعا مماثلا، حيث قام فارس الشميري قبل أربعة أشهر بدفن ابنته سماح التي تبلغ من العمر تسعة أشهر في مقبرة بالقرب من منزله. وقال الشميري: “لقد توفي العديد من الأطفال بسبب المجاعة، وتم دفن العديد من الأطفال في ذلك المكان، وكانت أعمارهم تتراوح بين شهرين وستة أشهر”.
تواجه البلاد العديد من المشاكل الاقتصادية بسبب الحوثيين، كما قامت الأمم المتحدة خلال هذه السنة، بمناشدة الجهات المانحة من أجل تقديم الدعم إلى اليمن. وفي هذا السياق قال منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، جيمي ماكغولدريك: “تواجه اليمن تعتيماً إعلاميا كبيراً، كما أنها لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه. ونحن لا نملك طائرات دون طيار لنبين الدمار الذي حل بالبلاد، كما أننا لا نملك كاميرات تعمل سبع أيام في الأسبوع على مدار 24 ساعة، مثل تلك التي وضعتها قناة بي بي سي في الموصل”.
استغرق وصول أسامة إلى أقرب عيادة حكومية ساعة، بعد أن أخذه عمه في رحلة خطرة على سيارة أجرة هي عبارة عن دراجة نارية. وقد فوجئوا إثر وصولهم بعدم وجود طبيب لخدمة سكان الحي الذين يبلغ عددهم قرابة 70 ألفاً، كما كانت خزائن الأدوية والإمدادات الطبية فارغة.
وما زاد الأمر سوءً هو أن المساعدات التي قدمتها اليونيسف، والتي تتمثل في عجينة الفول السوداني، كانت قد نفذت. وأشار بسمارك سوانجين، المتحدث باسم منظمة اليونيسف، إلى أن الحوثيين عرقلوا عملية وصول المساعدات لعدة أسابيع. وأضاف أن العديد من المرافق الصحية في المناطق الشمالية والساحلية تواجه نفس المأزق، وقد بقيت العديد من المستلزمات الضرورية في البلدان المجاورة لعدة أشهر في انتظار موافقة من الحوثيين، وهو ما أكده أحد المسئولين عن المساعدات الغربية، والذي أكد أيضا أن المتمردين يسعون للسيطرة وتوجيه تدفق المساعدات.
وذكر مسئول رفيع المستوى في الأمم المتحدة، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لتجنب توتر العلاقات مع الحوثيين، أن “اليمن يواجه نوعين من الحصار؛ حصار بسبب التحالف السعودي، والذي أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي، كما إننا نجد داخل هذا الحصار موجات من الصراعات المعقدة بين الحوثيين والحكومة. وهو ما يجعل المجهودات التي تقوم بها العديد من المنظمات غير كافية لمساعدة المتضررين من الأزمة، بالإضافة إلى أن الحكومة لم تتخذ إجراءات عاجلة لإنهاء الأزمة”.
وقد نفى محمد البخيتي، وهو متحدث حوثي، هذا الإدعاء حيث ألقى باللوم على التحالف الذي تقوده السعودية، مشيراً إلى أنها تعيق دخول العديد من الأدوية إلى البلاد وتقوم بانتقاء ما تسمح له بالدخول، في حين اتهم التحالف الحوثيين بأنهم سبب المشاكل الإنسانية في اليمن.
وتواجه العيادة الحكومية العديد من المشاكل حيث وصل خلال شهر واحد 116 طفلا تحت سن الخامسة يعانون من سوء التغذية، 17 طفلاً منهم قدموا من بني سيفان. ونذكر منهم وداد، التي تبلغ من العمر أربع سنوات، والذي جلبتها والدتها، زهرة ميكشا، التي أوضحت أن عائلتها تعاني الفقر لأن زوجها لم يجد عملا كما أن العائلة تتغذى فقط على الحليب.
ونصحت العيادة عمَ أسامة بأخذه إلى مركز للتغذية العلاجية في المستشفى الحكومي الرئيسي في مدينة حجة، عاصمة المقاطعة، إلا أن الرحلة ستستغرق ثلاث ساعات بالسيارة، كما أنها ستكلف العائلة 50 دولار، وهو مبلغ مشط في بني سيفان. وبعد مدة وجيزة، اتخذ جدُ أسامة قراراً يتمثل في إنفاق المال الذي تملكه العائلة من أجل إطعام أفراد العائلة على غرار شقيق أسامة الذي يبلغ من العمر أربعة سنوات والذي كان يعاني من سوء التغذية إلى أن تحسنت حالته الصحية. وقال صادق: “هذه مشيئة الله، ولا يمكنني فعل شيء لأجلهما”.
لا توجد ضمانات حول نجاة الأطفال، حتى في حال تم أخذهم إلى المستشفى. وقام علي حميت وزوجته، اللذان يعيشان على بعد أقل من ميل من بني سيفان، بأخذ ابنيهما ريان، البالغ من العمر خمس سنوات والذي يعاني من مشاكل سوء التغذية، إلى مستشفى حجة. وتمكن ريان من استعادة شهيته في ظرف عشرة أيام بفضل المكملات الغذائية والأدوية، إلا أنه بدأ يفقد الوزن بسرعة عند عودته إلى قريته بسبب ظروف عائلته التي لا تستطيع إطعامه سوى الماء والحليب والشاي والخبز.
وصرح والد ريان، الذي كان يعمل عامل بناء قبل الحرب، أنه لم يجد عملاً منذ بداية الحرب، وأنه اضطر إلى اقتراض 150 دولاراً من أجل أخذ ابنه إلى المستشفى، مضيفا: “أنا لا أملك المال لإعادته إلى المستشفى، لذلك أنا مضطر إلى تركه في المنزل وتفويض أمري إلى الله”.
ولن يتمكن عبد الفتاح بعشمي وزوجته من رؤية ابنهما الوحيد نبيل وهو يمشي أو يتكلم مجدداً، فقد كان نبيل يعاني منذ ثمانية أشهر من مشاكل صحية بسبب سوء التغذية حيث بدأ يفقد وزنه، كما أنه رفض الرضاعة، ليتم نقله إلى نفس العيادة التي أخذ إليها أسامة، وهو الآن بين الحياة والموت. وتوفي الطفل ريان منذ شهر، وبقي عبد الفتاح، الذي يعمل كعامل ويتقاضى ما بين دولار وثلاثة دولارات يومياً، مهتماً بـ 18 فرداً من عائلته، ما دفعه لاقتراض 650 دولاراً من أجل إطعامهم.
وقالت أم ريان
“كان ابني عبارة عن جلد وعظم، لم يعش سوى 14 شهراً ليموت بين ذراعي”.
وتم دفن نبيل في مقبرة قريبة من قريتهم، أين تم دفن ثمانية أطفال آخرين هذا العام. وتمت تغطية تكاليف جنازته من المال الذي اقترضه والده.
المصدر: واشنطن بوست